مختارات من القصص الإنجليزي
مختارات من القصص الإنجليزي
اصناف
ولم يتسع الوقت لتأمله، ولكني أذكر أن بياضه لم يكن ناصعا، بل أقرب إلى السمرة، وأن عينيه كانتا حمراوين داكنتين، وعلى رأسه وظهره شعر كالكتان. ولكنه، كما قلت، كان أسرع من أن يتسنى لي تدبره فلست أستطيع حتى أن اقول إنه كان يجري على أربع، أو على اثنتين فقط، وبعد أن وقفت لحظة التمسته بين الأنقاض التي اختفى في ظلها، فأخطأته في أول الأمر ولكني بعد قليل وقعت على ما يشبه فوهة بئر من هذه الآبار التي حدثتكم عنها وقد سد نصفها عمود وقع عليها، فدار بنفسي أن لعل الحيوان انحدر من فوهة البئر، فأشعلت عود الكبريت وصوبت عيني إلى عنق البئر فرأيت حيوانا أبيض يتحرك، وعيناه البراقتان تنظران إلي وهو يتقهقر. فسرت في بدني رعدة، فقد كان منظره أشبه بعنكبوت بشري. وكان ينزل على جدار البئر، فرأيت لأول مرة مواضع للقدم واليد على جدار البئر كأنها درجات سلم. ولسعت نار الكبريت إصبعي فسقط ما بقي من العود وانطفأ، فلما أشعلت عودا آخر كان الحيوان قد اختفى.
ولا أدري كم من الوقت قضيت وأنا أحدق في هذه البئر. وظللت وقتا لا أستطيع أن أقنع نفسي بأن هذا المخلوق الذي أبصرته، آدمي. غير أن الحقيقة ما لبثت أن طالعتني؛ لم يعد الإنسان نوعا واحدا، بل صار نوعين، وحيوانين متميزين، فهؤلاء الأطفال الرشيقون الذين رأيتهم ليسوا النسل الوحيد لجيلنا، فإن هذا المخلوق القذر الذي يأوي إلى الظلام والذي لمع كخطف البرق أمامي، وارث كل العصور أيضا.
وعاد بي التفكير إلى نظرية التهوية تحت الأرض، وبدا لي أني اهتديت إلى الصواب، ويا ترى ما محل هذا الحيوان في النظام التام الاتزان والتكافؤ الذي ذهبت إلى وجوده؟ وما صلته بجمال أبناء الدنيا الآخرين الذين يعيشون عيشة الكسل؟ وماذا تخبئ هذه الآبار؟ وقعدت على فوهة البئر وقلت لنفسي إنه ليس ثمة ما يدعو إلى الخوف، وأن النزول في البئر هو وحده الذي يحل لي المعضلات. ولكني مع ذلك كنت أتهيب الإقدام على ذلك! وبينما كنت أتردد، وأقدم رجلا وأؤخر أخرى، أقبل اثنان من أبناء الأرض الفوقية يعدوان من النور إلى الظل وهما يلعبان ويتغازلان، وكان الذكر يجري وراء الأنثى ويرميها بالزهر.
وبدا عليهما الامتعاض لما رأياني، وأبصرا ذراعي على العمود المقلوب وعيني تحدق في جوف البئر، والظاهر أنه ليس من اللائق عندهم أن يجعل المرء باله إلى هذه الآبار. فقد أشرت إلى البئر وحاولت أن ألقي عليهما سؤالا يلفتهما فازداد امتعاضهما وأولياني ظهرهما. ولكنه سرهما أن يريا عود الكبريت يشتعل، فأشعلت لهما بضعة عيدان لأسرهما، وحاولت مرة أخرى أن أسألهما عن البئر، فأخفقت ثانية، فتركتهما وفي نيتي أن أجد وينا وأن أرى ماذا أستطيع أن أستخلصه منها، وكان عقلي يدور ويدور، وظنوني وآرائي تنزلق وتتحول إلى اتجاه جديد، فقد صار عندي الآن مفتاح لسر هذه الآبار ولأبراج التهوية، وللأشباح التي تراءت لي، فضلا عن دلالة الألواح البرونزية ومصير آلة الزمان. وبدأ يدور في نفسي شرح للمسألة الاقتصادية التي حيرتني.
وهذا هو الرأي الجديد، هذا النوع الثاني من الإنسان يسكن باطن الأرض، وقد مالت بي ثلاثة أمور على الخصوص إلى الاعتقاد بأن ندرة ظهوره فوق ظهر الأرض نتيجة لطول اعتياده الحياة في جوفها. وأول هذه الأمور تلك النظرة المعهودة في أكثر الحيوانات التي تعيش في الظلام مثل السمكة البيضاء في كهوف كنتكي. وثانيها كبر العين واتساع حدقتها وقدرتها على عكس الضوء، وهي من خصائص الحياة في الظلام؛ تأملوا القط والبومة مثلا. وآخرها ذلك الاضطراب الذي يعرو الحيوان في ضوء الشمس، والارتباك والمبادرة إلى الهرب إلى سواد الظل، وثني الرأس حين يكون في النور؛ كل أولئك أقنعني بأن الحدقة حساسة جدا.
فلا بد أن تكون الأرض تحتي حافلة بالسراديب التي صارت مألوف النوع الإنساني الجديد، وكفى بوجود الآبار وأساطين التهوية على سفوح التلال - وفي كل مكان إلى جانبي النهر - دليلا على تشعب هذه السراديب وشيوعها، ومن الطبيعي إذن أن يفترض المرء أنه في هذه الدنيا التحتية الصناعية يؤدي كل عمل يحتاج إليه النوع الذي يعيش في النور. وقد أخذت بهذا الرأي الذي بدا لي أنه معقول وذهبت بعد ذلك أتصور كيف تم انقسام النوع الإنساني، وأحسبكم قد فطنتم إلى نظريتي وإن كنت أنا نفسي ما لبثت أن رأيتها أبعد ما تكون من الصواب.
وقد بدا لي في أول الأمر أن من الواضح أن اتساع مسافة الخلف الاجتماعي والوقتي بين الرأسماليين والعمال في عصرنا هذا هو مفتاح السر في هذا الذي انتهى إليه الأمر. وأنتم حريون أن تسخروا من ذلك وتنكروه وتأبوا تصديقه، ولكنه حتى في عصرنا هذا يوجد من الأحوال ما يشير إلى هذا الاتجاه، فإن هناك ميلا إلى استخدام جوف الأرض فيما لا يدخل في باب الزينة من مظاهر المدنية، فهناك الخط الحديدي الذي يجري تحت الأرض في لندن، وثم أيضا خطوط حديدية كهربائية، وطرق، وحجرات للعمل، ومطاعم، وهي تزداد وتتعدد. وقد خطر لي أن هذا الميل إلى الانتفاع بباطن الأرض قد قوي على الأيام حتى فقدت الصناعة مكانها تحت قبة السماء وانطوت في جوف الأرض. وأعني أنها انتقلت إلى باطن الأرض وتغلغلت فيه إلى أن انتهى الأمر بأن ... حتى الآن في عصرنا هذا ألسنا نرى العامل في الحي الشرقي من لندن يشتغل في أحوال تكاد تحول بينه وبين سطح الأرض؟
وتأملوا بعد ذلك نزعة الأغنياء - وهي راجعة ولا ريب إلى زيادة الصقل في تربيتهم، واتساع المسافة بينهم وبين خشونة الفقراء وعنجهيتهم - فإنهم يسورون مساحات عظيمة من الأرض ليصدوا عنها غيرهم. فحول لندن، مثلا، نرى حوالي النصف من رقعة الأرض الجميلة مقصورة على أصحابها لا يدخلها سواهم، وهذا الجون الذي يزداد اتساعا - وهو يرجع إلى طول ما يستغرقه التعليم العالي من الزمن وكثرة ما يتطلبه من نفقات، وسهولة ما تغري به عادات الترف - أقول إن هذا الجون يقلل التبادل بين طبقة وطبقة، ويعطل ارتقاء الواحد منها إلى الأخرى بالتزاوج، ويجعله أندر. وأخلق أن ينتهي الأمر بأن يعيش فوق ظهر الأرض المالكون، وأن يطلبوا اللذة والراحة والجمال، وأن يقنع بباطن الأرض المعدمون، وأن يتكيف العمال شيئا فشيئا على مقتضى الأحوال التي يعملون فيها، ومتى صاروا في جوف الأرض، فسيكون عليهم بلا شك أن يؤدوا أجرا - غير قليل - في مقابلة التهوية لكهوفهم وغيرانهم، فإذا أبوا أميتوا جوعا أو اختناقا بما تأخر عليهم من الأجر، وأخلق بالتعساء والمتمردين منهم أن يموتوا، ثم يعتدل الميزان، ويألف الباقون أحوال المعيشة تحت الأرض وينعمون بها كما يألف الآخرون المعيشة فوقها. ومن أجل هذا كان الجمال المصقول، والشحوب والكمدة
4
من النتائج الطبيعية فيما أرى.
نامعلوم صفحہ