مختارات من القصص الإنجليزي
مختارات من القصص الإنجليزي
اصناف
ورددنا جميعا كلمة الموافقة.
وشرع الرحالة في الزمن يقص ما كان من أمره، كما أثبته هنا فيما يلي.
وكان في أول الأمر مضطجعا في كرسيه، يتكلم بفتور، ولكنه انتعش شيئا فشيئا، وإني إذ أنقل ما سمعته لأدرك قلة غناء القلم والمداد، وضعف حيلتي في نقل صفة الكلام إلى القارئ. وما أظن بك إلا أنك تقرأ بعناية، ولكنك لا تستطيع أن ترى المتكلم ووجهه المخلص الباهت اللون، على ضوء المصباح المتألق، ولا أن تسمع نبرات صوته، ولا أن ترى أن تغيير وجهه يختلف تبعا لإحساسه بما يرويه. وكان أكثرنا يجلسون في ظلام، فما أضيئت الشموع في غرفة التدخين. ولم يكن النور يبدي منا غير محيا الصحفي، وساقي الرجل الصامت. وكان بعضنا في أول الأمر يتلفت إلى بعض، ثم كففنا عن ذلك، وصارت عيوننا لا تتحول عن وجه الرحالة في الزمن. (4) التطواف في الزمن
بينت لبعضكم يوم الخميس الماضي المبادئ التي تقوم عليها آلة الزمان، وأريتكم الآلة أيضا، وكانت ناقصة لم تتم، وهي هناك الآن، وقد نال منها الطواف ... حقيقة ... وقد انكسر قضيب من العاج فيها، وانثنى آخر من النحاس، ولكن بقيتها سالمة. وكنت أتوقع أن أتم صنعها يوم الجمعة، ولكني يوم الجمعة بعد أن كدت أفرغ من تركيبها وجدت أن قضيبا من النيكل أقصر مما ينبغي بمقدار بوصة، فاحتجت أن أصنعه من جديد. فلم أفرغ من العمل إلا هذا الصباح. وفي الساعة العاشرة من يومنا هذا بدأت أول آلة للزمان حياتها وسيرتها، وقد أدرت فيها عيني، واختبرتها آخر اختبار، وامتحنت كل ما فيها من الروابط، وصببت قطرات من الزيت على القضيب المصنوع من «الكوارتز» واتخذت مقعدي على السرج. وأحسب أن المنتحر الذي يتناول المسدس، ويسدده إلى رأسه، يشعر بمثل ما شعرت به، وأمسكت بالرافعة بإحدى يدي، وبالأخرى المجعولة لوقفها بيدي الأخرى، وضغطت الأولى، ثم الثانية بعد ذلك مباشرة، وخيل إلي أني أترنح، وشعرت كأني سأسقط، وتلفت فألفيت المعمل على حاله - كما كان بلا فرق - فهل ترى حدث شيء؟ وخفت - لحظة - أن يكون عقلي خدعني، ثم نظرت إلى الساعة، وكانت قبل برهة لم تجاوز العاشرة إلا بمقدار دقيقة أو نحوها. فإذا بها الآن منتصف الرابعة!
فملأت صدري بالهواء، وقرضت أسناني، وتناولت الرافعة بكلتا يدي ومضيت، فأخذ المعمل يبدو لي أقل وضوحا ثم أظلم. ودخلت السيدة «واتشيت» وقطعت الغرفة كأنها لا تراني، ومضت إلى باب الحديقة. وأحسب أنها اجتازت الغرفة في نحو دقيقة، ولكنها كانت تبدو لي مارقة كالسهم أو الشهاب، وضغطت الرافعة إلى أقصى حد، فدخل الليل، كما تطفئ مصباحا، وبعد لحظة أخرى، جاء الغد، وغاب عني المعمل شيئا فشيئا، وجاء المساء أسود حالكا، ثم الصباح فالليل مرة أخرى، فالنهار كرة ثانية، وكان في مسمعي كصوت تلاطم الأمواج، وغشي عقلي الارتباك والبلادة.
وليس في وسعي أن أصور لكم الإحساس الخاص الذي يحدثه الطواف في الزمان، فإنه أثقل ما عانيت، والمرء يشعر بأنه مقذوف به ولا حيلة له. وخامرني الإحساس أيضا بوشك التحطم، وكنت وأنا أجتاز الزمان وأزيد السرعة، أرى الليل يعقب النهار كما يخفق الجناح الأسود. وغاب عن عيني شبح المعمل الغامض، ورأيت الشمس تبدو وتختفي في السماء بسرعة، وكلما بدت مقدار دقيقة كان يوم. وكبر في ظني أن المعمل تقوض وأني خرجت إلى الهواء الطلق. وخيل إلي أني أرى شيئا كأنه الشعف على الجدران، ولكني كنت أمرق بسرعة فلم أكن أحس بالأشياء المتحركة، وكانت أبطأ القواقع خطوا تخطف بسرعة فلا أكاد أراها. وكانت عيني يؤذيها اختلاف الليل والنهار بمثل سرعة البرق. وفي الظلام المتقطع رأيت القمر ينتقل في أوجز وقت من هلال إلى بدر كامل، ولمحت قبة السماء المزدانة بالنجوم، وظللت أمضي، وسرعتي تزداد، فاختلط بياض النهار بسواد الليل، وصارت زرقة السماء عميقة، وضاءة اللون، كالشفق، وغدت الشمس كأنها لسان من اللهب، أو قوس متقد في الفضاء والقمر كالحزام المضطرب، ولم أعد أرى النجوم، ولكنها من حين إلى حين كانت تبدو لي كدائرة خفاقة اللمعان في زرقة السماء.
وأصبح المنظر غامضا غائما، وكنت لا أزال على ذلك الجانب من التل الذي يقوم عليه هذا البيت، فصار يرتفع ويغمض، ورأيت الأشجار تنمو وتتغير كأنها نفخة دخان، وتكون سمراء فتغدو خضراء، وكانت تنمو، وتكبر، وتهتز، وتزول، ورأيت مباني ضخمة تعلو وتمر كالحلم، وتغير وجه الأرض كلها فيما بدا لي، وصار ذائبا يسيل ويتحدر تحت عيني. وكانت العقارب التي تسجل سرعتي تزداد سرعة دوران، فما لبثت أن رأيت نطاق الشمس يعلو ويهبط من وجه إلى وجه في دقيقة أو أقل، فعلمت أني صرت أقطع العام في دقيقة، فكان الثلج الأبيض يومض، دقيقة بعد دقيقة، على الدنيا، ويختفي، وتعقبه خضرة الربيع النضيرة القصيرة.
وصارت الإحساسات التي كابدتها في البداية أخف وطأة، وتحولت إلى نشوة عصبية، وقد لاحظت أن الآلة تضطرب وأن حركتها ليست بالسلسة لسبب لا أعرفه، وكان اضطراب عقلي أشد من أن يسمح لي بالعناية بذلك، واستغرقني نوع من الجنون فقذفت بنفسي في المستقبل، ولم يخطر لي في أول الأمر أن أقف أو أتريث، أو أن أجعل بالي إلى غير ما أحس، ولكني ما لبثت أن شعرت بضرب جديد من الخوالج - بمقدار من التعجب والتطلع، وبشيء من الخوف - ما عتمت أن استولت على نفسي أتم استيلاء، فقد تتكشف لي مظاهر تطور غريبة في حياة الإنسان، وتقدم مدهش في مدينتنا البدائية، إذا أنا أتيح لي أن أتدبر هذا العالم الغامض المتفلت الذي يعدو ويضطرب أمام عيني. ورأيت بنى عظيمة رائعة ترتفع حولي، وهي أضخم من كل ما رفعناه وأعليناه في زماننا، ولكنها كانت تبدو مبنية من الضباب والضوء الخفاق. ورأيت الخضرة السائلة على جانب التل، أزهى وأنضر، وأبقى أيضا فلا أثر للشتاء فيها. وحتى على الرغم من الحجاب الذي أسدله الاضطراب على عقلي بدت الأرض أجمل وأنقى، فشرعت أفكر في الوقوف.
وكان أكبر ما أخاف أن أجد مادة ما في الفضاء الذي أنا - أو الآلة - فيه، ولم يكن لهذا قيمة، وأنا أجتاز الزمن بسرعة كبيرة، فقد كنت كأني تضاءلت حتى لم أعد شيئا، أو كنت كالبخار الذي ينفذ مما بين المواد المعترضة، ولكن الوقوف يجر إلي ضغطي ودفعي ذرة فذرة فيما عسى أن يكون في طريقي، وإلى جعل ذراتي من شدة الاتصال بذرات العقبة المعترضة، بحيث يفضي ذلك إلى إحداث تفاعل كيميائي عميق - أو عسى أن يؤدي إلى انفجار - فأتطاير أنا والآلة خارجا من كل الأبعاد الممكنة إلى المجهول. وكان هذا الاحتمال قد خطر لي مرات وأنا أصنع الآلة، فأخلدت إليه على أنه أحد الأخطار التي لا بد من المجازفة بالاستهداف لها، أما الآن فقد صار الخطر لا مفر منه، فلم أواجهه بذلك الابتسام وتلك البشاشة كما كنت أفعل. والواقع أن غرابة ما أنا فيه، وتطرح الآلة، وطول الإحساس بأني أهوي؛ كل أولئك قد أتلف أعصابي، فحدثت نفسي أني لن أستطيع الوقوف، ونفد صبري على هذا، ووهى جلدي، فعزمت على الوقوف من توي. وتسرعت لسخافتي فجذبت الرافعة، فانقلبت الآلة، وقذف بي في الهواء.
وصار في مسمعي مثل تهزم الرعد وعسى أن أكون قد فقدت وعيي لحظة، وكان الثلج يسقط حولي، وألفيتني جالسا على العشب الناعم أمام الآلة المقلوبة، وكان كل شيء فيما يبدو مغبرا، ولكني تنبهت فأدركت أن صوت الرعد الذي كان في أذني قد زال؛ فأجلت عيني فيما حولي فوجدت أني فيما يشبه ممرا في حديقة تحيط بها شجيرات، ولاحظت أن نوارها يسقط به الثلج وكان ما يسقط منه يشبه السحابة الرقيقة على الآلة، وتطلقه الريح على الأرض كالدخان، وأحسست بالبلل ينفذ إلى بدني؛ فقلت: «يا له من إكرام لوفادة رجل اجتاز ما لا عداد له من السنين ليراك!»
نامعلوم صفحہ