مختارات من القصص الإنجليزي
مختارات من القصص الإنجليزي
اصناف
ولكنه أبطأ ولم يجئ، فاعتزمت أن تذهب هي إليه، فقد كان صوت الطلق ينبئ بأنه منها قريب، ثم إنه قد يحتاج إلى معونتها لحمل ما منت نفسها أن يكون قد صاده. ونهضت ومضت مهتدية بذكرى الصوت الذي سمعته، وكانت تغني وهي سائرة، ليسمعها ابنها فيخف للقائها، وكانت ترجو أن يطالعها وجهه من وراء كل شجرة، وكل ما يمكن أن يحجبه من النبات العالي، وأن تسمع ضحكته المنبعثة عن روح العبث في المغامر حين يلقى من يحب. وكانت الشمس قد غابت وراء الأفق، وكان الضوء المختلف بين الأشجار من الخفوت بحيث يجسد الأوهام لخيال المتطلع. وقد خيل إليها مرات أنها لمحت وجهه - ولكن في غير وضوح - مطلا من بين الأوراق، وكبر في وهمها مرة أنه واقف إلى جانب صخرة، وأنه يومئ إليها، على أنها بعد أن أوسعت هذه الصخرة تحديقا، تبينت أن الذي بجانبها ليس إلا ساق شجرة تحف بها أغصان كثيرة، كان أحدها ممتدا وكان النسيم يحركه. وظلت تتقدم حتى بلغت الصخرة، فألفت نفسها بغتة أمام زوجها الذي كان قد جاء من ناحية أخرى، وكان متكئا على صدر بندقيته التي انغرست فوهتها بين الأوراق وهو يتأمل شيئا عند قدميه.
فصاحت به دوركاس: «ما هذا يا روبن ...؟ أتراك صدت الظبي ثم نمت عليه ...؟»
وكانت تضحك مغتبطة بما لمحت أول الأمر من وقفته وهيئته، ولكنه لم يتحرك ولا حول إليها عينه، فدب في قلبها الخوف، وأخذتها رعدة مجهولة المصادر والعلل، وتفرست فتبينت في وجهه الامتقاع والتصلب، حتى لكأنما عجزت معارف محياه أن تغير ما ارتسم عليها من صورة اليأس.
ولم يبد منه ما يدل على أنه أحس بقربها، فصاحت به: «أتوسل إليك يا روبن أن تكلمني» وأفزعها صوتها أكثر مما أفزعها هذا السكون الرهيب.
وتنبه زوجها ونظر إليها ثم جرها إلى الصخرة وأشار بإصبعه، فإذا غلامها هناك راقد ... نائم نوما لا حلم فيه ولا يقظة منه ... على أوراق الشجر الجافة، وخده على ذراعه، وأعضاؤه مسترخية قليلا ... أفتراه أدركه إعياء مباغت ...؟ أيمكن أن يوقظه صوت أمه ويرده إليها ...؟ كلا ... فقد أدركت أنه الموت الذي لا حيلة فيه.
وقال زوجها: «هذه الصخرة العالية هي الحجر القائم على قبر أبيك يا دوركاس ... وستسقط أشجارك على ابنك وأبيك كليهما.»
ولم تسمع دوركاس ما قال، بل أطلقت صرخة جزع انشقت عنها حبة قلبها المطعون، وهوت مغشيا عليها إلى جانب فتاها، وفي هذه اللحظة انقصف الفرع اليابس الذي في قمة الشجرة ... وتهاوى هشيمه وتناثر ما بلي منه على الصخرة ... وعلى الأوراق الذاوية المبعثرة ... وعلى روبن وزوجته وابنهما ... وعلى رفات روجر مالفن.
وانعصر قلب روبن، وتفجرت الدموع من عينيه كما يتفجر الماء من ينبوعه ... لقد وفى الرجل الذي حاقت به اللعنة بالنذر الذي نذره وهو شاب جريح ... وقد كفر عن خطيئته فزالت عنه اللعنة.
وفي هذه الساعة التي أهرق فيها دما أعز عليه من دمه، اختلجت شفتاه بصلاة ارتفعت إلى السماء، وكانت الأولى التي تحركتا بها منذ سنين وسنين.
إدجر أللان بو
نامعلوم صفحہ