والواقع أنه قد انقبض بانقباض الدول العربية وضعف بضعفها، فجعلت تضيق أغراضه، وتتواضع معانيه، ويجف ماؤه، ويتجلجل بناؤه، حتى صار إلى ما صار إليه، وظل عاكفا عليه، إلى ما قبيل نصف قرن من الزمان.
ولا يذهب عنك أنه في فترة انقباضه الطويلة قد انبعثت في الغرب حضارة جديدة جعلت على الزمن تنبسط وتتناول وسائل الحياة دراكا حتى بلغت شأوا بعيدا، ومما ينبغي أن يلتفت إليه أشد الالتفات في هذا المقام، أن هذه الحضارة أولت أجل عنايتها للشئون المادية، فكان حظ العلوم الطبيعية والكيميائية منها عظيما، فاستكشفت أشياء كثيرة، واخترعت أشياء كثيرة، حتى كاد الإنسان لا يتناول شأنا من شئون الحياة إلا بسبب طريف، وبذلك كثرت الآلات المادية كثرة تفوق حدود الوصف، وهي تطرد في الزيادة كل يوم، إذ اللغة العربية جاثمة في أفحوصها
5
لا تمتد بالتعريف عن هذا، إذا هي امتدت، إلا إلى القليل، بل إلى أقل من القليل!
ولقد كان من آثار فقر العربية في هذا الباب أنها حتى بعد نهضتها الأخيرة لزمت في بيانها دائرة الأدبيات لا تصيب من المحسات المادية، إن هي أصابت، إلا في حرج وفي عسر شديد! وكيف لها بهذا وليس لها به عهد قريب ولا بعيد؟!
وإذا كانت الحاجة تفتق الحيلة كما يقولون، فقد بعثت النهضة العلمية في عهد محمد علي رفاعة وأصحابه إلى أن ينفضوا قديم العربية لعلهم يجدون بين مفرداتها وما أثر في كتبها من المصطلحات العلمية والفنية ما يدلون به على ما استوى لهم من جديد في العلوم والفنون، فإذا أصابوا هذا وإلا عمدوا إلى الوسائل الأخرى من النحت والاشتقاق والتعريب، وإذا كان قد اجتمع لهم فيما نقلوا إلى العربية من علوم الغرب وفنونه صدر محمود، فإن ذلك أصبح لا غناء فيه ولا سداد له، بعد أن فترت تلك النهضة وخبت جذوتها، على حين تطرد العلوم والفنون في تبسطها حتى لتخرج على العالم كل يوم بجديد، وهذه الحاجة الملحة، والتي يشتد إلحاحها ويتضاعف كلما تراخت الأيام، لقد كانت تبعث جماعات الفضلاء الفينة بعد الفينة إلى تأليف الجمعيات للبحث والنظر في تحريك لغة الغرب حتى تستطيع أن تتوافى لمطالب الحضارة الحديثة، على أنه لم يقدر لها النجاح لأسباب لا محل لذكرها في هذا المقام، فلم يبق بد من أن تضطلع وزارة المعارف بالأمر، وبعد لأي قام «المجمع اللغوي»، نسأل الله تعالى أن يمده بروحه، ويعينه على مهمة جليل المشقة جليل الآثار، وأن يهديه إلى أقوم سبيل! •••
لقد استطرد القلم من حديث الأدب إلى حديث اللغة، وما له لا يفعل واللغة مادته وملاكه، وإذا كان أجل همه إلى المعنويات فليس له عن هذه المادة غناء بل لقد تكون وسيلته وأداته حتى في التعبير عن أخفى العواطف وأدق خلجات النفوس، على أن أهم ما يعنينا من هذا البحث إنما هو حيرة الأدباء، أو على تعبير أضبط، حيرة بعض من يعانون الأدب في هذا العصر، وذلك أن في مأثور العربية أدبا غنيا سريا، واتى سلفنا العظيم بمطالب الشعور ومطالب الحضارة جميعا، على أننا نعيش الآن في حضارة غير حضارتهم، ونعالج من وسائل الحياة غير ما عالجوا، ثم إنه مهما تطبعنا الوراثة على طبعهم، وتنضح علينا من أذواقهم وشعورهم وغير ذلك من خلالهم، فإن مما لا شك فيه أن لتطاول الزمن، وتغير البيئات، وتلون الحضارات، وما يجوز بالأقوام من عظيمات الأحداث أثرا قد يكون بعيدا في كل أولئك، وأنت خبير بأن الأدب الحق إنما يتكيف بما هو كائن، ويترجم عما هو واقع،
6
ومن هذا تجد كل أدب حي متحرك في تطور مستمر طوعا لتطور العوامل والأسباب، ولست تلتمس دليلا على أن الأدب العربي إنما كان كذلك في حياته القوية بخير من أن تستعرض شأنه في الجاهلية وتقلبه في جميع الدول العربية في العصور الإسلامية، فلن تخرج من هذا إلا بأنه قد تأثر في كل عصر وفي كل بيئة بقدر ما تغير على القوم من مظاهر الحياة.
ومعنى هذا الكلام أن الأدب العربي، في أي عصر من عصوره الخالية، مهما يجل قدره، وتعظم ثروته، لا يمكن أن يغنينا الآن في كثير من مطالب الحياة إذا اتخذناه على حاله، ولم نعد ما كان من صوره وأشكاله، وإلا فقد سألنا الطبيعة شططا، فهيهات للساكن الجاثم أن يلحق المتحرك السائر.
نامعلوم صفحہ