وإني لأستطيع أن أقول إن العلم بقي في ناحية، وبقيت اللغة في ناحية أخرى، وظل الأدب عندنا يجول في حفظ المعلقات السبع، ولامية العرب، وقصيدة ابن زريق، و«أفاطم لو شهدت ببطن خبت»، وفي رواية حادثة طسم وجديس، وحرب داحس والغبراء، وحرب الفجار، وحفظ صدر من مقامات بديع الزمان وأبي محمد الحريري، ونحو هذا وهذا، ويعيش أدبنا بهذا دهرا!
ثم جاءنا الشنقيطي، وجاءنا اليازجي، وجعلا يتسقطان الأدباء والكتاب والشعراء فيما يقع لهم مما لا يجري على قوانين الصرف، ولا تقره معجمات اللغة؛ ودعت هذه الحركة الجديدة إلى أن يشيع في الناس كتاب «درة الغواص، في أوهام الخواص» للحريري، وكتاب «لغة الجرائد» لليازجي، يستظهرهما المتأدبون، ويرتصدون للكتاب والشعراء يأخذون عليهم كل سبيل، فإذا قال كاتب: «أثر عليه» فلأمه الهبل ،
2
إذ هي: أثر فيه، وإذا قال شاعر «طبيعي» فما أجهله وما أقصر علمه، فإن النسبة إلى «الطبيعة» طبعي لا طبيعي، ويخرج ذاك غير كاتب مطلقا، وهذا غير شاعر ألبتة، وهل يكون شاعرا أو كاتبا من يسف هذا الإسفاف ويسقط كل هذا السقوط؟!
أما اللغة التي تواتي حاجات العلم وحضارة العلم، فلم يكن لها أي حظ في تلك النهضة، إذا صح هذا التعبير، إذا استثنينا جمعية أو مؤتمرا لغويا عقده السيد توفيق البكري في داره، ودعا إليه أئمة اللغة والبيان، فتمخض عن عشر كلمات عربية تصلح للتعبير عن أغراض حديثة، فوقع من نصيب «التليفون»: المسرة، ومن حظ «البسكليت»: الدراجة، ومنها ما أخذ الأدباء به ومنها ما أهملوا، ولست أخفي عليك أن حاجة العلم والفن قد امتدت من ذلك التاريخ وحده إلى عشرة آلاف كلمة أو تزيد!
والعجب العاجب مع كل هذه العناية باللغة أن القائمين بالنهضة في ذلك العهد لم يعنوا حتى بأساليب اللغة ولهجتها وذوقها، بل لقد حبسوا كل عنايتهم على مفرداتها، وقد قلت لك أمس: «إني إذا قلت العربية فلست أعني مفرداتها فحسب، فلقد تقرأ الكلام لا يقع فيه إلا عربي صحيح، وهو مع هذا ليس من العربية في كثير ولا قليل، وإنما أعني فيما أعني الأسلوب وطريقة تأليف الكلام.»
وتقدمت نهضتنا اللغوية حقا، كما تحركت رغبتنا في العلم حقا، فعكف ناس على اللغة فحفظوا مفرداتها، وفتحوا أذواقهم للهجاتها وأساليبها؛ كما عكف ناس على علم الغرب، فاطلعوا عليه واستشرفوا له، ورغبوا رغبة صادقة في أن يرجعوا به إلى قومهم، ويلقوه معشرهم في لغتهم، إذ اللغة، أو إذ علمهم باللغة، أو إذ هما معا لا يستطيعان أن يواتيا كل أغراض العلم، وإذ العلم لا يرضى أن يذلل لأساليب اللغة أو إلى الأساليب التي لا يستريح إليها إلا المتصدون لحفظ اللغة، فعندنا قوم يحبون أن يخضعوا العلم للغة، وعندنا آخرون يريدون أن يخضعوا اللغة للعلم، وهذا أصل الخلاف ومنجم الشقاق.
ولقد تبسط بي الكلام إلى الحد الذي لم أكن أقدره، إذ وعدتك أمس بأني موف على غايتي في حديث اليوم، فانتظرني إلى غد، واعذرني إذ أطيل عليك هذا الحديث.
ذهب عني وأنا أعرض عليك في مقال أمس تلك الصور التي اضطرب فيها الأدب العربي في هذا العهد الحديث، أن ألم بصورة كان لها أثر في نهضتنا الأدبية، ولا يزال لها فيها أثر غير ضئيل، فقد أخذ شباب من أذكياء شبابنا بحظ من لغات الغرب وترووا أدبه واستظهروا من شعر شعرائه، وجاشت نفوسهم بكثير من معانيهم وأخيلتهم، وفنون استعارتهم وتشبيههم، وكان لهم كذلك حظ غير قليل من أدب العرب، واستظهار كثير مما نضحت به قرائح شعراء الصدر الأول؛ ولقد حفزوا عزائمهم ليصلوا أدب الشرق بأدب الغرب، أو ليجلوا في ديباجه البحتري ما قال شكسبير، فنظموا كذلك وترسلوا، ولكن كان هذا المرام فوق مناط الطبيعة، فخرج كلام لا ترضى عنه أساليب العربية، ولا تستريح إليه أذواق المتأدبين.
على أن أولى هذه النهضة أنفسهم قد فطنوا إلى ما في هذه الوثبة الهائلة من شديد الخطر على لغة العرب، إذ إنها لا تستبقي منها إلا ألفاظا تحشر إلى ألفاظ، أما رونقها وأما بهجة أسلوبها فقد يدركهما العفاء، فرجعوا إلى اللغة يبعثونها في رفق وفي لين، ولا يحملونها من بلاغة الغرب إلا ما كان أشبه بذوقها، وإلا ما صقلوه بصقالها، فدار في أساليبها لا نابيا ولا متعصيا.
نامعلوم صفحہ