234

ديمقراطية الفنون!

ترى أمن الحق الواقع أن الإنسان، وأعني من الأناسي من يعالجون فن البيان، قد يعيي عليه الفكر ويستصعب عليه الرأي في بعض الأحيان، فلا يرى بدا من أن يعود بالقلم يستهديه ويستنديه، ويترسم آثاره، حتى يقع على الرأي، ويبلغ - ولو في تقديره هو - مناط الصواب؟

اللهم إنه ليخيل إلي أن الأمر هكذا، فلو كان هذا حقا لبلغ بادئ الرأي من كل من يطالع به مبلغ العجب، إذ المقدر أن ذهن الكاتب هو الذي يصرف القلم، لا أن القلم هو الذي يصرفه، وأن الذهن هو الذي يوحي إليه، ويملي ما يشاء عليه، إذ كل سداد هذه القصبة إنما هو في الرسم والرقم لا أكثر ولا أقل.

والآن أترقى بالدعوى فأزعم أن الواقع، في بعض الأحيان، هو كذلك، وهو إذا لم يجر في طباع جميع الكاتبين، فإنه يجري في طباع بعض الكاتبين.

على أن من الخلال التي لا ينشز عليها أحد، ولا أظن أن يماري فيها أحد، أن الكاتب مهما يحط بموضوعه، ويتكشف له من قضاياه، ويتمكن من ناصية الرأي فيه، ويظن أن ذهنه قد استوفاه، وتقرى جميع أقسامه ومسائله، حتى يتمثل له في صورة متسقة الأعضاء، متلاحمة الأجزاء، ليس بينه وبين أن يجلوها على الطرس كذلك إلا أن يتفصد بها عليه اليراع في غير جهد ولا عناء، أقول إن الكاتب مهما يخيل إليه ذلك، فإنه لا يكاد يجري بتدوين ما يحضره من الفكر يراعه، حتى يرى هذا الفكر يزيد وينقص، ويتلون ويتشكل، وقد يتحرف ويتحول، وقد يتغير ويتبدل، وقد يميل عن سياقه المقسوم، ويعدل ألبتة عن مذهبه المرسوم، فيخرج في النهاية خلقا غير الذي هيأ الكاتب وقدر، في صورة غير التي سوى في ذهنه وصور!

هذا هو الواقع، وما أحسب الأمر فيه حبسا على الكاتبين وحدهم، بل لعله متناول سائر من يعانون مختلف الفنون.

وهنا أرجو أن يفهم من كلامي أنني إنما أريد النظم والأسلوب والسياق، وألوانا من التفصيل، ونحو ذلك مما تتجلى به صور الكلام.

وتعليل ذلك ليس بالأمر العسير، فإن المفتن مهما يظن أن موضوعه قد أصبح بعد جولان الفكر وطول التدبر، تام الخلق مكتمل الصورة، بحيث لا يحتاج في نفضها على القرطاس إلى زيادة أو إلى تهذيب، فالواقع أن هذه الصورة مهما يبلغ حظها من النصاحة والوضوح، لا تعدو أن تكون إجمالية يعوزها كثير أو قليل من دقاق التفاصيل، حتى إذا اجتمع لنقلها إلى عالم الحقائق الخارجية - على تعبير أصحاب المنطق - جعلت تسنح له الفكر واحدة بعد أخرى في صور جزئيات، وأحيانا في صور قضايا كلية، وهذه وهذه لقد يبعثها بين يدي القلم وصل فكرة بفكرة، أو التحول من غرض إلى غرض، أو الشعور بحاجة الكلام إلى البسط والتبيين، أو الاستطراد بحكم تداعي المعاني، بما لم يقع للكاتب من قبل في الحسبان، أو غير أولئك مما تتغير به صور المقال، ويجلوه على غير ما تمثل الذهن له من المثال. •••

هذه عادة الكاتبين، ما أحسب أنه يستثنى عليها منهم أحد، وإذا كان هذا غير ما زعمت في صدر هذا الحديث، وإذا كان لا ينتهض دليلا على صحته كله، فلا ريب في أنه قد يهدي إلى تعليله وجه السبيل: ذلك بأن ما يصحب جولة القلم من اتساع آفاق الفكر، والنفوذ إلى بعض الدقائق، وسلوك كثير من الجزئيات، والوقوع على ما لم تتبسط له الفطنة من قبل، وأثر هذا في طبع الكلام، ونزوع سياقه إلى غير منزعه، وتجليته في غير الصورة المقدرة له، أقول: إن ما يكون من هذا في صحبة القلم - أعني ساعة تشمير الكاتب للصياغة وإجراء البيان - من شأنه - مع الزمن وكثرة المعاودة - أن يدخل في وهمه أن القلم مما يرفد ويمد ويعين!

وفي هذا المقام يحسن بي أن أذكر أنني أملي المقال في بعض الحين، وإني لأقوم على هذا ما دام الكلام هينا لينا، حتى إذا تعذر علي القول وتعصى الكلام، أو إذا قدرت أن المقام يحتاج إلى حد الكلام وسطوة البيان، أو إلى تزيين اللفظ وتبهيجه، والتأنق في صياغته ونظمه، أسرعت إلى اختطاف القلم، فاستشعرت القوة وأحسست المدد، وسرعان ما يواتيني مما أبغي من هذا ما لا يواتيني به الجهد في الإملاء!

نامعلوم صفحہ