مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
اصناف
كانت تتحدث بجدية غريبة، قلت لها: نحن لسنا مسئولين عن حل مشاكل الشعوب السودانية، الدولة هي المسئولة، وزارة الرعاية الإنسانية، مثلا: ما تعكري مزاجنا ونحن ماشيين الرحلة، بلاش مثاليات، بلاش كلام فارغ.
قالت إنها ستحضر، ما لشيء إلا لتعكر مزاجنا أكثر ... وقالت: ح أجيب معاي الشاعر عثمان بشرى!
ومن الذي يخاف عثمان بشرى؟! فليأت الشيطان ذاته، ربما تكون هي جادة فيما تقول، لكنها تشير أيضا لحادثة غير حميدة حدثت لنا في رحلة سابقة كان عثمان بشرى طرفا فاعلا فيها. للذين لا يعرفونه هو شاعر مجيد لكنه يفعل كل شيء وفقا لقوانين تخصه هو، لقد شتم شرطيا - ولا يفعل ذلك شخص طبيعي كامل الأهلية، كما تقول أمي - عندما طلب منه شرطي النظام العام، إما أن يبتعد قليلا عن سيدة جميلة كان يجلس قربها في الحديقة العامة، أو أن يبرز له قسيمة الزواج أو شهادتي الميلاد أو البطاقتين الشخصيتين اللتين توضحان أنهما أخوان، وذلك وفقا لقانون النظام العام: ودا ما من راسي يا زول!
فقال له عثمان بشرى: إن البنت التي يجلس لصقها الآن، هي أخته في الرضاعة. لأنه لا يمكن إثبات ذلك؛ طلب من الشرطي ترك ما يريبه لما لا يريبه، وهي قاعدة فقهية لا غبار عليها، وعثمان بشرى ذو الخلفية الدينية، أدرى بها. فقالت له السيدة الجميلة الناهد المعجبة بنفسها كثيرا، وبصدرها أكثر، بينما تفوح منها رائحة عطر نسائي ساحر: في إمكانها إثبات ذلك الآن، بأن ترضع عثمان بشرى ثلاث رضعات مشبعات أمام الشرطي ، وبشهادتنا نحن الحضور جميعا، بذلك تصبح أخته وأمه أيضا في الرضاعة! فاعتبر الشرطي أن ذلك ليس سوى تلاعب مكشوف ودعارة بينة، وأنه ليس أكثر من حق أريد به باطل. في الحقيقة كان الشرطي رجلا عاقلا وسيما أسود ذا ذقن حليقة بإتقان ... كان يستخدم المنطق والحوار، لا يحمل معه بندقية ولا حتى سوطا من الجلد، يجادل عثمان بشرى بالتي هي أحسن، واضعا على فمه الدقيق ابتسامة لا بأس بها. لكن عثمان بشرى فاجأنا بأن شتم الشرطي! هذا يعني أن الرحلة انتهت، وعلينا الهرب بأسرع ما يمكن، ولو أن الشرطي قبل اعتذارنا إلا أنه لم يتنازل عن أخذ عثمان معه للقسم الأوسط، متهما إياه بالسكر البين. أكدنا له أنها رائحة فمه الطبيعية وأنه لا يتناول الكحول. إلا أن الشرطي أخذ يتصل بالرقم 999 عبر تليفونه النقال؛ مما عجل بهروبنا جميعا بما فينا عثمان بشرى، الذي اختفى كما تختفي الريح بين العشب.
حسنا، وافق الكثيرون على الرحلة، تبرعت لنا أمي بخروف، لكنها تريد أيضا أن يكون هذا الخروف سماية، إنها تريد أن تغير اسمي الطفلين، من حسكا وجلجل، إلى جلال وحسبو، وتخرج لهما شهادتي تقدير العمر. لا أحد يعرف الاسم الحقيقي للفكي، ويستحيل معرفة اسم أبيه أيضا، كما أننا نشك أيضا في أبوته لهذين الطفلين، وهذا لا يمنع أن ندعوهما له. أما الأم فكان أمرها أيضا غريبا ومضللا، فهي ليست سوى نونو، هل يحق لنا أن نبتكر لها اسما كاملا يتكون من اسم لها ولأبيها وجدها؟
ما قانونية ذلك يا أستاذتنا حكمة رابح؟
ذاكرة المؤلف
الفصل القادم هو الفصل الأخير في هذه الرواية، بالتالي أريد أن أنتهز هذه الفرصة ككاتب للرواية - وأظن من حقي الأدبي أن أنتهز الفرص في رواية أنا أحد كتابها - أن أعتذر للشخصيات التي استخدمتها في هذه الرواية، الذين لم أستشر منهم سوى شخصية واحدة وهي شخصية سلوى؛ الساردة الأساسية في الرواية. لقد أعطيتها الفرصة كاملة لأن تعبر عما يجيش بخاطرها تجاهي من حب وكراهية وبعض ما لا يقال مرتين، لكنها أيضا لم تحسن القول، أو قل: إنها أخفت بعض الحقائق التي ربما تحسن من صورتي الشخصية أمام القراء، وحملتني مسئولية فشل العلاقة. بل لا تغيب عن فطنة القارئ أنها أشارت في غير ما موقع أنني انتهازي، وهي صفة أكرهها، لكن كما يقول أستاذنا الروائي عيسى الحلو: «من بعض مهام الكاتب أن يحافظ على نفسه.» ومن هذا الباب، أستمد الحق بأن أدفع عن نفسي، وأحكي أيضا لكم كيف تعرفت بي سلوى.
لا أظنها ستنكر ما قالته لي بنفسها ذات صفاء، عندما كنا عاشقين هائمين ببعضنا حد الجنون، في نزوة تلك المحبة تصارحنا بصورة فظيعة وجميلة. كانت تشاهد التلفاز، وهي إحدى العادات التي اكتسبتها منذ تخرجها من كلية البيطرة: القراءة ومشاهدة التلفاز. كانت تطوف على القنوات المحلية والعالمية، تختار ما يتناسب واستعدادها النفسي لمشاهدته، إلى أن عثرت على رجل في منتصف العمر، يحاوره مذيع ضليع فصيح، في قناة محلية، يتحدثان بجدية في موضوع الأدب، قالت: عجبتني في اللحظة اللي شفتك فيها، قبل ما أعرف أنك بتتكلم في شنو.
حسنا، إلى الآن لا توجد أي مشكلة، لكنها أضافت لنفسها: هذا هو الشخص الذي أبحث عنه.
نامعلوم صفحہ