44 - ولما قدم أحمد بن طولون إلى مصر متقلدا بها عمل المعونة، أهدى إليه أحمد بن مدبر من دق مصر، ودوابها، والرقيق المجلوب إليها، ما مقداره عشرة آلاف دينار، فرد ذلك عليه، وذكر أنه لا حاجة له بشيء منه. #70# فثقل ذلك على ابن مدبر، وقال : ((ما ينبغي أن يثق السلطان -بمن لم يكن لعشرة ألف دينار في عينه قدر- على طرف من أطراف مملكته!)).
فلما مضت أيام بعث إليه: ((قد كنت أنفذت إلي طائفة من برك فرددتها عند وقوع الاستغناء عنها، وقد بلغني أن عندك مائة رجل من مولدة الغور، وبي إليهم أمس حاجة)). قال ابن المدبر: ((قد ظهرت في هذا الرجل علامة أخرى، يرد الأعراض والأموال، ويستهدى الرجال!)).
وكان حسين بن شعرة -مضحك المتوكل على الله- قد انضوى إليه، فحمى به ضياعه وأملاكه. ووقف على استثقال ابن مدبر لأحمد بن طولون، وأخرج حكايته في تزمته وكلامه، فيضحك ابن مدبر ومن حضره، فاتصل ذلك بابن طولون، فأحضره ثم قال له: ((بلغني أنك تتنادر بي، ولك في الناس مندوحة فاحذرني، فإنك إن وقعت لم ينفعك ابن المدبر ولا غيره))، فجحد هذا واعتذر إليه منه. ثم انصرف إلى ابن المدبر وقال: ((يا سيدي! لو شاهدت أحمد بن طولون يؤنبني!))، فقال: ((ما قال لك؟))، قال: ((اصبر حتى أريك حكاية صورته ومعاتبته))، ثم تلبس وجلس يحكيه ويقتص ما لقيه به. ثم اتصل ذلك بأحمد بن طولون فأمسك عنه، وتتبع غوائله.
((واضطربت الرعية لنزاع السعر، وقد بلغ ثلاثة أرادب حنطة بدينار. فركب وتقدم بعقوبة القماحين، وازدحمت النظارة من السطوح عليه. فوقع مركن فيه ريحان إلى الأرض، بمزاحمة من تشوف إليه من النساء، فمسح كفل دابة أحمد بن طولون، فسأل عن الدار: ((لمن هي؟))، فقالوا: ((لحسين بن شعرة!))، فأحضره وضربه ثلاثمائة سوط، وطاف به. وكان ما أوقعه به من أجل متقدم سوالفه إليه، ولم يفلح الحسين بن شعرة بعدها.
((وزاد أمر أحمد بن طولون في القوة وزيادة المال ووفور الكفاية، حتى تهيبه ابن مدبر، فحدثني أبو العباس الطرسوسي، أنه سمع أحمد بن طولون يقول له: ((يا أبا الحسن! أنشدك الله إن تعرضت لي ولا ترسمت بعدواتي، فقد اجتهدت في استصلاحك فلم أصل إلى ذلك))، فقال له ابن مدبر: ((والله ما أرد أمرك فيما أتقلده، وإني فيه كالمقيم من قبلك، فأي شيء أنكرت علي حتى أتجنبه؟))، فقال: ((أنكر عليك المكاتبة إلى الحضرة، وقد قلدتك البغي))، فحلف له ابن المدبر أنه لا يكتب إلا بشكره.
((وصرف ابن المدبر عن مصر بأبي أيوب -ابن أخت أبي الوزير- فلما أجمع الشخوص عنها قال له أحمد بن طولون: ((يا أبا الحسن، لو أردت بك سوءا لقدرت عليه، وأحتاج إلى أن تجدد تلك اليمين))، فحلف له بالمحرجات أنه لا يألو حرصا في تزيين آثاره وتطييب أخباره، وأشهد عليه الله بذلك. وخرج عن مصر متقلدا للشام فأقام مع ماجور.
((فحدثتني نعت مولاة أحمد بن طولون؛ وأم ثلاث بنات كن له - فقالت ((كنت عند مولاي بائتة فسمعته يحلم في نومه، فخفت أن أنبهه فينكر علي هذا، فانتبه وجلس ومسح عينيه وقال: ((خير إن شاء الله)). فسألته عما رأى فقال: ((رأيت ابن مدبر قائما في وسط برية، ومعه قوس موترة وسهام، وأنا تجاهه قائم، ومعي جميع السلاح إلا القوس، وبيننا نهر، فكأنه يسدد السهم نحوي ويرمي، فأخطأني. وكأن قائلا يقول: ((لو رماك يومه كله لما أصابك به، لأنه عاهدك، وما يضر هذا الفعل غير نفسه)) فكأنه اشتد علي انهماكه في الرمي لي، وليس في يدي غير سيف وشرخ وما أشبههما، لا تعمل في البعد، وقد حال النهر بيني وبين العبور إليه. فإنا على هذا، حتى نضب النهر فلم يبق فيه قطرة، فعبرت إليه، فكأني كنت كلما قربت منه يصغر، حتى صار بمنزلة من يواريه الكف، فأخذته بيدي أستطرفه، ثم ألقيته من قامتي على رأسه فمات. فتأولت سهامه: المكاتبة في والتحريض علي، والنهر الذي منعني منه: مقام ماجور بدمشق، ونضوبه: موت ماجور، وصغره: قدرتي عليه، واحتيازه في كفي: قبضي عليه، وقول القائل لي في السهام أنها تخطئك: أن الله لا يعينه علي)).
((فحدثت هذا الحديث سعدا الفرغاني -غلام ابن طولون- فقال لي ما سمعت بهذا إلا منك، والذي عندي من خبره مطابق لهذه الرؤيا. وذلك أن الحسن بن مخلد برم بكيد الكتاب وانتقاض الأولياء. فكتب إلى أحمد بن طولون يذكر له رغبته في المقام بمصر. فكتب إليه أحمد بن طولون: ((إنما أنا وليك، ومقام صنيعة من صنائعك!)). وصوب رأيه فيما آثره. فحج من #73# بغداد، وثنى عنانه إلى مصر، فمنعه صاحب البذرقة. فأنفذ كتبا إلى أحمد بن طولون، فكان أول ما صدر منها أربعين كتابا جميعا بخط ابن المدبر، يعظم فيها أمر أحمد بن طولون ويقول: ((إنه قد عزم على أن يجلس خليفة))، ويصفه بكل غدر، فعجب منها ابن طولون. ثم مات ماجور، واحتاز دمشق والشام، وأنفذني إلى الرملة فقبضت عليه وأشخصته إليه. فأقام مدة في حبس ضيق، وجفو مما جرت به عادته، حتى ذهب بصره ومات)).
صفحہ 69