مجمل تاريخ دمياط : سياسيا واقتصاديا
مجمل تاريخ دمياط : سياسيا واقتصاديا
اصناف
وتروي هذه الأخبار أيضا أن السلطان قطز الذي ولي بعد المعز أيبك قد أرسل في سنة 657 / 1259 المنصور بن أيبك وأخاه وأمه إلى دمياط، واعتقلهم في برج عمره هناك، وسماه برج السلسلة. وقد يفهم من هذا الخبر لأول وهلة أن قطز بنى في دمياط برجا جديدا، ولكن تسمية هذا البرج ببرج السلسلة تجعلنا نجزم بأنه هو نفسه برج السلسلة القديم، وأن المماليك الذين هدموا دمياط قد أبقوا هذا البرج، وأن الذي فعله قطز إنما هو تعمير البرج، أي ترميمه وإصلاحه. (5-4) في عهد الظاهر بيبرس
وقتل قطز بعد انتصاره على التتار في وقعة عين جالوت، وولي عرش مصر الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدراي. ويعتبر بيبرس المؤسس الحقيقي لدولة المماليك في مصر؛ فقد طالت مدة حكمه، وقد بذل الجهود القوية للتمكين لهذه الدولة، ومن وسائله لهذا: العناية الفائقة بتحصين مصر وثغورها، وقد نالت دمياط نصيبها الموفور من هذه العناية.
أدرك بيبرس أن دمياط الجديدة لا تحميها أسوار أو حصون، كما أدرك أن برج السلسلة مع قوته ومناعته قد يقع في أيدي العدو؛ ولهذا لجأ إلى طريقة فعالة لحماية مدخل النيل عند دمياط، ففي السنة الثانية من حكمه، وهي سنة 659 / 1261 «أمر بردم فم بحر دمياط، فخرج جماعة الحجارين وألقوا فيه القرابيص حتى يضيق وتمتنع السفن الكبار من دخوله.»
ثم لاحظ بيبرس أن العناية بالأساطيل قد فترت بعد خروج الفرنسيين من مصر، وثغور مصر - وخاصة دمياط والإسكندرية - لا يمكن أن يحميها إلا الأساطيل؛ «فأنشأ عدة شوان بثغري دمياط والإسكندرية، ونزل بنفسه إلى دار الصناعة، ورتب ما يجب ترتيبه، وتكامل عنده ببر مصر ما ينيف على أربعين قطعة وعدة كثيرة من الحراريق والطرائد ونحوها.»
وفي شوال سنة 661 خرج بيبرس وزار الإسكندرية وأشرف على أسوارها وحصونها، وفي السنة التالية 662 / 1264 خرج إلى دمياط فزارها، وأمر بالعناية بأبراجها وأسطولها، وأقام بها - كما أقام بغيرها من الثغور - حامية كبيرة العدد للدفاع عنها.
واستعادت دمياط مكانتها شيئا فشيئا، وعاد إليها أسطولها، وكان مقدم أسطول دمياط - أي قائده أو رئيسه - واحدا من كبار رؤساء الأسطول المصري العام، ومن دمياط بدأت تخرج الغارات البحرية - كما كان العهد في العصرين الفاطمي والأيوبي - ففي عهد بيبرس، وفي سنة 699 / 1270 خرج الأسطول المصري من دمياط يريد غزو جزيرة قبرص، ولكنه لم يوفق، وأسر كثير من جنده وقواده - ومن بينهم مقدم أسطول دمياط - وبقوا في الأسر إلى أن تحيل بيبرس في استنقاذهم في سنة 673. وعني بيبرس بشئون دمياط المدنية عنايته بشئونها الحربية؛ فأمر بعمارة الجسر (الطريق الزراعي) الذي يصل بينها وبين القاهرة. (5-5) دمياط في أواخر القرن السابع الهجري: الشيخ فاتح الأسمر
وظلت دمياط الجديدة تنمو شيئا فشيئا، وقصدها العلماء والصوفية من كل حدب وخرج علماؤها إلى الأقطار، فممن وفد عليها في أواخر القرن السابع الهجري (13م) الشيخ فاتح بن عثمان الأسمر التكروري، قدم إليها من مراكش حوالي سنة 678ه - أي بعد إنشاء المدينة الجديدة بنحو خمس وعشرين سنة - فأقام بها مدة، ثم نزح عنها إلى تونة فلبث بها سبع سنين، ثم عاد إلى دمياط فأقام في جامعها القديم الذى بقي بعد هدم المدينة القديمة، وجعل مقره في وكر بأسفل منارته. وكان هذا الجامع - منذ هدمت دمياط - مهدما مهملا لا يفتح إلا في يوم الجمعة، فاعتنى به الشيخ فاتح، ورمم جدرانه، ونظفه بنفسه حتى طرد الوطواط الذي كان يقيم بسقوفه، وساق الماء إلى صهاريجه، وبلط صحنه، وسبك سطحه بالجبس، ورتب فيه إماما يصلي بالناس الصلوات الخمس، وأقام هو في بيت الخطابة مواظبا على قراءة الأوراد وتلاوة القرآن، وكان يقول: «لو علمت بدمياط مكانا أفضل من الجامع لأقمت به، ولو علمت في الأرض بلدا يكون فيه الفقير أخمل من دمياط لرحلت إليه وأقمت به.» وكان هذا الشيخ على خلق عظيم، فكان يحب الفقر ويتواضع مع الفقراء، ويتعاظم على العظماء والأغنياء، وإذا اجتمع عنده الناس قدم الفقير على الغني، وإذا مضى الفقير من عنده سار معه وشيعه عدة خطوات وهو حاف، ووقف ينظره حتى يتوارى عنه، وكان يكرم الأيتام ويشفق على الضعفاء والأرامل، ويبذل شفاعته في قضاء حوائج الخاص والعام من غير أن يمل ولا يتبرم بكثرة ذلك. تزوج في آخر حياته بامرأتين، وكان يقرأ في المصحف ويطالع الكتب، وإنما لم يره أحد يخط بيده شيئا. توفي ليلة الثامن من شهر ربيع الآخر سنة 695 (فبراير 1296) وخلف ولدين ليس لهما قوت ليلة، وعليه دين قدره ألفا درهم، ودفن في قبره بجوار الجامع القديم.
ومنذ ذلك الحين عرف ذلك الجامع بجامع الفتح، وهو تحريف للفظ فاتح - اسم الشيخ - ثم ظن الناس تخريجا من هذا الاسم المحرف أن هذا الجامع بني زمن الفتح الإسلامي، وهو ظن خاطئ يعوزه الدليل التاريخي المادي، وينفيه ما ذكره المقريزي من أنه لما زار دمياط في أوائل القرن التاسع الهجري شاهد بنفسه نقشا بالقلم الكوفي على باب هذا الجامع يثبت أنه عمر بعد سنة خمسمائة من الهجرة، أي أنه يرجع إلى العصر الفاطمي، وهو قول تؤيده الدراسات الأثرية للنقوش والكتابات والزخارف الخشبية التي كانت تزين جدران هذا الجامع حتى وقت قريب، والتي نقلت إلى دار الآثار العربية بالقاهرة، فهذه النقوش والكتابات جميعا من الطراز الفاطمي.
وهذا الجامع يعرف الآن أيضا باسم جامع أبي المعاطي القديم، كما يعرف ضريح الشيخ فاتح باسم جامع أبي المعاطي الجديد نسبة للشيخ فاتح، فقد عرف الرجل - لكثرة عطائه - بهذه الكنية (أبو المعاطي)، ولقد غلبت هذه الكنية على الشيخ واسمه، فأهل دمياط الآن لا يعرفون من هو فاتح، وإنما يعرفون تماما من هو «سيدي أبو المعاطي». (5-6) دمياط في القرن الثامن الهجري: وصف ابن بطوطة لها
وبعد نحو خمس وسبعين سنة من هدم دمياط القديمة كانت دمياط الجديدة قد نمت واكتمل نموها، وامتدت رحابها، وكثرت مبانيها، ودبت الحياة في أرجائها، فقد زارها الرحالة المشهور ابن بطوطة في سنة 725 / 1325 ووصفها وصفا رائعا، فقال إنها: «مدينة فسيحة الأقطار، متنوعة الثمار، عجيبة الترتيب، آخذة من كل حسن بنصيب.» ووصف منازلها بقوله: «ومدينة دمياط على شاطئ النيل، وأهل الدور الموالية له يستقون منه الماء بالدلاء، وكثير من دورها بها دركات ينزل فيها إلى النيل.»
نامعلوم صفحہ