وبعد فإذا كان -على- يتصرف بهذه الوجوه كلها فلم حملتم قوله: (على العرش) على معنى الالتزاق والفوق دون هذا الذي ذكرنا وعددنا؟ وأما الذي ذكروه في تثبيت العرش على المعقول، وما احتجوا به على ذلك فإن الذين زعموا من المتكلمين أن قوله: (عرش (¬1) )، إنما هو مثل ومجاز من مجازات العرب، وليس في السماء شيء يقال له عرش، وإنما هو عندهم على معنى قوله: (لقد كاد أن يهد عرشي لولا أن تداركني منه برحمة) وعلى مجرى قول العرب: قد ثل عرش بني فلان، وقد شالت نعامتهم (¬2) ، وعلى قول الشاعر:
رفعت بني حواء إذ مال عرشهم ... ... ... وذلك مني في صريم مصلل
وعلى قول الشماخ:
ولما رأيت الأمر عرش هوية ... ... ... تسليت حاجات النفوس بشمرا
وقالوا في الكرسي (¬3)
¬__________
(¬1) روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رؤي في المنام فقيل ما فعل بك ربك...؟ فقال: "لولا أن تداركني برحمته لثل عرشي".
(¬2) يقال: شالت نعامته إذا خف وغضب ثم سكن، وشالت نعامتهم: إذا تفرقت كلمتهم، أو ذهب عزهم، أو ماتوا، والنعامة: الجماعة، والشول: بقية الماء في الدلو أو السقاء.
(¬3) الكرسي: في تعارف العامة: اسم لما يقعد عليه، قال: "وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب" (سورة: ص 34)، وهو في الأصل المنسوب إلى الكرس، أي المتلبد، أي المجتمع، ومنه الكراسة للمتكرس من الأوراق، وكرست البناء فتكرس.
قال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا ... ... ... قال: نعم أعرفه، وأبلسا
والكرس أصل الشيء، يقال: هو قديم الكرس، وكل مجتمع من الشيء كرس، والكروس المتركب بعض أجزاء رأسه إلى بعض لكبره، وقوله تعالى: {وسع كرسيه السموات والأرض} (سورة البقرة: 255)، وقد روي عن ابن عباس أن الكرسي العلم. وقيل: كرسية ملكه، وقال بعضهم: هو اسم الفلك المحيط بالأفلاك، قال: "ويشهد لذلك ما روي: ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة". راجع تفسير القرطبي عند تفسير هذه الآية، وتفسير الطبري أيضا، والمفردات في غريب القرآن.
صفحہ 127