إن إسكندر ساويروس ولد بسورية، ويقال: بعرقا سنة 209، ونرى السوريين دبروا شئون المملكة الرومانية في ذلك العصر نيفا وأربعين سنة، وكل ضليع بالتاريخ يعلم ما كان لجولية دمنة ابنة كاهن حمص، وعقيلة سبتيمون ساويروس من السلطة النافذة عند هذا الملك، وما كان لها من الاجتماعات بالفلاسفة وأعيان المملكة، وكان بابينيان البيروتي وأولبيان الصوري ويوليوس الصوري أيضا رؤساء الحرس عند هذا الملك، وكان لهذا المنصب المقام الأول بعد الملك إذ كانت له الرياسة على أخص الجنود والقضاء في جميع الدعاوى، وبعد وفاة سبتيموس ساويروس وخلافة ابنيه كان لأمهما جولية دولية دمنة النفوذ الكبير في تدبير المملكة، وبقي بعض رؤساء الحرس على ما كانوا عليه، وإن نفى أليوكبل بعضهم فقد استرجعهم إسكندر ساويروس دون إبطاء، وفي أيام أليوكبل كان تدبير الملك بيد جدته ميزا وأمه سومياس وخالته مما، ولما استوى إسكندر ساويروس على منصة الملك كانت أمه تدبر المملكة؛ لأنه كان صغيرا، يعاونها في ذلك أولبيان الصوري، واستمرت على ذلك إلى وفاة ابنها سنة 235، فالمدة من ملك سبتيموس ساويروس سنة 193 إلى وفاة إسكندر ساويروس سنة 235 هي 42 سنة.
وكانت ميزا جدة الملك مشهورة بالحكمة وأصالة الرأي وأمه معروفة بعلو المدارك وحسن الأدب، وكان بينها وبين أوريجانس الشهير مراسلات (أوسابيوس ك6 ف21)، فصرفتا الملكتان قصارى الجهد في العود إلى الاستقامة وضبط الأحكام، وانتخبتا من رجال الندوة ستة عشر رجلا ديوان مشورة للملك، وجعلت أمه أولبيان الصوري بمنزلة نائب له، فأصلح كثيرا من الشرائع وعدل بعضها، وكان هذا الملك من أقل الملوك تشبثا بالوثنية وكأنه مسيحي، وكتب على باب قصره ما ورد بالإنجيل «لا تصنع بغيرك ما لا تريد أن يصنعه الناس بك»، ووضع صورتي المسيح وإبراهيم بين صور آلهة الوثنيين، وأتى إلى سورية لمحاربة الفرس الساسانيين، فكانت معه أمه مما ... والظاهر من خطبته في الندوة أنه انتصر عليهم، وأخذ منهم ثلاثمائة فيل وقتل مائتي فيل وأتى إلى رومة بثمانية عشر فيلا وقتل عشرة آلاف رجل وأسر كثيرين، وحالف عليه مكسيموس أحد قواد جيشه وهو في متس وفتك الجنود به وبأمه في 19 آذار سنة 235، ونادوا بمكسيموس ملكا بعد قتل إسكندر ساويروس إلى أن استولى على منصة الملك فيلبوس العربي سنة 244، وسمي مرقس يوليوس فيلبوس، وكان قد ولد ببصرى من بلاد حوران وروى ودنيكتون أنه ولد في اللجا، ويظن أن هذا الملك كان مسيحيا، وروى أوسابيوس في الكرونيكون أنه أول من صار مسيحيا من الملوك الرومانيين، وقتله داشيوس سنة 249، وقتل داشيوس في الحرب مع الغطط، وقام بعده غلوس ثم فالريان. (3) في ما كان بسورية في أيام فالريان
إن فالريان أتى إلى أنطاكية، وسار بجيشه إلى الرها لمحاربة الفرس الذين كانوا يحاصرونها، فانتصر عليه سابور ملك الفرس، فطلب الصلح فأبى سابور إلا أن يتشافها، فاغتر فالريان ووافاه بقليل من الجند فقبض عليه فرسان سابور في طريقه وأشخصوه أسيرا إلى سابور، وفي رواية أخرى أنه أسر في وقعة وبقي في أسره ذليلا ست سنين ثم أماته سابور، وبعد أسر فالريان غشى سابور بجيشه سورية فافتتح أنطاكية، ودانت له سائر الأعمال، ثم انصرف إلى آسيا الصغرى فجمع مرقيان نائب فالريان وباليستا رئيس حرسه بقايا الجيش الروماني، وتحصنوا بسيمساط، وكان التدمريون يرغبون في موالاة سابور لرواج تجارتهم، فأرسلوا إليه عند افتتاحه سورية وفودا وهدايا طالبين موالاته، فأجابهم أنه لا يريد موالاة بل خضوعا مطلقا لسلطته، وكان أميرهم حينئذ سبتيموس أذينة فهيج قومه، واستدعى شيوخ العرب لمناوأة سابور فلبوا دعوته، وكان بتدمر جالية رومانية ضمها إلى جيشه، وزحف به إلى معسكر الفرس من الجنوب وكان باليستا يضايقهم من جهة الشمال، فوجس سابور وسار بجيشه نحو الفرات، فقطع الطريق عليه جيش روماني كان بالرها، فأرغم الفرس أن يبتاعوا ممرهم بالفرات بكل ما غنموه من سورية، وضم أذينة باليستا إليه فاتقعوا مع الفرس بقطيسفون وأخذوا خزائن سابور، وسبوا بعض حرمه وأسروا كثيرين من ولاة الفرس، لكنهم لم يستطيعوا إنقاذ فالريان مع أسره.
وعاد أذينة من هذه الحرب فائزا غانما فسماه قومه والعرب ملكا، وسماه غاليان بن فالريان غازيا رئيس الجيش الملكي في تلك الأنحاء، وكان ذلك سنة 262، وبعد أن أقام أذينة بخدمات للرومانيين أقر له العاهل الروماني بلقب أغوسطوس على ما روى بعضهم، ولكن روى دي فوكوي وغيره سندا إلى بعض خطوط أن العاهل الروماني سمى ملك تدمر إمبراطورا أي: غازيا. (4) في زينب ملكة تدمر ومحاربة أورليان لها
إن زينب التي تسميها العامة زبيدة كانت تدعي اتصال نسبها بالبطالسة ملوك مصر، وأنها من سلالة فلوبطرة الشهيرة وهي بنت أمير عربي يسمى زينبوليوس، ويقال: إنها كانت بديعة الجمال ذات عفة وكانت تفقه لغات كثيرة حتى اللاتينية، وروى بعضهم أنها ألفت تاريخا لإسكندر الكبير والمشرق، وكانت مولعة بمطالعة كتب أوميروس، وكانت تباحث لنجين الفيلسوف في الفلسفة وبولس السيمساطي بطريرك أنطاكية في اللاهوت، وتزوجت بأذينة ملك تدمر المار ذكره وصحبته في محاربته للفرس، وحاولت أن تتولى مصر من دونه، ولما قتل زوجها سمت ابنها وهيلات ملكا وابنيها الآخرين قيصرين، وكانت تدير المملكة مسماة ملكة أغوسطا، وأرسلت جيشا استحوذ على الإسكندرية وبعض أعمال مصر، ورغب أهل آسيا الصغرى الانضواء إلا أهل بيتينيا.
وفي سنة 272 سار أورليان إلى أنطاكية بجيش كثيف وكانت زينب هناك مع فريق من فرسانها، وتسعرت نار الوغا، فافتتح الرومانيون أنطاكية، وتقهقر التدمريون إلى قنسرين فنظم أورليان شئون أنطاكية وجد في لحاق زينب، فأزاح عسكرها من موقفه فساروا إلى حمص، وألبت زينب هناك سبعين ألفا، وأقامتهم في حصون وأمامهم صحراء يتسع المجال فيها للفرسان، وتأججت نار الحرب وحمل أورليان على قلب جيش التدمريين، فزحزحه من مواقفه لكنه خسر خسائر كبيرة ولم يستطع لحاق الأعداء، وعقدت زينب لجنة مشورتها، فارتأوا أن ينصرفوا إلى تدمر واهمين أن الجيش الروماني لا يستطيع الوصول إليهم، فخاب ظنهم، وسار الرومانيون يتتبعون خطاهم إلى تدمر وأقاموا عليها الحصار، وكتب أورليان إلى زينب ينذرها بالاستسلام إليه، فأجابته أن الحرب قاضية بيني وبينك وهددته بالفرس والعرب.
وشد الحصار أورليان على تدمر والتضييق على أهلها، وكانت زينب تتوقع إنجاد الفرس والعرب فلم يكن منجد، ورأت أن الأقوات غير كافية لقومها مدة طويلة، فركبت الهجين مجدة في سيرها إلى بلاد فارس لتستحث حكومتها على إنجادها، فأدركها الفرسان الرومانيون عند الفرات، فقبضوا عليها ووقع البلبال بين رجالها بتدمر وأخيرا تركوا سلاحهم وفتحوا أبواب المدينة، فدخلها أورليان وعامل أهلها بالحلم والرقة واكتفى بأن يأخذ خزينة زينب وحاكم زينب بحمص، فقصر القضاة الجناية على حاشيتها فقتلهم أورليان، واستبقى زينب وأرسلها إلى رومة وكان ذلك سنة 273، وأقامت زينب في تيفولي على مقربة من رومة حيث توفيت ... ويعزى إلى هذه الملكة كثير من الآثار بسورية، ولا يظهر أن مدة ملكها الوجيزة كانت كافية لإنشاء هذه الآثار، ويظهر أن التدمريين ثاروا بعد سفر أورليان على حامية الرومانيين وقتلوهم، وأقاموا رجلا اسمه أنطيوكس ملكا عليهم، فأرسل أورليان عليهم جيشا أو عاد بنفسه إليهم، فانتقم منهم بقتل كثيرين دون شفقة. (5) في ملوك بني غسان في دمشق وعبر الأردن
قد مر في عدد 84 أن بني غسان ظعنوا من العربية إلى سورية في القرن الثاني أو الثالث، وهم فصيلة من بني أزد يصلون نسبهم بكهلان بن سبأ بن قحطان بن عامر، نزلوا على ماء في الشام يسمى غسان فنسبوا إليه، وكان رئيسهم جفنة والأوس، وكان قبلهم بسورية عرب يقال لهم: الضجاعمة أخرجوهم عن ديارهم وصاروا موضعهم، وسمى قومهم روساءهم ملوكا، وكانوا عمالا للرومانيين بدمشق والجولان والبلقاء، وكان جفنة أول ملك عليهم، وقال أبو الفداء: إنه بنى بالشام عدة قرى وقصور وحصون، وإنه خلفه ابنه عمر، وبنى بالشام عدة أديار إذ كانوا نصارى منها دير أيوب ودير هند، وتسلسل ملوكهم حتى عدهم ابن خلدون اثنين وثلاثين ملكا، وكثر فيهم اسم الحارث والمنذر، ولا يمكن تعيين سني ملكهم إلى أن كان منهم في صدر الإسلام ملك يسمى جبلة بن الأيهم، وقد أسلم لما افتتح المسلمون الشام ، وهاجر إلى المدينة وأحسن عمر بن الخطاب ملتقاه ونزله ... فوطئ رجل إزاره فانحل عند التطواف بالبيت فغضب جبله ولطم الرجل فهشم أنفه، فشكاه الرجل إلى عمر فقال له: دعه يلطمك كما لطمته، فقال جبلة: أيقاد في دينكم للسوقة من الملوك؟ فقال عمر: أجل وهما في الحق سواء ... فصبر إلى الليل وخرج بغلمانه وسار حتى القسطنطينية، وبقي فيها حتى مات سنة 20 للهجرة وانقرض به ملوك غسان. (6) في بعض مشاهير سورية الدنيويين
منهم برفير:
ولد بصور سنة 233، ودرس الفصاحة بأثينا والفلسفة برومة على بلوتين الفيلسوف المصري، وصحبه من سنة 263 إلى سنة 270 التي توفي بلوتين فيها، وبعد وفاته صار برفير مدرسا للفصاحة والفلسفة برومة، وأثنى العلماء عليه حتى دعاه القديس أغوسطينوس أعلم الفلاسفة، وأدركته المنية سنة 305، وتآليفه كثيرة أتلفت الأيام بعضها وبلغ إلينا منها كتاب في ترجمة بلوتين أستاذه، وترجمة بيتاغورس حاوية تاريخا فلسفيا ومقالة في القناعة والإمساك عن أكل اللحم، ورسالة إلى أنيبون الكاهن المصري، وله كتاب مقدمات على مقالات أرسطو، فهذه التآليف مترجمة إلى الإفرنسية ومطبوعة، وأما كتبه المفقودة فأشهرها كتاب خطبه في رد مزاعم المسيحيين، وهذا الكتاب قد رده كثيرون من الآباء القديسين منهم القديسون متنوديوس أسقف صور، وأغوسطينوس، وإيرونيموس، وكيرلس الأورشليمي وغيرهم، وكان برفير كأستاذه بلوتين يسلم بنوع من الثالوث مقرا بأن فيه ثلاثة أقانيم، أون وهو الله نفسه، وتوس وهو فهمه وحكمته، وبسوكي وهو روحه، ويقول: إن أول هذه الأقانيم أكملها، والأقنومين الأخيرين منبثقان منه.
نامعلوم صفحہ