فسار الملك الكامل وولى على نابلس والقدس وغيرهما من بلاد ابن أخيه، فلجأ الناصر إلى عمه الملك الأشرف فأمنه على بلاده، واتفق مع أخيه الكامل على أخذ دمشق من ابن أخيهما الناصر، وتعويضه عنها بحران والرها والرقة، وأن تستقر دمشق للملك الأشرف، فتحصن الناصر بدمشق وحصره عمه الأشرف بها، وعاونه الملك الكامل على الحصار حتى استولى الكامل على دمشق، وعوض الناصر صاحبها بالكرك والبلقا، والصلت والأغوار والشوبك، وتسلم الأشرف دمشق وسلم الكامل حران والرها والرقة، ومن بعد أخذ دمشق نازل الكامل حماة، وسلمها إلى الملك المظفر أخي الملك الناصر الذي كان واليها، وانتزع سلمية من يده وسلمها إلى شيركوه صاحب حمص، وأمر أن يعطى الملك الناصر بعرين، وفي سنة 1230 استولى الملك الأشرف صاحب دمشق على بعلبك، وعوض صاحبها الملك الأمجد من الأيوبيين الزبداني وقصير دمشق، وفي سنة 1233 استولى الملك العزيز صاحب حلب على شيزر، وفي سنة 1237 توفي الملك العزيز وتقرر في الملك بعده ابنه الملك الناصر يوسف، وكانت وحشة بين الملك الكامل وأخيه الملك الأشرف صاحب دمشق، وكان أكثر ولاة سورية مع الأشرف ولكن توفي الأشرف سنة 1238، وخلفه أخوه الصالح إسماعيل فقصده الكامل وحاصر المدينة، وأكره الصالح أن يسلمها وتعوض عنها بعلبك والبقاع مضافا إلى بصرى التي كانت للصالح، ثم توفي الملك الكامل سنة 1238 المذكورة، وخلفه ابنه الملك العادل، وبقي في مصر وأقام نائبا له بدمشق الملك الجواد يونس حفيد الملك العادل الأول. (5) في ما كان بين الملوك الأيوبيين بعد وفاة الكامل
لما بلغ الحلبيين خبر موت الكامل قصدوا أن يأخذوا حماة من الملك المظفر وحاصروها، وأراد الملك العادل بن الكامل أن يعزل نائبه في دمشق، وهو الملك الجواد المار ذكره، فسلم دمشق إلى الملك الصالح أيوب، وكاتبه المصريون ليملكوه بمصر، فخرج من دمشق وخالفه بعض الملوك الذين بسورية، وكان الصالح أخا العادل، ولما خرج لقتال أخيه ثار جماعة من المماليك، وبمقدمتهم أيبك الأسمر وأحاطوا بالعادل وجعلوه في خيمة وعليه من يحفظه، وملكوا أخاه الصالح أيوب بمصر، وفي سنة 1241 قبض على أيبك الأسمر وغيره من المماليك وأودعهم السجن، وفي سنة 1242 اتفق الصالح إسماعيل صاحب دمشق مع بعض الأمراء بسورية على مناوأة الصالح أيوب صاحب مصر، وفي سنة 1244 سلم إسماعيل المذكور وصاحب الكرك عسقلان وطبرية والقدس إلى الإفرنج؛ ليعضدوهما على أيوب صاحب مصر، فاستدعى هو سنة 1245 الخوارزمية لنجدته، ووصلوا إلى غزة ووافتهم العساكر المصرية، وأرسل إسماعيل عساكره إلى عكا وخرج معهم الفرنج، والتقى الفريقان بظاهر غزة واتقعا، فانهزم عسكر دمشق والإفرنج، وتبعهم عسكر مصر والخوارزمية فقتلوا منهم خلقا كثيرا، واستولى صاحب مصر على غزة والسواحل والقدس، وسار عسكر مصر والخوارزمية إلى دمشق وحاصروها، فتسلموها سنة 1246 وأعطى إسماعيل بعلبك، ثم خرج الخوارزمية من طاعة صاحب مصر، وانقلبوا إلى معاضدة إسماعيل وعادوا فحاصروا دمشق على المصريين، واتفق الحلبيون وصاحب حمص مع الصالح صاحب مصر على الخوارزمية المحاصرين لدمشق، وكانت بينهم وقعة سنة 1247 انهزم بها الخوارزمية هزيمة قبيحة تشتت بها شملهم، وأما إسماعيل الذي أخذت منه دمشق فاستجار بصاحب حلب، وطلبه صاحب مصر فلم يسلمه صاحب حلب وأخذت بعلبك من أولاده.
وفي سنة 1248 استرد صاحب مصر عسقلان وطبرية من يد الإفرنج بعد محاصرتهما مدة، وكانوا قد تسلموهما سنة 1244، وفي سنة 1249 أرسل الناصر صاحب حلب عسكرا، فحاصر الملك الأشرف بحمص فسلمها إليه معتاضا عنها بتل باشر مضافا إلى ما بيده من تدمر، فشق ذلك على الصالح صاحب مصر، فسار إلى دمشق وأرسل عسكرا حاصر حمص إلى أن سعى الخليفة بالصلح بين الصالح والحلبيين على أن تستقر حمص بيد الحلبيين، فأجابه الصالح إلى ذلك وعاد إلى مصر. (6) في الخوارزمية وغزواتهم بسورية
الخوارزمية ينتسبون إلى خوارزم في البلاد الشرقية وأصلهم من التتر، فأخرجهم التتر من بلادهم فتوطنوا الجزيرة، وفي سنة 1241 ساروا إلى قرب حلب فالتقاهم الحلبيون، لكنهم انهزموا من وجههم هزيمة قبيحة، وقتل الخوارزمية منهم خلقا كثيرا وأسروا منهم جماعة، ودخلوا حلب وارتكبوا فواحش، ثم ساروا إلى منبج وفتكوا بأهلها ثم أغاروا ثانية على الجبول وتل إعزاز وسرحين والمعرة، فالتقاهم الملك المنصور صاحب حمص ومعه عسكر دمشق، واجتمع معه الحلبيون وقصدوا الخوارزمية وهم على شيزر فرحلوا عنها إلى حماة، ثم ساروا إلى سلمية ثم إلى الرصافة، ولحقهم عسكر حلب وهجم عليهم العرب فرموا ما كان معهم من المكاسب، وتركوا الأسرى وقطعوا الفرات، وتبعهم الحلبيون واتقعوا معهم قرب الرها فانهزم الخوارزمية وركب الحلبيون أقفيتهم يقتلون منهم، ويأسرون إلى أن حال الليل بينهم واستولى عسكر حلب على الرقة والرها وسروج وغيرها.
وسنة 1243 تجدد القتال بين عسكر حلب، ومعهم صاحب حمص والخوارزمية ومعهم الملك المظفر صاحب ميافرقين فانهزم الخوارزمية أقبح هزيمة، وفي سنة 1245 دعا صاحب مصر الخوارزمية إلى غزة، فانتصروا مع عسكره على عسكر دمشق والإفرنج ثم خرجوا عن طاعة صاحب مصر، ونجدوا الملك الصالح إسماعيل في حصار دمشق فردهم الحلبيون عنها، ثم شتتوا شملهم سنة 1247 كما مر، وكانوا قد أتوا أورشليم وهرب سكانها ومن بقي منهم هرع إلى كنيسة القبر المقدس، فدخل الخوارزمية إليهم وقتلوا وقطعوا رءوس الكهنة، وأخربوا القبر وأزالوا الرخام الذي كان بالكنيسة، وهدموا مدافن ملوك الإفرنج ودنسوا جبل صهيون وكنيسة وادي يوشافاط، وساروا إلى بيت لحم وفعلوا الفظائع بكنيستها ... فحينئذ اتفق الإفرنج مع ملك دمشق وحمص، وحاربوا الخوارزمية فانكسر المسلمون أولا وصبر النصارى على القتال، وكان عددهم قليلا فقتل منهم كثير ثم حاصر الخوارزمية يافا، وكانوا قد أخذوا كوتيا دي بريان واليها أسيرا، فعلقوه على صليب تجاه أسوارها وهددوه بالقتل إن قاومهم أهل مدينته، فأخذ يصرخ بأعلى صوته إلى قومه: «دافعوا إلى النفس الأخير هذا هو المفروض عليكم وعلي.» فلم يقو الخوارزمية على فتح المدينة وأرسلوا كوتيا إلى القاهرة، فوثب عليه حشد أماتوه بالضرب. (7) في حملة الإفرنج السابعة على سورية بإمرة لويس التاسع
لما بلغ إلى المغرب خبر ما صنعه الخوارزمية بأورشليم، واستيلاء سلطان مصر عليها بعد أن كان صاحب دمشق تخلى عنها للإفرنج عقد إلبا إينوشنسيوس الرابع مجمعا عاما بليون سنة 1245، كان في جملة مراسيمه استئناف الحملة لإمداد الإفرنج بسورية، وأخص من تجندوا بهذه الحملة القديس لويس التاسع ملك إفرنسة، فسار من إفرنسة في 25 آب سنة 1248، وصرف فصل الشتاء بقبرس، ثم سار إلى مصر توا فبلغ بجيشه إلى دمياط في 4 حزيران سنة 1249، وملك المدينة المذكورة عنوة، وانهزم المسلمون منها وتقدم الإفرنج من دمياط إلى المنصورة، وجرى بينهم وبين المسلمين وقعة عظيمة قتل فيها جماعة من كبار المسلمين وكبار الإفرنج، فقطع المسلمون عليهم خط الاتصال مع دمياط، فعازتهم الأقوات فرحلوا راجعين إلى دمياط، فركب المسلمون أكتافهم واحتاطوهم، وقتلوا منهم نحو ثلاثين ألفا وانحاز الملك لويس بنفر قليل إلى قرية تسمى المنية، وأدركه المسلمون، فدافع عنه من كانوا معه حتى انقرضوا، وأخذ الملك أسيرا وقبض على أخويه وأقاموهم في المنصورة.
ثم راسل المصريون الملك لويس بأنهم يطلقونه على شريطة أن يسلم إليهم دمياط، ويبذل لهم خمسمائة ألف دينار، ورأى هو أن دمياط لا يمكن أن تمتنع على المسلمين، فعقد الصلح بينه وبينهم على ذلك وسلم دمياط إليهم، وسار من دمياط إلى عكا في 14 أيار سنة 1250، فالتقاه النصارى باحتفاء عظيم وصرف عنايته إلى تحصين المدن والقلاع التي كانت بيد الإفرنج، وكانت منازعات بين ملك مصر وملك دمشق والأمراء المسلمين، فكان كل من الفريقين يراسل الملك لويس؛ ليتفق معه ... وعقدت بينه وبين أمراء مصر معاهدة كان من شروطها: أن المصريين يخلون سبيل الأسرى والنصارى وأولاد النصارى الذين كانوا قد أسلموا، ويتخلون للإفرنج عن أورشليم وسائر مدن فلسطين ما عدا غزة وبعض القلاع، ولا يحاربون أورشليم مدة خمس عشرة سنة، وأن الفريقين المتعاقدين يجمعان العساكر ويحاربان معا، وكل ما يغنمانه يقسم مناصفة بين الإفرنج وأمراء المصريين، وعزم المصريون أن يسيروا إلى غزة ثم إلى يافا، وعرف ملك دمشق بهذه المعاهدة فأرسل عسكرا نحو عشرين ألفا، فخيموا بين غزة وقلعة الداروم ليمنعوا الاتصال بين الإفرنج والمصريين، فلم يحضر مفوضون من قبل المصريين للتوقيع على المعاهدة، وإن أتموا بعض شروطها كإطلاق الأسرى، واستمروا يتباطئون عن التوقيع إلى أن أرسل الخليفة العباسي من بغداد من سعى بالصلح بين سلطان الشام، وأمراء مصر فاصطلحوا واتفقوا على محاربة الإفرنج.
وسار الناصر صاحب دمشق بعسكر حتى بلغ أسوار عكا، وتهدد أن يقطع الأشجار ويعطل الحقول، ولما لم تكن طاقة للإفرنج حينئذ على المحاربة دفعوا له خمسين ألف دينار فانصرف عنهم، ووثب جماعة من التركمان على صيدا، فقتلوا من فيها من النصارى ودكوا ما بني من أسوارها، فسار الملك لويس إلى صيدا، وجهز عسكرا أرسله في أثره التركمان إلى بانياس، فانهزم المسلمون منها وملكها الإفرنج، لكنهم لم يقدروا أن يحفظوها فنهبوها وعادوا إلى صيدا.
وقد روى بعض علمائنا وكثيرون من علماء الإفرنج أنه لما كان الملك لويس بعكا أرسل إليه الموارنة هدايا مع الأمير سمعان، وجماعة من رجالهم، فرحب بهم الملك القديس وأرسل معهم رسالة إلى البطريرك والأساقفة يصرح بها باتخاذه الموارنة تحت حمايته، وأرسل إليه الشيخ الجليل المراد به رئيس الإسماعيلية أو النصيرية وفدا ورسالة يزدلف بها له، فأجابه الملك على رسالته، وأرسل إليه كاهنا عالما يرشدهم إلى الإيمان بالمسيح، وقال بعضهم إنهم تظاهروا حينئذ بالنصرانية، وكانوا يمارسون بعض فروضها كتعييدهم بعض الأعياد السيدية التي روي أنهم يمارسونها حتى الآن.
وفي سنة 1253 بلغ الملك لويس خبر وفاة أمه ومدبرة ملكه بلانش دي كستيد، فاضطر أن يعود إلى مملكته، وعاد في 24 نيسان من سنة 1254 تاركا بعكا بعض فرسانه، وواعدا بتواصل عنايته بالأرض المقدسة. (8) تتمة أخبار الملوك الأيوبيين إلى انقراض دولتهم
نامعلوم صفحہ