المُهِمَّات
فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ
تَصْنيف
الشَّيْخ الإِمَام العَلامَة
جمال الدّين عبد الرَّحِيم الأسنوي ﵀ الْمُتَوفَّى ٧٧٢ هـ
اعتَنى بِهِ
أَبُو الْفضل الدّمياطِي
أَحَمَدْ بنْ عَلي
عَفَا الله عَنْهُ
الْجُزْء الأوَّل
مَرْكَز التراث الثقافي المغربي - دَار ابْن حزم
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
المُهِمَّات
فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ (١)
1 / 3
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة
الطبعة الأولى
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
ISBN: ٩٧٨ - ٩٩٥٣ - ٨١ - ٧٤٠ - ٨
الْكتب والدراسات الَّتِي تصدرها الدَّار تعبر عَن آراء واجتهادات أَصْحَابهَا
مَرْكَز التراث الثقافي المغربي
الدَّار الْبَيْضَاء - ٥٢ شَارِع الْقُسْطَلَانِيّ - الأحباس
هَاتِف: ٤٤٢٩٣١ - ٠٢٢ - فاكس: ٤٤٢٩٣٥ - ٠٢٢
المملكة المغربية
دَار ابْن حزم للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - لبنان - ص. ب: ٦٣٦٦/ ١٤
هَاتِف وفاكس: ٧٠١٩٧٤ - ٣٠٠٢٢٧ (٠٠٩٦١١)
بريد إلكتروني: [email protected]
1 / 4
تَقْدِيم الْأُسْتَاذ الدكتور
الْعَلامَة الْفَقِيه الأصولي
الشَّيْخ/ أَحْمد بن مَنْصُور آل سبالك حفظه الله
عُضْو جبهة عُلَمَاء الْأَزْهَر مدير مَرْكَز الْبَحْث العلمي لإحياء الدراسات الإسلامية عميد معهد عُلُوم الْقُرْآن والْحَدِيث للدراسات الإسلامية والعربية
1 / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
أمَّا بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مِمَّا لا يخفي على أحد أن التحقيق من صنعة الكبار الذين يضعون النصوص بين طلاب العلم وأهله في أجود صولة، وأبهى حُلة، لكن مِنْ صغَار طُلَّاب العلم مَنْ لا يُفرق بين التحقيق، وبين الدراسة والتعليق، ممَّا أدَّى بهم إلى الحكم على كثير من الأعمال لاسيما والجيدة منها بأنها لا تَصلح أن تكون تَحقيقًا.
1 / 7
صحيح أن كثيرا من المطبوع يَحتاج إلى طبع من جديد، لكن لا يَمنع ذلك أن في المطبوع أعمالا جيدة كثيرة؛ ولهذا أردت أن أبين لأبنائنا الطلبة ماهية التحقيق، وكيف يكون، وما هي غايته، ونتائجه، وذلك حين حاضرنا في هذا المضمار مُحاضرة في الحرم النبوي الشريف تَحت عنوان: "التحقيق مبادئه وغايته" منذ أكثر من سنتين، ثم جاءت الفرصة لنشر هذه المحاضرة بهذه الصورة، حين أُتيحت لنا فرصة التقدمة لأحد الكتب التي حُققت حديثًا.
فلابد أن تعرف أيها القارئ الكريم أن التحقيق هو السبيل لإبراز التراث القديم في أحسن حلة له، ولولاه ما استطاعَ الكم الهائل من طلبة العلم قراءة ما كتبه أسلافهم الكرام، وما استطاع هؤلاء الطلبة أن يستمروا في هذه النهضة العلمية التي نراها الآن.
فأولًا تجب الإجابة على هذا السؤال: هل التحقيق في مستوى التأليف؟ وهل يُنظر إليه من الناحية العلمية بِمنظار التقدير والأهمية؟
الحق أن التحقيق جهد علمي مشكور، إذا قصد صاحبه خدمة العلم والإخلاص له، وقد يتطلب التحقيق وقتًا أطول من التأليف، كما أن خدمة الكتاب القديم، وإلباسه اللبوس العلمي الجديد أمر لا يقل بِحال عن التأليف، بل إن عمل التحقيق جهد قومي؛ إذ ينير ثقافة الأمة في الأعصر الغابرة، ويثير المعرفة التي اشتهر بها العلماء المسلمون، وما زالت أنظار العلماء تتلفت نَحو الْمُحققين، وتوليهم الاحترام والتقدير الزائدين، ولاسيما من أخلص في عمله منهم، وأصاب في نتاجه.
وفي الحق أن ما وصل إلينا كان تراثًا ضخمًا -وما ضاعَ أو اندثرَ كان أضخم- وخاصة حين تتهيأ الظروف المناسبة لطبع المخطوطات كلها، أو الثمين منها على الأقل، وتتجه الأنظار اليوم إلى إحياء تراثنا العلمي -بعد نشر كثير من التراث الأدبي والتاريخي- في تاريخ الطب والهندسة والبيطرة
1 / 8
والزراعة، فهذا تأكيدٌ على مكانة العرب العلمية في مرحلة سيطروا فيها ثقافيا على عملية الإبداع في العلوم.
ولم يكتف العرب بالحفَاظ على تراثهم، بل كان لهم الفضل الكبير في الحفاظ على تراث الأمم الأخرى، الذي نقله المسلمون إلى حضارتهم، وضاعت أصوله لدى تلك الأمم، كتراث الفرس والهنود والإغريق والرومان.
على أننا نلقى بين الفينة والفينة خصومًا لِهذا التراث العريق، يستخفون به ويعرقلونَ عملية إحيائه ونشره، ويقفونَ حجر عثرة في طريق طلاب الدراسات العليا الراغبين بتقديم دورهم في هذا المضمار، مدعين أن تذكرة العالم بماضينا العريق نوعٌ من التراجع غير المجدي، وأمر لا يدعو إلى الفخار، بقدر ما يحز في النفس ويدعو إلى الأسى، وإلى ضياع الحاضر والمستقبل في التغني بورقات مهترئة نُسيت عبر الزمان. وما دروا أنهم في عدائهم هذا يفصمون عري الحضارة بين الماضي والحاضر، ويضيعون جذورنا، ويريدون أن يغمضوا عين الشمس التي أشرقت يومًا على الغرب، ويفقدونَ الرابط الفكري الذي تَحلى به المسلمون، واعترف به الغربيون، وأفادوا منه كثيرًا، ولو لم تكن قيمة هذا التراث جليلة لما احتفظت به أرقى مكتبات العالم، ولما تسابقت إلى تملكه أعلى المؤسسات العلمية ثقافة.
ونقف اليوم أمام من يشتغلونَ بالمخطوطات وقفة إجلال وتقدير؛ لأنهم وهبوا أحلى ساعات حياتهم بالعيش في رداه الكتبات وبين أروقتها، ينبشون كنوز المسلمين، ويقدمونها للأجيال تنهل منها ما طابَ لها، بعد أن يوجهوا عليها أنوار بصائرهم وبصيراتهم، وكأنَّهم جنود صامتون صامدون، متربصون خلف متاريسهم وداخل خنادقهم.
وسنعمد في هذه التقدمة إلى عرض فكرة موجزة مبسطة بعيدة عن
1 / 9
التعقيد المرهق، والإطناب المزهق، مبينين دور التحقيق ومستلزماته، مستفيدين من تجاربنا الخاصة التي حصدناها منذ سنوات في مضمار التحقيق ودراسة المخطوطات وتدريسها، مستعينين بالملاحظات التي استقيناها من العلماء الذين سبقونا في هذا الميدان، وكل قصدنا أن نضع بين أيدي المحققين من طلاب الدراسات العليا وغيرهم من طلاب العلم المشتغلين بهذا الفن جرعة علمية نافعة، تقوتهم حينًا، وتقودهم إلى تذليل باكورة أعمالهم التحقيقية حينًا آخر.
ولهذا سنشرع في بيان التحقيق غايته ومنهجه، ليعلم الطالب أن الفارق كبير بين التحقيق وبين الدراسة والتعليق.
التحقيق لغةً واصطلاحًا:
شاع في العصر الحديث استعمال كلمة "التحقيق" في نشر الكتب وتصحيحها وخدمتها، بتوثيق نصوصها، وتوضيح غامضها، وضبط مشكلها، وتيسير مادتها للقارئين، والكلمة قديمة لغة واصطلاحًا، ولكنها لَم تكن شائعة الاستعمال شيوعها في العصر الحديث.
ومعنى التحقيق في اللغة: التأكد من صحة الخبر وصدقه، وحقق الرجل القول صدقه، أو قال هو الحق، وفي اللسان: "وتَحقق عنده الْخَبر أي صح، وحقق قوله وظنه تَحقيقًا أي صدق".
أمَّا معناه الاصطلاحي فهو: إثبات المسألة بالدليل، كما يقول الجرجاني في تعريفاته: "التحقيق إثبات المسألة بدليلها"، وكذلك هو عند العلماء، يقول التهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون: "التحقيق في عُرف أهل العلم: إثبات المسألة بالدليل"، ويقول ابن المعتز في طبقات الشعراء بعد أن يورد عدة روايات في سبب مقتل صالح بن عبد القدوس: "والله أعلم بتحقيق ذلك".
1 / 10
ويُسمى الْجَاحظ العالم "مُحِقِّا"، ففي رسالة فصل ما بين العداوة والْحَسد: "إنه لَم يخلُ زمن من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة إلَّا وفيه علماء مُحِقُّون، قرأوا كتب من تقدمهم ودارسوا أهلها". وقال: "واتَّخذهم المعادون للعلماء المحقين عدة"، وما دام التحقيق هو الإثبات بالدليل وتصحيح الأخبار، فإنه صفة من صفات العلماء، ففي الأدب مُحققون وفي النحو والبلاغة وغير ذلك، يقول ابن الأثير كما في الجامع الكبير وهو يعدد ويُسمى جماعة من العلماء ويصفهم بأنَّهم "المحققون": "وأورده جَماعة من العلماء مثل قدامة والْجَاحظ، وأبي هلال العسكري، والغانمي. . في تصانيفهم في باب الاستعارة، ولم يذكروا أن الأصل فيه تشبيه بليغ. . . . وهو الأصلُ المقيس عليه في التشبيه الذي أجمعَ عليه المحققون من علماء البيان"، وكذلك يصفهم ابن أبي الإصبع المصري في بديع القرآن: "المحققون من علماء البيان"، ويصف السيوطي كما في بغية الوعاة أحد الأدباء بأنه: "أحد أفراد أهل الأدب والمحققين به"، ويصف الفيروزآبادي مُحمد بن طلحة النحوي بأنه راسخ في علم العربية وغلب عليه "تَحقيق العربية والقيام عليها"، كما نقل صاحب البُلَغة عنه.
والمراد بالتحقيق الاصطلاح المعاصر كما وضحه العلامة عبد السلام هارون في رسالته: "بذل عناية خاصة بالمخطوطات حتى يُمكن التثبت من استيفائها لشرائط معينة، فالكتاب المحقق هو الذي صح عنوانه واسم مؤلفه ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلي الصورة التي تركها مؤلفه"، وتَحقيق المخطوطة كما يرى الدكتور مصطفى جواد في فن تَحقيق النصوص بأنه: "الاجتهاد في جعلها ونشرها مطابقة لِحقيقتها كما وضعها صاحبها ومؤلفها من حيث الخط واللفظ والمعنى، وذلك بسلوك الطريقة العلمية الْخَاصة بالتحقيق".
1 / 11
تحقيق العنوان:
وأول مهمة تُجابه المحقق هي مدى صحة المخطوطة من حيث نسبتها إلى مؤلفها، ومدى صحة العنوان وانطباقه على موضوع الكتاب، واسم المؤلف ونسبة الكتاب إليه، وكثيرًا ما يَحدث أن مَخطوطًا كتب عليه اسم لا ينطبق على موضوعه، أو مَخطوطًا كتب عليه اسم غير مؤلفه، سواء أحصل ذلك عن جهل وغفلة أم عن قصد خبيث، فإن من الناس من تسول له نفسه بمحو اسم الكتاب واستبداله باسم آخر، واستبدال اسم المؤلف باسم مؤلف آخر، وقد يقع مَخطوط خالٍ من اسم الكتاب واسم المؤلف، فيأتي من يضع له اسمًا بِحسب ما يراه صوابًا.
أمَّا بالنسبة لعنوان المخطوط، فقد يَحدث أن تسقط الورقة الأولَى، أو أن عنوان الكتاب ينطمس، إمَّا لرداءة الخط أو أثر الماء والرطوبة وانسياح الحبر، أو بفعل الأرضة أو العثَّة، أو بدافع التزوير، كما سبق، فيحتاج المحقق في هذه الْحَالة إلى الرجوع إلى فهارس المخطوطات لِمعرفة المخطوطات ذوات الموضوع المشابه، ومقارنة نصوصها بنصوص المخطوطة، والرجوع إلى ترجمة المؤلف لِمعرفة كتبه، ومن ثم دراسة أسلوبه في مؤلفاته الأخرى، وقد يَجد نصوصًا من الكتاب مضمنة في كتب أخرى، ولا شك أن معرفة اسم المؤلف تيسر الأمر، وتهدي إلى معرفة مؤلفاته وأسلوبه، وإذا كان انطماس العنوان جزئيًا، فإنه يساعد كذلك في معرفة المخطوط من خلال الكتب التي فيها شبه بما تبقى من العنوان.
وإذا كان اسم الكتاب واضحًا واسم الكاتب مفقودًا، فإن الوصول إليه يكون عن طريق معرفة الكتب المشتركة بالعنوان نفسه، ومن ثَم معرفة زمن الكتاب من خلال شيوخ المؤلف وتلامذته، والأحداث التي تدل على الاشخاص، وعلى أزمان الأحداث، ومن الممكن الوصول إلى شخصية المؤلف من خلال المادة العلمية للكتاب، وما فيها من دلالات على
1 / 12
العصر، وكذلك دراسة أساليب المؤلفين، فإن لكل عصر أسلوبه ومصطلحاته وعلومه، ولكل مؤلف أسلوب يُمكن التهدي إلى معرفة صاحبه، بِمقارنة أسلوب الكتاب بالأساليب المشابهة في الموضوعات المشابهة في الكتب الأخرى، وإذا عثر المحقق على طائفة من نصوص الكتاب متضمنة في كتب أخرى، فإن ذلك يسهل الوصول إلى حقيقة المؤلف، مع ملاحظة أن وجود اسم المؤلف لا يَمنع من وقوع التصحيف والتحريف فيه؛ ولابد في كل هذه الأحوال من الرجوع إلى فهارس المكتبات وتراجم المؤلفين للتثبت وقطع الشك باليقين.
التحقيق من نسبة الكتاب إلى مؤلفه:
وفي حالة كون المخطوط كاملًا، فيه عنوان الكتاب واسم المؤلف، ينبغي التثبت من صحة نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وخاصة بالنسبة للكتب المغمورة التي ليست لها شهرة، فبعض الكتب لا تتناسب مادتها العلمية مع مكانة وعلم مؤلفها، ومن المؤلفين من لم يعرف عنه أنه خاضَ في موضوع بعيد عن اهتماماته، أو أن أسلوب الكتاب لا يوافق أسلوب المؤلف في كتبه الأخرى، وحقِّا إن المؤلف الواحد قد تتفاوت مستويات مؤلفاته باختلاف سني عمره، فإن فترة الشباب يعتريها الضعف، وإن فترة علو السن يتضح فيها النضج والخبرة، ومع اعتبار كل ذلك، فلابد من التثبت والتحقق، فإن هناك مَجموعة من الكتب نسبت إلى مؤلفين معروفين، اتضح بالتحقيق أنها منسوبة إليهم ومَحمولة عليهم، والأمثلة في هذا كثيرة نَجتزيء بذكر بعض منها:
من ذلك كتاب باسم "كتاب تنبيه الملوك والمكايد" المنسوب للجاحظ، وفيه حكايات وأخبار حدثت بعد عصر الجاحظ، من ذلك وجود باب فيه بعنوان (نكت من مكايد كافور الإخشيدي)، و(مكيدة توزن بالمتقى لله)، وبين الْجَاحظ (ت ٢٥٥ هـ)، وكافور (ت ٣٥٧ هـ)، وبين
1 / 13
الجاحظ والمتقي (ت ٣٥٧ هـ) عشرات السنين، ومن ذلك نسبة شرح ديوان المتبني لأبي البقاء عبد الله بن الحسن العكبري، ومؤلف الكتاب هو ابن عدلان الموصلي المتوفي سنة (٦٦٦ هـ)، وجزء من كتاب باسم (اختلاف الفقهاء للشعراني) وهو لأبي الوفاء علي بن عقيل الحنبلي الظفري المتوفي سنة (٥١٣ هـ)، ونُسب كتاب (إعراب القرآن) إلى الزجاج (ت ٣١١ هـ)، ورجح المحقق إبراهيم الإبياري نسبته إلى مكي بن أبي طالب القيرواني المتوفي سنة (٤٣٧ هـ)، ومِمَّا جاء من خطأ في عنوان الكتاب ونسبته إلى غير صاحبه أيضًا كتاب (توجيه إعراب أبيات ملغزة الإعراب) المنسوب للرماني المتوفي سنة (٣٨٦ هـ) الذي حققه سعيد الأفغاني، ثم اتضح أن عنوان الكتاب هو (شرح الأبيات المشكلة الإعراب) وأن مؤلفه ليس الرماني وإنَّما هو أَبو نصر الحسن بن أسد الفارقي المتوفي سنة (٤٨٧ هـ).
تحقيق متن الكتاب:
لقد أوجز العلامة عبد السلام هارون أهم ما يَجب في تَحقيق متن الكتاب في قوله: "أن يؤدي الكتاب أداءً صادقًا كما وضعه مؤلفه كمّا وكيفًا بقدر الإمكان، فليس معنى تَحقيق الكتاب أن نلتمس للأسلوب النازل أسلوبًا هو أعلى منه، أو نُحِل كلمة صحيحة مَحل أخرى صحيحة بدعوى أن أولاهما أولى بمكانها، أو أجمل، أو أوفق، أو ينسب صاحب الكتاب نصّا من النصوص إلى قائل وهو مُخطيء في هذه النسبة، فيبدل ذلك الخطأ ويحل مَحله الصواب، أو أن يُخطيء في عبارة خطأ نَحويّا دقيقًا فيصحح خطأه في ذلك، أو أن يوجز عباراته إيجازًا مُخلّا فيبسط المحقق عبارته بما يدفع الإخلال، أو أن يُخطيء المؤلف في ذكر علم من الأعلام فيأتي به المحقق على صوابه".
ويقول أيضًا: "ليس تَحقيق المتن تَحسينًا أو تصحيحًا، وإنَّما هو أمانة الأداء التي تقتضيها أمانة التاريخ، فإن متن الكتاب حكم على
1 / 14
المؤلف، وحكم على عصره وبيئته، وهي اعتبارات تاريخية لها حرمتها، كما أن ذلك الضرب من التصرف عدوان على حق المؤلف الذي له وحده حق التبديل والتغيير".
ومعنى هذا أن التحقيق أمانة، ويحسن بالمحقق أن يكون حذرًا أمينًا صبورًا، لا يَجترئ على النصوص فيغير أو يُبدل، وأن الجرأة في التحقيق عمل مذموم، ويُمدح المحقق الحذر المشفق المتأني.
مهمات المحقق:
ونُجمل مهمات المحقق في النقاط الآتية:
أولًا: مقابلة النسخ المخطوطة على النسخة الأم، ويُبين في الْهَامش الفروق بعد أن يرمز لكل نسخة برمز خاص.
ثانيًا: عند اختلاف الروايات يثبت في المتن ما يُرجِّح أنه صحيح، بعد دراسة المحقق لكل رواية، ويَجعل المصحف والمحرّف والخطأ في الهامش.
ثالثًا: عند وجود زيادة في نسخة من النسخ لا توجد في النسخة الأم تضاف الزيادة إلى النسخة الأم، ويُشار إلى ذلك في الحاشية، وذلك إذا تَحقق الناشر أن الزيادة هي من أصل الكتاب وليست من الناسخ، أما إذا كانت الزيادة من الناسخ، أو من أحد العلماء، فيُشار إليها وتثبت في الهامش.
رابعًا: إذا وجد المحقق في النص المخطوط نقلًا من مصادر ذكرها المؤلف، يرجع إلى تلك المصادر ويعارض النصوص المنقولة بالأصل المعتمد، ويدون الفروق في الهامش من حيث الزيادة والنقص أو اختلاف اللفظ.
خامسًا: إذا اهتدى المحقق إلى مصادر الأصل المخطوط، ردَّ كل نص فيها إلى مصدره للاطمئنان إلى صحة النص وتوثيقه.
1 / 15
سادسًا: يَجوز للمحقق إضافة حرف أو كلمة سقطت من المتن، يتقوم بها النص، على أن يضع ذلك بين عضادتين، وقد سمح الأقدمون بزيادة ما سقط من سند الحديث أو متنه، وبتجديد ما اندرس من كتاب الحديث
سابعًا: إذا وُجدَ في المخطوط خرمٌ أضاع نصّا، وكان هذا النص في كتاب آخر مَخطوط أو مطبوع -كأن نقل النص عن مصدره الأول- فيمكن إتمام الخرم، والإشارة إلى ذلك في الحاشية، ويوضع المضاف بين عضادتين، أما إذا لَم يجد المحقق ما خُرم أو ما تُرك بياضًا في مصدر آخر، فيُشير إلى مقدار الخرم أو البياض في الهامش.
ثامنًا: من المحققين من يعتمد على عدة نسخ في آن معًا، ولا يعتمد على نسخة واحدة عند وجود نسخ كثيرة، وفي هذه الطريقة حرية للمحقق، وقد يَجوز هذا الأمر بالنسبة للمحقق المتمكن الخبير في معرفة الكتاب، ومؤلف الكتاب ولغته وأسلوبه، ولا يؤمن في هذه الحالة الزلل، والأفضل اعتماد نسخة واحدة ومقابلتها على النسخ الأخرى، وترجيح الرواية الجيدة.
تاسعًا: عند وجود قراءة لعالم ما على النسخة المعتمدة، أو النسخ الأخرى وفيها تصحيح يزيد في قيمة الكتاب، تثبت القراءة في الهامش ويُشار إليه، ومن المحققين من يرى إثبات هذه القراءة في المتن والإشارة إليها في الهامش، ولست مع هذا الرأى، لأن الأصل في الكتاب أن يمثل مؤلفه.
عاشرًا: كل زيادة في جوانب المخطوط أو طُرَّته من تنبيه أو تفسير أو تعليق، يُشار إليها في الهامش ولا تُضاف إلى المتن.
1 / 16
جمع الأصول وترتيبها:
عندما يقع الاختيار على تَحقيق مخَطوط، لابد من البحث عن نسخه في مكتبات العالم واستقصاء كل ما يُمكن اسقصاؤه من فهارس المخطوطات في المكتبات، والمخطوطات العربية منتشرة في مكتبات العالم، شرقية وغربية، وحقًّا إن الباحث لن يستطيع أن يقف على كل ما في المكتبات التي تَحوي الكتب العربية، ولكنه يبذل قصارى جهده في البحث والتنقيب للحصول على كل النسخ المتيسرة، ويعينه على ذلك -بعد النظر في فهارس المكتبات المخطوطة والمطبوعة- بعض الكتب التي تهتم بالمخطوطات والتي منها على سبيل المثال: كتاب بروكلمان "تاريخ الأدب العربي وذيوله"، وقد ترجم إلى العربية من الألمانية، و"تاريخ آداب اللغة العربية" لجرجي زيدان، و"تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين وقد ترجمت أكثر أجزائه العربية، وكتاب "الذريعة إلى تصانيف الشيعة" لأغابزرك، و"كتاب الخزانة الشرقية" لحبيب الزيات، هذا عدا الرجوع إلى خزائن الكتب الخاصة المنتشرة في البلاد العربية والإسلامية، ولا يستغني الباحث عن سؤال المكتبيين والمهتمين بالمخطوطات من أساتذة وباحثين ومُحققين، أضف إلى ذلك الكتب المحققة والرسائل الجامعية التي تتضمن فهارسها جَمهرة من المخطوطات.
وحين نقف على مواضع النسخ في المكتبات، نسعى إلى نسخها أو تصويرها، فإذا توافرت لدينا كل النسخ، نبدأ بفحصها ودراستها لمعرفة جيدها من التي فيها نقص أو خرم، ويدرس الفاحص الورق للتحقيق من عمر النسخة، وقد تكون بعض النسخ حديثة ولكن أصابها تلف من أثر الرطوبة أو العث أو الأرضة، فيظن العجل المسرع أنها قديمة، وأن البلى ليس دائمًا دليل القدم، فقد تسلم بعض النسخ القديمة من عوادى التلف والبلى، وقد تكون بعض النسخ مزورة بما يكتب عليها من تواريخ قديمة،
1 / 17
وقد تُعَرَّض النسخة لأسباب التلف ليُظن أنها قديمة، كما يفعل بعض تُجار المخطوطات.
ويدرس كذلك الخط والمداد لِمعرفة الزمن الذي كتبت فيه، فلكل عصر نمط خاص في الخط، ويُعرف كذلك المداد القديم من الحديث، ويفطن المحقق إلى وحدة الخط واطراده وطريقة رسمه، ويلاحظ ما على النسخ من إجازات وتَمليكات وقراءات، أو تعليقات لبعض العلماء، ومعرفة أزمان هذه الإجازات وتاريخ وفيات العلماء الذين أجازوا أو امتلكوا أو قرأوا وعلقوا، ويفحص مادة الكتاب ونظام فصوله وأبوابه، ليطمئن إلى أن النسخة كاملة لم تسقط منها أوراق في أولها أو وسطها أو آخرها، وملاحظة التعقيبة التي تكون في أسفل الصفحة اليمني، التي تدل على بدء الصفحة التي تليها، ويستدل بتتبع هذه التعقيبة على تَمام الكتاب وعدم اضطراب أوراقه، ويدرس خاتمة الكتاب ليقف على اسم الناسخ وتاريخ النسخ، وعن أي النسخ نقلت، وبعد هذه الدراسة الفاحصة لكل نسخة، تُرتَّب النسخ حسب أزمانها وصحتها وجودتها، وفق الترتيب الآتى:
الأول: أحسن النسخ التي تعتمد للنشر هي نسخة المؤلف التي كتبها بِخطه، وخاصة إذا كانت سالمة من النقص والتلف، وتكون هذه هي النسخة الأم، ويحسن أن تكون هذه النسخة كاملة، فيها عنوان الكتاب، واسم المؤلف، وجَميع مادة الكتاب، على آخر صورة كتبها المؤلف بنفسه، أو أشار بكتابتها أو أملاها أو أجازها، أو فيها ما يفيد اطلاعه عليها إقراره لها.
ويَحسن التثبت من أن نسخة المؤلف هي آخر تأليفه له؛ لأن من المؤلفين مَن يعيد تأليف الكتاب أكثر من مرة، وفي كل مرة يُضيف أو يَحذف ويعدل وينقح، فمن المنقول أن كتاب الياقوت لأبي عمر الزاهد
1 / 18
(ت ٣٤٥ هـ) ظهر في ست صور، كل مرة يزيد فيها عند قراءته عليه، وأن الجاحظ ألَّف كتابه "البيان والتبيين" مرتين "أولَى وثانية، والثانية أصح وأجود" كما في الفهرست، وألَّف ابن درستويه كتاب "الكتاب" مرتين كل واحدة منهما مُختلفة عن الأخرى زيادة ونقصانًا، وأن أبا بكر الزبيدي ألَّف كتابه "لحن العامة" مرتين، وألَّف أَبو عمرو الشيباني كتاب "النوادر الكبير" ثلاث مرات، وألَّف الثعالبي "اليتيمة" مرتين، كانت الثانية أوسع وأشمل من الأولى كما نُقل في يتيمة الدهر وغير ذلك كثير.
وعلى المحقق أن يكون فطنًا حذرًا، فقد يَجد في آخر الكتاب عبارة (وكتاب فلان) أي المؤلف، وهي ليست للمؤلف، وإنَّما هي من فعل الناسخ الذي قد ينقل عن نسخة المؤلف، وينقل ما في آخرها من قول المؤلف، وكذلك يَجب أن يفطن إلى تاريخ النسخة، فقد تكون النسخة متأخرة وينقل الناسخ تاريخ النسخة السابقة التي ينسخ عنها، وقد يكون الفرق بين نسخة الأصل والنسخة المنقول عنها قرنًا أو قرونًا، فيحسن هنا أن يحكم المحقق خبرته في الخط والورق والمداد واسم الناسخ الأول والثاني، ليثبت من تاريخ النسخة الصحيح.
الثاني: بعد نسخة المؤلف تأتي في المنزلة الثانية النسخة التي قرأها المؤلف، أو أشار بكتابتها، أو أملاها، أو أجازها.
الثالث: وتأتي بعد ذلك النسخة التي نقلت عن نسخة المؤلف أو عورضت بها، أو قوبلت عليها.
الرابع: ثم النسخة التي كتبت بعصر المؤلف عليها سماعات العلماء، وبعدها التي ليس عليها سماعات العلماء.
الخامس: النسخة التي بخط عالم تفضل غيرها وتقدم عليها، وقد كان القدماء يحرصون على اقتناء مثل هذه النسخ وينزلونها منزلة عالية،
1 / 19
ومن طريف ما يُروى في ذلك أن الجاحظ لما قدم من البصرة إلى بغداد قاصدًا محمد بن عبد الملك الزيات في وزارته للمعتصم، أهدي إليه نسخة من كتاب سيبويه، وقبل أن يَحملها إلى مَجلسه أعلم بها بعض موظفي ابن الزيات، فلما دخل عليه قال له: أو ظننت أن خزائننا خالية من هذا الكتاب؟ فأجابه الجاحظ: ما ظننت ذاك، ولكنها بخط الفراء، ومقابلة الكسائي، وتهذيب عمرو بن بحر الجاحظ، فقال له ابن الزيات: هذه أجل نسخة توجد للكتاب وأغربها، فأحضرها الجاحظ إليه وسُرَّ بها ووقعت منه أجمل موقع، كما نقل شوقي ضيف في كتاب "البحث الأدبي".
السادس: أما النسخ التي كتبت بعد عصر المؤلف، فترتب حسب قدمها، تفضل المتقدمة على المتأخرة، والتي كتبها عالم، أو قُرئت على عالم على ما لم يكتبها أو يقرأها أحد العلماء، وقد نَجد نسخة ما أحدث تاريخًا من الأولى، ولكن كاتبها عالم دقيق يُقيم النص، وتبرأ نسخته من الخطأ والوهم والتحريف، وهي أصح متنًا وأكمل مادة، وهنا يَجب تقديم النسخة الأحدث.
السابع: هذه النسخة عدا النسخة الأم تُعد أصولًا ثانوية، أمَّا إذا لم توجد نسخة المؤلف، فإن أوثق هذه النسخ وأصحها تعد النسخة الأم، ثم يليها الأقل منها وثوقًا، وقد يَحدث أن تكون هناك نسخة متأخرة صحيحة مضبوطة هي أفضل من أختها المتقدمة التي يعتريها النقص أو التحريف أو التصحيف، وقد نَجد نسخة متأخرة نسخت نسخًا جيدًا عن نسخة المؤلف، أو عن نسخة من عصر المؤلف، وحقّا إن النسخ المتأخرة يعتريها التحريف من أيدي الناسخين، ولكن قد نَجد في المتأخر ما لا نَجده في المتقدم.
الثامن: بعض المخطوطات تأتي غفلًا من تاريخ النسخ ولا يعرف
1 / 20
كاتبها أو زمن كتابتها، ويُستعان لمعرفة عصرها من الخط والورق، فإن لكل عصر نوعًا من الخط، وكذلكَ الورق يُمكن معرفة قدمه، والمقصود هنا فحص الأصول المخطوطة وليس المصورة عنها.
التاسع: قد يضطر المحقق أن يُحقق الكتاب على أصل مَخطوط واحد، في حالة عدم وجود نسخة مَخطوطة أخرى، أما إذا وجدت نسخة أو نسخ أخرى، فلا يصح ذلك، ويُعد عيبًا ونقصًا كبيرًا، وإذا كانت النسخة وحيدة، فيجب مقابلتها على مُختصرات الكتاب إن وجدت، والأصول المطبوعة، وما وجد من نصوص في ثنايا الكتب المشابهة.
العاشر: قد تتوافر من بعض الكتب نسخ كثيرة، وقد تتشابه ثلاث أو أربع نسخ في مَحاسنها أو عيوبها، وتكون قد نسخت عن أصل واحد، وفي مثل هذه الحالة تجعل النسخ المتشابهة مَجموعات أو فئات، ويرمز لكل مَجموعة بحرف، وتتخذ من كل مَجموعة نسخة واحدة تمثلها عند المقابلة وبيان اختلاف القراءة.
الحادي عشر: هناك أصول قديمة للكتاب متضمنة فى كتب أخرى للمؤلف نفسه، أو في كتب المؤلفين الآخرين، وتُعد هذه أصولًا ثانوية يُستعان بها في تَحقيق النص، نَجد من ذلك أمثلة كثيرة، منها ما يتضمنه كتاب شرح البلاغة من نصوص كتب أخرى، مثل وقعة صفين لنصر بن مزاحم، ونصوص كثيرة من كتاب المغازي للواقدي، ونصوص من كتاب العثمانية للجاحظ، وقد ضمَّن البغدادي في خزانة الأدب كثيرًا من صغار الكتب النادرة، منها فرحة الأديب للأسود الأعرابي الغندجاني، وكتاب اللصوص للسكري.
الثاني عشر: أمَّا النسخ المطبوعة التي لا يُمكن الحصول على الأصل الذي طُبعت عنه، فإن فريقًا من المحققين يتخذها أصولًا ثانوية، وبعضهم
1 / 21