كنت أتابع الحدث باحتراق وصمت بالغين: شاب صغير الحجم ممدد على السرير، الناربيش ممتد من شريان ساعده الأيسر إلى كيس الدم، أما الطبيب اللطيف ذو الشخصية النبيلة المخلصة فقد كان يقف أمام السرير إلى الأعلى من رأس الشاب المصاب.
كانا كأنهما يخوضان معركة صامتة؛ فذاك الصمت الذي خيم على غرفة المشفى لم يكن طبيعيا، بل كان صارخا، مشحونا بصوت الحرب والحقد، إلى أن كسر المصاب الصمت عندما عدل من جلسته وطلب من الطبيب أن يجلس بجواره، صمت قليلا قبل أن يصوب عليه بسؤاله الكافي للقتل: أنت من أطلق النار على كتفي؟ - أنا؟ ولكن ..
تلعثم الطبيب وهم بالرحيل .. صرخ المصاب بصوت أجش - لا يشبه حجمه - في وجه الطبيب، ونزع الإبرة من شريان ساعده الأيسر ثم لف الناربيش بشراسة حول رقبة الطبيب المسكين، وصار يشد فيما كانت ذراعه تنزف.
صرخت كثيرا حينما شاهدت الدم يقطر فوق السرير وعلى الأرض وقميص الطبيب الأبيض، ولكن أحدا لم يأت لحمايتي من هذا المشهد المؤلم، أما المصاب فكاد أن يقع أرضا وهو يردد: «أنت قاتل .. قاتل ...»
ظل يشد إلى أن سقط الطبيب أرضا وسقط فوقه .. ثم ماتا.
محاولات للنجاة
1 «مرة أخرى أعيد المحاولة، ومجددا أمزق ما أكتب .. كل يوم ألقي بعشرات المحاولات لكتابتك، ومع كل تمزيق أعرف أكثر كم أنا مهزوم .. أحاول أن أعيد ترميم انكساري بكتابتك وصياغة الحرب.
لم يجل في خاطري يوما بأنك أنت من ستكونين الرواية التي لم أكتبها بعد .. فالرواية توءم المأساة وأنت مأساتي، ولو عرفت مسبقا لتوقفت عن الكتابة برهة بل زمنا وعانقتك، لراقصتك حتى الصباح، كنت حتما سأتوقف عن متابعة نشرات الحرب، ولقطعت التواصل مع الجريدة التي كنت أكتب فيها .. لمنعت نفسي من الكتابة عن الحرب والموت وعشت معك دهرا آخر .. الآن وفقط الآن أدرك كم أخذ الحبر من حياتي.
اللعنة على هذا القلم، هذا الذي قتلك بوفائه لضحايا الحرب وخيانته لك .. أنا الذي كنت أظن أن الحرب شيء بشع سقط علينا من مكان ما، سقط على الشوارع والأزقة والأرصفة .. لم أعرف الحرب حقا إلا بموتك .. فخسارتك هي الشيء المؤكد الوحيد الذي فتح النوافذ لاستقبالها على طبق من الفاجعة.»
قاطعه صوت قرع الجرس، جفل جاد مستغربا، وتوقف عن الكتابة، نهض عن كرسيه متثاقلا، اقترب بتوجس من الباب، نظر من العين السحرية ثم فتح الباب ببطء ولم ير أحدا، هم بأن يخرج من عتبة الباب، ولكنه ما لبث أن تراجع ، وقبل أن يغلق الباب سمع صوت امرأة تناديه: المعذرة سيد جاد.
نامعلوم صفحہ