Muhammad: His Life Based on the Earliest Sources
محمد ﵌ في مكة
ناشر
الهيئة المصرية العامة للكتاب
پبلشر کا مقام
القاهرة
اصناف
ـ[محمد ﵌ في مكة]ـ
المؤلف: المستشرق الإنجليزي ويليام مونتجمري وات
ترجمه إلى العربية: الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ
راجع الكتاب وعلق عليه: الدكتور أحمد الشلبي
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة
عام النشر: ١٤١٥ هـ
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
_________
(تنبيه: هو ترجمة لكتاب مؤلفه نصراني مستشرق، وينظر المقال حول المؤلف في أول هذه النسخة الإلكترونية، وينظر كتاب الدكتور عماد الدين خليل: «المستشرقون والسيرة النبوية» في نفس هذا البرنامج «المكتبة الشاملة»)
المستشرق (مونتجمري وات) نشرت بعض المجلات (الإسلامية) التي تصدر بالإنجليزية في لندن مقالا عن هذا المستشرق بعنوان (المسيحي ذو التعاطف غير العادي مع الإسلام)، والمقال بقلم ماليز روثفن، وهو كاتب مسيحي يعمل بنشاط في ميدان الغزو الفكري ضد المسلمين - عن طريق تأليف الكتب ونشر المقالات في عدة صحف ومجلات إنجليزية واسعة الانتشار. والمقال يدور حول لقاء أجراه الكاتب مع المستشرق، ويتخذ اللقاء ذريعة لتمجيد المستشرق من خلال ذكر ثقافته ومؤلفاته وإسهاماته العديدة في مجال الدراسات الاستشراقية للإسلام بوجه عام، وللسيرة النبوية بوجه خاص. ويبدأ المقال بالتعريف بالمستشرق بأنه قسيس يجمع بين الالتزام بالمسيحية وتوثيق الصلة بالمسلمين والاتصاف بالموضوعية في دراسته للإسلام، ويحاول المقال أن يظهر المستشرق على أنه (استثناء مشرف) من القاعدة العامة وهي تعصب المستشرقين ضد الإسلام. وكان هذا المستشرق يعمل أستاذا ورئيسا لقسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة أدنبرة لمدة خمسة عشر عاما حتى تقاعده سنة ١٩٧٩ وقد قام خلال هذه الفترة بتدريس الإسلام عقيدة وتاريخا وحضارة لعدة أجيال من الطلبة وكثير منهم مسلمون (عرب وباكستانيون)، ويدعي المقال أن من بين تلاميذه (شيخ أزهر) سابق ولكن لا يذكر اسمه لأن الهدف الأساسي هو التهويل من شأن المستشرق (العلامة وأستاذيته حتى لأساتذة المسلمين!! ويزعم المقال أن نتائج جهود هذا المستشرق وإسهاماته التي لم يسبق إليها في دراسته لمناطق مجهولة (من تاريخ الإسلامي والسيرة النبوية) قد أصبحت لا يستغنى عنها، فلا يستطيع باحث يريد أن يفهم التاريخ الإسلامي والدور الذي تلعبه الأفكار الدينية في خلق البناء الاجتماعي أو تعديله أن يستغني عن مؤلفاته. ويذكر المقال من بين المؤلفات الهامة التي كتابها المستشرق لجمهور القراء كتابا بعنوان: محمد النبي ورجل الدولة. وإذا رجعنا إلى هذا الكتاب فسيتضح لنا أن وصف المستشرق بالموضوعية العلمية وبالتعاطف (غير العادي) مع الإسلام - إنما هو خداع متعمد للمسلمين، قصد به إخفاء حقيقة الاستشراق ومخططاته وأهدافه وإيهام المسلمين أن بعض المستشرقين على الأقل - قد بدأوا يغيرون موقفهم ويشعرون بالتعاطف مع الإسلام، والحقيقة أنهم في تعصبهم (ملة واحدة) وإن اختلفت وسائل ودرجات هذا التعصب. وللتدليل على هذه الحقيقة يكفي أن نقرأ من الكتاب المذكور الفصل الأخير بعنوان (تقويم) فنجد أن المستشرق (المتعاطف) يسأل هذا السؤال: كيف نحكم على محمد ﷺ؟ أبمقاييس عصره؟ أم بأكثر الأفكار استنارة في الغرب اليوم؟ وفي جوابه على هذا السؤال يقرر أن أعمال محمد ﷺ التي لا يقبلها الغرب الحديث لم تكن موضوع نقد من معاصريه، فمن وجهة نظر عصره لا يمكن تأييد اتهامه (بالغدر) أو الشهوانية (وهما الفريتان اللتان تترددان - كما رأينا فيما سبق - ضمن افتراءات أخرى بين المستشرقين منذ القرون الوسطى) لأن معاصريه لم يجدوا فيه مطعنا أخلاقيا من هذا النوع من أي وجه. ويشير المستشرق بالغدر إلى حادثين تاريخيين في السيرة: الأولى: سريه عبد الله جحش ﵁ في رجب من السنة الثانية للهجرة وأن قتال المسلمين للمشركين فيها كان انتهاكا للشهر الحرام، ومن ثم يُعد غدرا. وقد كفى الله رسوله ﷺ الرد على ما أثير بسبب هذه السرية وذلك في قوله تعالى (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم أن استطاعوا) . ومن الواضح أن اضطهاد المشركين للمسلمين وإخراجهم من ديارهم ومن المسجد الحرام ومحاولتهم ردة المسلمين عن دينهم - كل هذا شر من القتال في الشهر الحرام؛ لأنه فتنة والفتنة أكبر من القتل. الثانية: - مصير يهود بني قريظة وما نالهم من عقاب رداع جزاءا وفاقا لنقضهم العهد وتآمرهم مع المشركين أثناء غزوة الأحزاب للغدر بالرسول وبالمسلمين وهم محاصرون في المدينة في موقف من أشد المواقف هولا على المؤمنين، كما قال تعالى (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) . ويشير المستشرق بالشهوانية إلى زواجه ﷺ بالسيدة زينب بنت جحش ﵂، مع أنه يعترف بأن هذا الزواج قصد به التشريع لتحريم التبني الذي كان سائدا في الجاهلية؛ كما قال تعالى (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطرا وكان أمر الله مفعولا) . ولا يتسع المجال هنا للرد بالتفصيل على فرية (الشهوانية) التي يرددها المستشرقون، ويكفي أن نتساءل كيف يكون شهوانيا من اقتصر على زوجة واحدة أكبر منه سنا طيلة شبابه حتى بلغ الكهولة؟! وكيف يكون شهوانيا من كان كل زواج له بعدها وسيلة لنشر الإسلام وتطبيق تشريعاته؟! وكيف يكون شهوانيا من أصبح سيد الجزيرة ومكن الله له في الأرض ومع ذلك رفض حياة الترف وآثر حياة الخشونة والزهد وما عند الله على ما عند الناس؟ ثم أمر بتخيير زوجاته بين الرضى بهذه الحياة أو الفراق؟ كيف يكون هذا الإنسان العظيم والرسول الكريم (شهوانيا)؟! ويقرر المستشرق أن محمدا ﷺ في عصره وبيئته يعد مصلحا اجتماعيا وذلك لأنه وضع نظاما جديدا للضمان الاجتماعي (ومنه الزكاة)، وأقام بناء جديدا للأسرة وكلاهما كان تقدما كبيرا عما كان عليه العرب قبل الإسلام. بل ويُعد محمد ﷺ بمقاييس عصره كذلك مصلحا أخلاقيا وذلك لأنه كما يزعم المستشرق - أخذ أفضل ما في أخلاق البدو وتبناها للمجتمعات المستقرة، وبذلك وضع إطارا دينيا واجتماعيا لحياة كثير من الناس من أجناس مختلفة. وينتهي المستشرق إلى أن يصف الرسول ﷺ بأنه مصلح اجتماعي وأخلاقي ولكن بمقاييس عصره وبيئته؛ أي بمقاييس العرب الوثنيين والبدو قبل الإسلام وبالتالي فهو مصلح اجتماعي وأخلاقي في إطار هذا التحديد وليس رسولا من عند الله ورحمة للعالمين في كل زمان ومكان! ويتعرض لموقف المسلمين من رسولهم ﷺ وأنهم يرونه مثلا أعلى في السلوك الأخلاقي لكل البشر (أي في كل زمان ومكان) ويرى هو أن موقفهم هذا غلو لم يقنع إلا قليلا من غير المسلمين، وأن المسلمين لن ينجحوا في إقناع المجتمع الدولي والغرب المسيحي (المستنير) بأن رسولهم ﷺ مثل أعلى في السلوك الأخلاقي! والمستشرق يتجاهل أن رسول الله ﷺ كان ولا يزال الأسوة الحسنة للملايين من البشر المؤمنين طوال أربعة عشر قرنا من الزمان في عصور وبيئات مختلفة، وأنه كان ولا يزال المثل الأعلى في السلوك الأخلاقي لمستويات متنوعة من البشر من العامة والخاصة، من العلماء والفلاسفة، من المصلحين والمجاهدين والدعاة، من كل الأجناس والمجتمعات. فلا يحتاج إلى شهادة مستشرق كافر به حاقد عليه، وتكفيه شهادة ربه: (وإنك لعلى خلق عظيم) . وفي رأي المستشرق أن الصفات الشخصية التي أعانت الرسول ﷺ على نشر الإسلام هي ثلاث صفات رئيسية: ١- موهبة كعراف (كاهن) SEER: أي مقدرته على استبصار الأسباب الرئيسة للتخلف الاجتماعي في عصره، وعبقريته في التعبير عن هذا الاستبصار بصورة تهز السامع من أعماق كيانه، وهو يشير بهذا إلى القرآن الكريم ويرى أن القارئ الأوروبي ينفر، ومع ذلك فهو كتاب يناسب حاجات وظروف عصره (فقط) . ومن الواضح أن المستشرق ينكر أن القرآن وحي من عند الله. ٢- حكمته كسياسي: يقرر أن محمدًا ﷺ كان ذا نظر بعيد كمخطط سياسي وكمصلح اجتماعي، وهذا يتضح من التوسع السريع لدولته في المدينة، حتى أصبحت- بعد زمن قصير- " إمبراطورية " عالمية. ويتضح كذلك من " تكييف " مؤسساته الاجتماعية (أي مؤسسات الإسلام) للتطبيق في بيئات كثيرة متنوعة، واستمرار هذا التطبيق حتى الآن. ٣-مهارته في الإدارة: وتتجلي هذه المهارة في اختيار للرجال الذين عهد إليهم تولي الأعمال الإدارية اليومية، وذلك لأن المؤسسات السليمة والسياسة الحكيمة لا تؤثران تأثيرًا فعالًا إذا كان التنفيذ خاطئًا أو ضعيفًا. وقد خلف محمد ﷺ دولة ذات إدارة قوية. ثم يتساءل المستشرق " المتعاطف ": هل كان محمد نبيًا؟ في إجابته على هذا السؤال يزعم المستشرق أن الرسول ﷺ كان يتمتع بما يسميه الخيال المبدع: وهو في هذه الخاصية يشارك غيره من الفنانين والشعراء والكتاب ذوي الخيال المبدع، فكل هؤلاء يعبرون بالصيغ الحسية (أي بالصور والقصائد والتمثيليات والروايات) عما يشعر به كثير من الناس، ولكنهم لا يستطيعون التعبير عنه بأنفسهم، ومن ثم يتميز الإنتاج العظيم للخيال المبدع بنوع من " العالمية " لأنه لا يعبر عن مشاعر ومواقف الفرد الذي أنتجه فحسب، بل عن مشاعر ومواقف جيل كامل من الناس. ويرى المستشرق أن الأنبياء والزعماء الدينيين ذوي النبوءات (أي القادرين على التنبوء) يشتركون مع الفنانين والشعراء والكتاب في خاصية الخيال المبدع، ومن ثم يعلنون أفكارًا تتصل بأعمق التجارب الإنسانية، مع الاهتمام الخاص بحاجات العصر والجيل. وعلامة النبي العظيم- في رأيه- هي ما تحدثه " أفكاره " من جاذبية عميقة " أي تأثير عميق " عند أولئك الذين وجهت إليهم هذه الأفكار. ويتساءل المستشرق: من أين تأتي هذه الأفكار؟ ويشير إلى رأي من يقولون بأنها تأتي من اللاوعي، وإلى رأي من يقولون بأنها تأتي من الله (وهؤلاء هم المؤمنون بأديان الوحي) . ويرى هو أنها تأتي من تلك الحياة داخل الإنسان التي هي أكبر منه، وهي غالبًا تحت مستوى الوعي ولها صلة بالله. ويقرر المستشرق أن ليس هناك بالضرورة ما يحتم أن تكون كل أفكار الخيال المبدع صادقة وصحيحة. ويتساءل: ما القول في تلك الأفكار التي ينتجها الخيال المبدع وهي كاذبة أو غير صحيحة؟ وهنا يعرض للمقارنة: فيذكر أن الخيال المبدع عند هتلر كان على درجة كبيرة من التطور، كما كان لأفكاره تأثير واسع (على الجماهير) . ولكن يعتقد أنه كان مصابًا بالعصاب (الاضطراب العصبي)، وأن الألمان الذين اتبعوه إلى درجة التعبد قد أصابتهم عدوى ذلك العصاب. ومن الواضح أن المستشرق يحاول هنا- في خبث- أن يقارن الرسول الكريم ﷺ وما أوحي إليه من الذكر الحكيم بهتلر، وما عرف عنه من عصاب وهستيريا كانت تؤثر في الجماهير. ومن الواضح كذلك أن المستشرق يردد هنا ما ردده المستشرقون من قبله من افتراءات، كان منها وصفه ﷺ بالصرع والاضطراب العصبي والهستيريا! فأي " تعاطف "هذا؟ وأي موضوعية؟ وأي أمانة؟ ويزعم المستشرق أن " أفكار" محمد ﷺ التي أنتجها خياله المبدع كانت- إلى حد كبير- حقيقية وصحيحة. ولكن هذا لا يعني- في زعمه- أن كل ما في القرآن صحيح. فبعض " الأفكار " القرآنية حقيقية وصحيحة، وبعضها الآخر ليست كذلك؟ وهناك نقطة تبدو فيها " الأفكار " القرآنية- في زعم المستشرق- غير حقيقية وغير صحيحة، وهي الفكرة القائلة بأن الوحي (أي ما يسميه هو إنتاج "الخيال المبدع ") هو أسمى وأوثق من الطرق الإنسانية العادية كمصدر للحقيقة التاريخية، وهنا يشير إلى عدة آيات قرآنية تؤكد أن الله يوحي إلى رسوله بأنباء الغيب كقوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) . ويقرر أنه يقبل أن " الخيال المبدع " يمكن أن يقدم تفسيرًا جديدًا وأكثر صدقًا للأحداث التاريخية، ولكنه لا يقبل أن يكون " الخيال المبدع" مصدرًا للحقيقة التاريخية المجردة (أي مصدرًا للأخبار بالغيب من حقائق التاريخ) ويزعم أن هذا مبالغة وكذب. وهذه النقطة- كما يؤكد المستشرق- ذات أهمية خاصة بالنسبة للمسيحيين، وذلك لأن القرآن ينكر قتل عيسي ﵇ أو صلبه، ويعتقد المسلمون أن هذا الإنكار أهم من الشواهد التاريخية التي تقول بصلب المسيح. وهو يشير بذلك إلى قوله تعالى عن اليهود: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) . والواقع أنه ليس هناك " شواهد تاريخية" موثوق بها عن صلب المسيح ﵇. والروايات التي وردت في الأناجيل عن قصة الصلب تتضارب تضاريًا شديدًا، حتى ليعجب الإنسان كيف تختلف هذه الأناجيل في أصل هام من أصول ديانتهم. ولو صح أنه أصل لكان اهتمامها به متساويًا أو متقاربًا. وقد أورد بعض الباحثين أربعة وثلاثين وجهًا من التضارب بين نصوص، ويؤكد أن أنكار القرآن لقتل المسيح أو صلبه هو حق لاشك فيه. ويزعم المستشرق أن هدف القرآن من هذا الإنكار هو أن ينفي ادعاء اليهود قتله أو صلبه، ليجردهم مما يرونه انتصارا لهم. وهذا زعم واضح البطلان. فقد كرر القرآن الكريم وصم اليهود بأنهم كانوا يقتلون أنبياءهم بغير حق. فلماذا يستثني المسيح ﵇ من بين هؤلاء الأنبياء؟! مع أن قتله أو صلبه- لو كان أيهما قد حدث- يعد بلا شك وصمة عار تضاف إلى سجل اليهود المخضب بدماء الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس. ويزعم المستشرق كذلك أن المبالغة في دور الوحي قد أدت إلى نتائج أخرى. ومنها المبالغة في إسهام العرب في الثقافة الإسلامية على حساب الأجناس الأخرى المتحضرة التي اعتنقت الإسلام في مصر وسوريا والعراق وإيران. ويكفي لتنفيذ هذا الزعم أن الإسلام ساوي بين الناس جميعًا ولم يجعل مقياس الأفضلية بينهم الجنس أو العنصرية، بل التقوى. وأخيرًا يتساءل المستشرق مرة أخرى: هل كان محمد نبيًا؟ ويجيب بأنه كان رجلًا نشط عنده " الخيال المبدع " على مستويات عميقة، " وأنتج " "أفكارًا" ذات صلة بالقضايا الرئيسية في الوجود الإنساني، ومن ثم كان له تأثير واسع، ليس في عصره فحسب بل وكذلك في العصور التالية. ويقرر أنه بالرغم من أنه لم تكن كل " الأفكار "التي أتي بها الرسول ﷺ حقيقية وصحيحة-فقد استطاع أن يقدم للملايين من الناس دينًا أفضل مما كانوا عليه قبل أن يصبحوا مسلمين!! تفنيد فرية الأخذ من التوراة والإنجيل: ومما سبق يتضح أن المستشرق ينكر- كما ينكر جميع المستشرقين- أن القرآن الكريم وحي من عند الله. وفي مواضع أخرى من كتابه يتخذ هذا الإنكار الصورة المتفق عليها بين جميع المستشرقين، وهي أن القرآن يعتمد كثيرًا على الأخذ من اليهودية والنصرانية، وبخاصة على الأخذ من العهدين القديم والجديد أي من التوراة والإنجيل. ويكفي لتفنيد هذا الزعم أن القرآن الكريم قد أتى بالعقائد والأصول العامة التي أتت بها كل رسالات التوحيد الموحى بها قبله، كما قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) . ولكن الكتاب العزيز يختلف عن الكتب السابقة من عدة أوجه، ومن أهمها: ١- أن الكتب السابقة أنزلت على رسل بعثوا لأقوامهم خاصة، بينما أنزل القرآن للناس كافة. ٢- أن كتب أهل الكتاب، وبخاصة التوراة والإنجيل. قد حرفت بينما حفظ الله تعالى كتابه من كل تحريف. وهذا الوجه الثاني في غاية الأهمية بالنسبة لتفنيد فرية الأخذ من كتب اليهود والنصارى، فقد أكد القرآن الكريم تحريف أهل الكتاب لكتبهم (أي التوراة والإنجيل) في عدة آيات: منها على سبيل المثال قوله تعالى عن اليهود: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله)، (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه)، (يحرقون الكلم عن مواضعه ونسوا حظًا مما ذكروا به) وقوله تعالى عن النصارى: (ومن الذين إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًا مما ذكروا به) . وقد نعي القرآن الكريم على أهل الكتاب تحريفهم لعقيدة التوحيد، وانحرافهم عنها إلى عقائد باطلة، كعقيدة التشبيه عند اليهود، وعقيدة التثليث عند النصارى، كما نعى عليهما ما ترتب على انحرافهم في العبادة والشريعة والأخلاق، وذلك لأنهم (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا ألا ليعبدوا إلها واحد) وأحلو ما حرم الله من الربا وأكل أموال الناس بالباطل، واتصف اليهود خاصة بنقض العهد، وقسوة القلوب، وقتل الأنبياء بغير حق. فكيف يعقل أن يأخذ القرآن عن الكتب التي أعلن تحريفها؟! وعن أولئك الذين حرفوها وانحرفوا عن عقائدها وتعاليمها وتشريعاتها الموحي بها؟! وتحريف التوراة والإنجيل، وخلو القرآن من التحريف، حقيقة لا يؤكدها القرآن فحسب، بل يؤكدها كذلك العلماء والباحثون في الأديان، حتى من غير المسلمين. وقد أسلم بعض هؤلاء بعد اهتدائهم لهذه الحقيقة. وقد بين العلم الفرنسي موريس بوكاي الأخطاء العلمية العديدة التي وردت في التوراة والإنجيل نتيجة تحريفهما، وكذلك بين خلو القرآن من هذا الأخطاء، واشتماله على الحقائق العلمية التي أثبت العلم الحديث صحتها بعد مرور أربعة عشر قرنًا على نزوله على نبي أمي لم يقرأ كتابًا، ولم يدرس علوما. فكيف يُقبل عقلًا أن ينقل القرآن عن تلك الكتب (كما يزعم المستشرقون) ثم لا ينقل عنها ولو خطأ واحدًا؟ ولا يأتي إلا بالحق الذي لاشك فيه؟ أليس هذا وحده دليلًا على أنه وحي من الله: (وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) وإنه كتاب معجز كما قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا)؟ ونعود إلى المقال فنجده يذكر أن المستشرق البريطاني قد أثرى دراسة السيرة بالمعلومات الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك أثني عليه المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون، وهو يهودي ماركسي ألف هو الآخر كتابًا بالفرنسية عن محمد ﷺ ترجم ونشر بالإنجليزية، وهو مشحون بالافتراءات الاستشراقية على الرسول ﷺ ورسالته وشخصيته. وكثير من هذه الافتراءات مستمدة من التفسير المادي (الاقتصادي) للتاريخ عند كارل ماركس، ومن التحليل النفسي (الجنسي) للإنسان عند سيجموند فرويد. وكلها افتراءات ساقطة مبتذلة نعف عن مجرد ذكرها. وبعد، فرسولنا الكريم ﷺ قد عصمه الله من الناس، وهو الصادق المصدوق بشهادة ربه، وشهادة التاريخ، وشهادة الملايين الذي آمنوا به وصدقوه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه. فلا يحتاج إلى شهادة الكافرين والملاحدة. وإنما أردنا أن نبين للمخدوعين من المسلمين أن المستشرقين ليس بينهم منصف، فضلًا عن (متعاطف) . وأنهم جميعًا (ملة واحدة) يهدفون إلى غاية واحدة وهي إطفاء نور الله. وهيهات هيهات: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) (المصدر: رؤية إسلامية للاستشراق، للأستاذ أحمد غراب، ص ١١٥-١٢٦)
المستشرق (مونتجمري وات) نشرت بعض المجلات (الإسلامية) التي تصدر بالإنجليزية في لندن مقالا عن هذا المستشرق بعنوان (المسيحي ذو التعاطف غير العادي مع الإسلام)، والمقال بقلم ماليز روثفن، وهو كاتب مسيحي يعمل بنشاط في ميدان الغزو الفكري ضد المسلمين - عن طريق تأليف الكتب ونشر المقالات في عدة صحف ومجلات إنجليزية واسعة الانتشار. والمقال يدور حول لقاء أجراه الكاتب مع المستشرق، ويتخذ اللقاء ذريعة لتمجيد المستشرق من خلال ذكر ثقافته ومؤلفاته وإسهاماته العديدة في مجال الدراسات الاستشراقية للإسلام بوجه عام، وللسيرة النبوية بوجه خاص. ويبدأ المقال بالتعريف بالمستشرق بأنه قسيس يجمع بين الالتزام بالمسيحية وتوثيق الصلة بالمسلمين والاتصاف بالموضوعية في دراسته للإسلام، ويحاول المقال أن يظهر المستشرق على أنه (استثناء مشرف) من القاعدة العامة وهي تعصب المستشرقين ضد الإسلام. وكان هذا المستشرق يعمل أستاذا ورئيسا لقسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة أدنبرة لمدة خمسة عشر عاما حتى تقاعده سنة ١٩٧٩ وقد قام خلال هذه الفترة بتدريس الإسلام عقيدة وتاريخا وحضارة لعدة أجيال من الطلبة وكثير منهم مسلمون (عرب وباكستانيون)، ويدعي المقال أن من بين تلاميذه (شيخ أزهر) سابق ولكن لا يذكر اسمه لأن الهدف الأساسي هو التهويل من شأن المستشرق (العلامة وأستاذيته حتى لأساتذة المسلمين!! ويزعم المقال أن نتائج جهود هذا المستشرق وإسهاماته التي لم يسبق إليها في دراسته لمناطق مجهولة (من تاريخ الإسلامي والسيرة النبوية) قد أصبحت لا يستغنى عنها، فلا يستطيع باحث يريد أن يفهم التاريخ الإسلامي والدور الذي تلعبه الأفكار الدينية في خلق البناء الاجتماعي أو تعديله أن يستغني عن مؤلفاته. ويذكر المقال من بين المؤلفات الهامة التي كتابها المستشرق لجمهور القراء كتابا بعنوان: محمد النبي ورجل الدولة. وإذا رجعنا إلى هذا الكتاب فسيتضح لنا أن وصف المستشرق بالموضوعية العلمية وبالتعاطف (غير العادي) مع الإسلام - إنما هو خداع متعمد للمسلمين، قصد به إخفاء حقيقة الاستشراق ومخططاته وأهدافه وإيهام المسلمين أن بعض المستشرقين على الأقل - قد بدأوا يغيرون موقفهم ويشعرون بالتعاطف مع الإسلام، والحقيقة أنهم في تعصبهم (ملة واحدة) وإن اختلفت وسائل ودرجات هذا التعصب. وللتدليل على هذه الحقيقة يكفي أن نقرأ من الكتاب المذكور الفصل الأخير بعنوان (تقويم) فنجد أن المستشرق (المتعاطف) يسأل هذا السؤال: كيف نحكم على محمد ﷺ؟ أبمقاييس عصره؟ أم بأكثر الأفكار استنارة في الغرب اليوم؟ وفي جوابه على هذا السؤال يقرر أن أعمال محمد ﷺ التي لا يقبلها الغرب الحديث لم تكن موضوع نقد من معاصريه، فمن وجهة نظر عصره لا يمكن تأييد اتهامه (بالغدر) أو الشهوانية (وهما الفريتان اللتان تترددان - كما رأينا فيما سبق - ضمن افتراءات أخرى بين المستشرقين منذ القرون الوسطى) لأن معاصريه لم يجدوا فيه مطعنا أخلاقيا من هذا النوع من أي وجه. ويشير المستشرق بالغدر إلى حادثين تاريخيين في السيرة: الأولى: سريه عبد الله جحش ﵁ في رجب من السنة الثانية للهجرة وأن قتال المسلمين للمشركين فيها كان انتهاكا للشهر الحرام، ومن ثم يُعد غدرا. وقد كفى الله رسوله ﷺ الرد على ما أثير بسبب هذه السرية وذلك في قوله تعالى (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم أن استطاعوا) . ومن الواضح أن اضطهاد المشركين للمسلمين وإخراجهم من ديارهم ومن المسجد الحرام ومحاولتهم ردة المسلمين عن دينهم - كل هذا شر من القتال في الشهر الحرام؛ لأنه فتنة والفتنة أكبر من القتل. الثانية: - مصير يهود بني قريظة وما نالهم من عقاب رداع جزاءا وفاقا لنقضهم العهد وتآمرهم مع المشركين أثناء غزوة الأحزاب للغدر بالرسول وبالمسلمين وهم محاصرون في المدينة في موقف من أشد المواقف هولا على المؤمنين، كما قال تعالى (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) . ويشير المستشرق بالشهوانية إلى زواجه ﷺ بالسيدة زينب بنت جحش ﵂، مع أنه يعترف بأن هذا الزواج قصد به التشريع لتحريم التبني الذي كان سائدا في الجاهلية؛ كما قال تعالى (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطرا وكان أمر الله مفعولا) . ولا يتسع المجال هنا للرد بالتفصيل على فرية (الشهوانية) التي يرددها المستشرقون، ويكفي أن نتساءل كيف يكون شهوانيا من اقتصر على زوجة واحدة أكبر منه سنا طيلة شبابه حتى بلغ الكهولة؟! وكيف يكون شهوانيا من كان كل زواج له بعدها وسيلة لنشر الإسلام وتطبيق تشريعاته؟! وكيف يكون شهوانيا من أصبح سيد الجزيرة ومكن الله له في الأرض ومع ذلك رفض حياة الترف وآثر حياة الخشونة والزهد وما عند الله على ما عند الناس؟ ثم أمر بتخيير زوجاته بين الرضى بهذه الحياة أو الفراق؟ كيف يكون هذا الإنسان العظيم والرسول الكريم (شهوانيا)؟! ويقرر المستشرق أن محمدا ﷺ في عصره وبيئته يعد مصلحا اجتماعيا وذلك لأنه وضع نظاما جديدا للضمان الاجتماعي (ومنه الزكاة)، وأقام بناء جديدا للأسرة وكلاهما كان تقدما كبيرا عما كان عليه العرب قبل الإسلام. بل ويُعد محمد ﷺ بمقاييس عصره كذلك مصلحا أخلاقيا وذلك لأنه كما يزعم المستشرق - أخذ أفضل ما في أخلاق البدو وتبناها للمجتمعات المستقرة، وبذلك وضع إطارا دينيا واجتماعيا لحياة كثير من الناس من أجناس مختلفة. وينتهي المستشرق إلى أن يصف الرسول ﷺ بأنه مصلح اجتماعي وأخلاقي ولكن بمقاييس عصره وبيئته؛ أي بمقاييس العرب الوثنيين والبدو قبل الإسلام وبالتالي فهو مصلح اجتماعي وأخلاقي في إطار هذا التحديد وليس رسولا من عند الله ورحمة للعالمين في كل زمان ومكان! ويتعرض لموقف المسلمين من رسولهم ﷺ وأنهم يرونه مثلا أعلى في السلوك الأخلاقي لكل البشر (أي في كل زمان ومكان) ويرى هو أن موقفهم هذا غلو لم يقنع إلا قليلا من غير المسلمين، وأن المسلمين لن ينجحوا في إقناع المجتمع الدولي والغرب المسيحي (المستنير) بأن رسولهم ﷺ مثل أعلى في السلوك الأخلاقي! والمستشرق يتجاهل أن رسول الله ﷺ كان ولا يزال الأسوة الحسنة للملايين من البشر المؤمنين طوال أربعة عشر قرنا من الزمان في عصور وبيئات مختلفة، وأنه كان ولا يزال المثل الأعلى في السلوك الأخلاقي لمستويات متنوعة من البشر من العامة والخاصة، من العلماء والفلاسفة، من المصلحين والمجاهدين والدعاة، من كل الأجناس والمجتمعات. فلا يحتاج إلى شهادة مستشرق كافر به حاقد عليه، وتكفيه شهادة ربه: (وإنك لعلى خلق عظيم) . وفي رأي المستشرق أن الصفات الشخصية التي أعانت الرسول ﷺ على نشر الإسلام هي ثلاث صفات رئيسية: ١- موهبة كعراف (كاهن) SEER: أي مقدرته على استبصار الأسباب الرئيسة للتخلف الاجتماعي في عصره، وعبقريته في التعبير عن هذا الاستبصار بصورة تهز السامع من أعماق كيانه، وهو يشير بهذا إلى القرآن الكريم ويرى أن القارئ الأوروبي ينفر، ومع ذلك فهو كتاب يناسب حاجات وظروف عصره (فقط) . ومن الواضح أن المستشرق ينكر أن القرآن وحي من عند الله. ٢- حكمته كسياسي: يقرر أن محمدًا ﷺ كان ذا نظر بعيد كمخطط سياسي وكمصلح اجتماعي، وهذا يتضح من التوسع السريع لدولته في المدينة، حتى أصبحت- بعد زمن قصير- " إمبراطورية " عالمية. ويتضح كذلك من " تكييف " مؤسساته الاجتماعية (أي مؤسسات الإسلام) للتطبيق في بيئات كثيرة متنوعة، واستمرار هذا التطبيق حتى الآن. ٣-مهارته في الإدارة: وتتجلي هذه المهارة في اختيار للرجال الذين عهد إليهم تولي الأعمال الإدارية اليومية، وذلك لأن المؤسسات السليمة والسياسة الحكيمة لا تؤثران تأثيرًا فعالًا إذا كان التنفيذ خاطئًا أو ضعيفًا. وقد خلف محمد ﷺ دولة ذات إدارة قوية. ثم يتساءل المستشرق " المتعاطف ": هل كان محمد نبيًا؟ في إجابته على هذا السؤال يزعم المستشرق أن الرسول ﷺ كان يتمتع بما يسميه الخيال المبدع: وهو في هذه الخاصية يشارك غيره من الفنانين والشعراء والكتاب ذوي الخيال المبدع، فكل هؤلاء يعبرون بالصيغ الحسية (أي بالصور والقصائد والتمثيليات والروايات) عما يشعر به كثير من الناس، ولكنهم لا يستطيعون التعبير عنه بأنفسهم، ومن ثم يتميز الإنتاج العظيم للخيال المبدع بنوع من " العالمية " لأنه لا يعبر عن مشاعر ومواقف الفرد الذي أنتجه فحسب، بل عن مشاعر ومواقف جيل كامل من الناس. ويرى المستشرق أن الأنبياء والزعماء الدينيين ذوي النبوءات (أي القادرين على التنبوء) يشتركون مع الفنانين والشعراء والكتاب في خاصية الخيال المبدع، ومن ثم يعلنون أفكارًا تتصل بأعمق التجارب الإنسانية، مع الاهتمام الخاص بحاجات العصر والجيل. وعلامة النبي العظيم- في رأيه- هي ما تحدثه " أفكاره " من جاذبية عميقة " أي تأثير عميق " عند أولئك الذين وجهت إليهم هذه الأفكار. ويتساءل المستشرق: من أين تأتي هذه الأفكار؟ ويشير إلى رأي من يقولون بأنها تأتي من اللاوعي، وإلى رأي من يقولون بأنها تأتي من الله (وهؤلاء هم المؤمنون بأديان الوحي) . ويرى هو أنها تأتي من تلك الحياة داخل الإنسان التي هي أكبر منه، وهي غالبًا تحت مستوى الوعي ولها صلة بالله. ويقرر المستشرق أن ليس هناك بالضرورة ما يحتم أن تكون كل أفكار الخيال المبدع صادقة وصحيحة. ويتساءل: ما القول في تلك الأفكار التي ينتجها الخيال المبدع وهي كاذبة أو غير صحيحة؟ وهنا يعرض للمقارنة: فيذكر أن الخيال المبدع عند هتلر كان على درجة كبيرة من التطور، كما كان لأفكاره تأثير واسع (على الجماهير) . ولكن يعتقد أنه كان مصابًا بالعصاب (الاضطراب العصبي)، وأن الألمان الذين اتبعوه إلى درجة التعبد قد أصابتهم عدوى ذلك العصاب. ومن الواضح أن المستشرق يحاول هنا- في خبث- أن يقارن الرسول الكريم ﷺ وما أوحي إليه من الذكر الحكيم بهتلر، وما عرف عنه من عصاب وهستيريا كانت تؤثر في الجماهير. ومن الواضح كذلك أن المستشرق يردد هنا ما ردده المستشرقون من قبله من افتراءات، كان منها وصفه ﷺ بالصرع والاضطراب العصبي والهستيريا! فأي " تعاطف "هذا؟ وأي موضوعية؟ وأي أمانة؟ ويزعم المستشرق أن " أفكار" محمد ﷺ التي أنتجها خياله المبدع كانت- إلى حد كبير- حقيقية وصحيحة. ولكن هذا لا يعني- في زعمه- أن كل ما في القرآن صحيح. فبعض " الأفكار " القرآنية حقيقية وصحيحة، وبعضها الآخر ليست كذلك؟ وهناك نقطة تبدو فيها " الأفكار " القرآنية- في زعم المستشرق- غير حقيقية وغير صحيحة، وهي الفكرة القائلة بأن الوحي (أي ما يسميه هو إنتاج "الخيال المبدع ") هو أسمى وأوثق من الطرق الإنسانية العادية كمصدر للحقيقة التاريخية، وهنا يشير إلى عدة آيات قرآنية تؤكد أن الله يوحي إلى رسوله بأنباء الغيب كقوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) . ويقرر أنه يقبل أن " الخيال المبدع " يمكن أن يقدم تفسيرًا جديدًا وأكثر صدقًا للأحداث التاريخية، ولكنه لا يقبل أن يكون " الخيال المبدع" مصدرًا للحقيقة التاريخية المجردة (أي مصدرًا للأخبار بالغيب من حقائق التاريخ) ويزعم أن هذا مبالغة وكذب. وهذه النقطة- كما يؤكد المستشرق- ذات أهمية خاصة بالنسبة للمسيحيين، وذلك لأن القرآن ينكر قتل عيسي ﵇ أو صلبه، ويعتقد المسلمون أن هذا الإنكار أهم من الشواهد التاريخية التي تقول بصلب المسيح. وهو يشير بذلك إلى قوله تعالى عن اليهود: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) . والواقع أنه ليس هناك " شواهد تاريخية" موثوق بها عن صلب المسيح ﵇. والروايات التي وردت في الأناجيل عن قصة الصلب تتضارب تضاريًا شديدًا، حتى ليعجب الإنسان كيف تختلف هذه الأناجيل في أصل هام من أصول ديانتهم. ولو صح أنه أصل لكان اهتمامها به متساويًا أو متقاربًا. وقد أورد بعض الباحثين أربعة وثلاثين وجهًا من التضارب بين نصوص، ويؤكد أن أنكار القرآن لقتل المسيح أو صلبه هو حق لاشك فيه. ويزعم المستشرق أن هدف القرآن من هذا الإنكار هو أن ينفي ادعاء اليهود قتله أو صلبه، ليجردهم مما يرونه انتصارا لهم. وهذا زعم واضح البطلان. فقد كرر القرآن الكريم وصم اليهود بأنهم كانوا يقتلون أنبياءهم بغير حق. فلماذا يستثني المسيح ﵇ من بين هؤلاء الأنبياء؟! مع أن قتله أو صلبه- لو كان أيهما قد حدث- يعد بلا شك وصمة عار تضاف إلى سجل اليهود المخضب بدماء الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس. ويزعم المستشرق كذلك أن المبالغة في دور الوحي قد أدت إلى نتائج أخرى. ومنها المبالغة في إسهام العرب في الثقافة الإسلامية على حساب الأجناس الأخرى المتحضرة التي اعتنقت الإسلام في مصر وسوريا والعراق وإيران. ويكفي لتنفيذ هذا الزعم أن الإسلام ساوي بين الناس جميعًا ولم يجعل مقياس الأفضلية بينهم الجنس أو العنصرية، بل التقوى. وأخيرًا يتساءل المستشرق مرة أخرى: هل كان محمد نبيًا؟ ويجيب بأنه كان رجلًا نشط عنده " الخيال المبدع " على مستويات عميقة، " وأنتج " "أفكارًا" ذات صلة بالقضايا الرئيسية في الوجود الإنساني، ومن ثم كان له تأثير واسع، ليس في عصره فحسب بل وكذلك في العصور التالية. ويقرر أنه بالرغم من أنه لم تكن كل " الأفكار "التي أتي بها الرسول ﷺ حقيقية وصحيحة-فقد استطاع أن يقدم للملايين من الناس دينًا أفضل مما كانوا عليه قبل أن يصبحوا مسلمين!! تفنيد فرية الأخذ من التوراة والإنجيل: ومما سبق يتضح أن المستشرق ينكر- كما ينكر جميع المستشرقين- أن القرآن الكريم وحي من عند الله. وفي مواضع أخرى من كتابه يتخذ هذا الإنكار الصورة المتفق عليها بين جميع المستشرقين، وهي أن القرآن يعتمد كثيرًا على الأخذ من اليهودية والنصرانية، وبخاصة على الأخذ من العهدين القديم والجديد أي من التوراة والإنجيل. ويكفي لتفنيد هذا الزعم أن القرآن الكريم قد أتى بالعقائد والأصول العامة التي أتت بها كل رسالات التوحيد الموحى بها قبله، كما قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) . ولكن الكتاب العزيز يختلف عن الكتب السابقة من عدة أوجه، ومن أهمها: ١- أن الكتب السابقة أنزلت على رسل بعثوا لأقوامهم خاصة، بينما أنزل القرآن للناس كافة. ٢- أن كتب أهل الكتاب، وبخاصة التوراة والإنجيل. قد حرفت بينما حفظ الله تعالى كتابه من كل تحريف. وهذا الوجه الثاني في غاية الأهمية بالنسبة لتفنيد فرية الأخذ من كتب اليهود والنصارى، فقد أكد القرآن الكريم تحريف أهل الكتاب لكتبهم (أي التوراة والإنجيل) في عدة آيات: منها على سبيل المثال قوله تعالى عن اليهود: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله)، (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه)، (يحرقون الكلم عن مواضعه ونسوا حظًا مما ذكروا به) وقوله تعالى عن النصارى: (ومن الذين إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًا مما ذكروا به) . وقد نعي القرآن الكريم على أهل الكتاب تحريفهم لعقيدة التوحيد، وانحرافهم عنها إلى عقائد باطلة، كعقيدة التشبيه عند اليهود، وعقيدة التثليث عند النصارى، كما نعى عليهما ما ترتب على انحرافهم في العبادة والشريعة والأخلاق، وذلك لأنهم (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا ألا ليعبدوا إلها واحد) وأحلو ما حرم الله من الربا وأكل أموال الناس بالباطل، واتصف اليهود خاصة بنقض العهد، وقسوة القلوب، وقتل الأنبياء بغير حق. فكيف يعقل أن يأخذ القرآن عن الكتب التي أعلن تحريفها؟! وعن أولئك الذين حرفوها وانحرفوا عن عقائدها وتعاليمها وتشريعاتها الموحي بها؟! وتحريف التوراة والإنجيل، وخلو القرآن من التحريف، حقيقة لا يؤكدها القرآن فحسب، بل يؤكدها كذلك العلماء والباحثون في الأديان، حتى من غير المسلمين. وقد أسلم بعض هؤلاء بعد اهتدائهم لهذه الحقيقة. وقد بين العلم الفرنسي موريس بوكاي الأخطاء العلمية العديدة التي وردت في التوراة والإنجيل نتيجة تحريفهما، وكذلك بين خلو القرآن من هذا الأخطاء، واشتماله على الحقائق العلمية التي أثبت العلم الحديث صحتها بعد مرور أربعة عشر قرنًا على نزوله على نبي أمي لم يقرأ كتابًا، ولم يدرس علوما. فكيف يُقبل عقلًا أن ينقل القرآن عن تلك الكتب (كما يزعم المستشرقون) ثم لا ينقل عنها ولو خطأ واحدًا؟ ولا يأتي إلا بالحق الذي لاشك فيه؟ أليس هذا وحده دليلًا على أنه وحي من الله: (وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) وإنه كتاب معجز كما قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا)؟ ونعود إلى المقال فنجده يذكر أن المستشرق البريطاني قد أثرى دراسة السيرة بالمعلومات الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك أثني عليه المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون، وهو يهودي ماركسي ألف هو الآخر كتابًا بالفرنسية عن محمد ﷺ ترجم ونشر بالإنجليزية، وهو مشحون بالافتراءات الاستشراقية على الرسول ﷺ ورسالته وشخصيته. وكثير من هذه الافتراءات مستمدة من التفسير المادي (الاقتصادي) للتاريخ عند كارل ماركس، ومن التحليل النفسي (الجنسي) للإنسان عند سيجموند فرويد. وكلها افتراءات ساقطة مبتذلة نعف عن مجرد ذكرها. وبعد، فرسولنا الكريم ﷺ قد عصمه الله من الناس، وهو الصادق المصدوق بشهادة ربه، وشهادة التاريخ، وشهادة الملايين الذي آمنوا به وصدقوه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه. فلا يحتاج إلى شهادة الكافرين والملاحدة. وإنما أردنا أن نبين للمخدوعين من المسلمين أن المستشرقين ليس بينهم منصف، فضلًا عن (متعاطف) . وأنهم جميعًا (ملة واحدة) يهدفون إلى غاية واحدة وهي إطفاء نور الله. وهيهات هيهات: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) (المصدر: رؤية إسلامية للاستشراق، للأستاذ أحمد غراب، ص ١١٥-١٢٦)
نامعلوم صفحہ
الألف كتاب الثانى نافذة على الثقافة العالمية
المشرف العام ا. د. سمير سرحان
رئيس التحرير ا. د. محمد عنانى
مدير التحرير عزت عبد العزيز
المشرف الغنى محسنة عطية
سكرتير التحرير هند فاروق
تصحيح محمد حسن بدر شفيق
1 / 4
الفهرس
الموضوع الصفحة
مقدمة الترجمة العربية ٩
القران الكريم ١٠
الحديث ١٣
كتب السيرة والمغازى ١٦
كتب التاريخ العام ٢٢
علم نفس النبوة ٢٥
قضية عثمان بن مظعون (رضى الله عنه) وقضايا أخرى شبيهة ٢٩
الأمن والمال والدولة والرسالة ٣٣
«كل التاريخ تاريخ حديث» ٣٦
مقدمة ٣٩
تمهيد ٤٠
١- وجهة نظر ٤٠
٢- ملاحظة عن المصادر ٤١
الفصل الأول: الخلفية العربية
١- الأسس الاقتصادية ٤٩
٢- السياسة المكية ٥٣
(أ) المجموعات السياسية فى قريش ٥٣
(ب) ادارة الأمور فى مكة ٥٩
(ج) قريش والقبائل العربية ٦٢
(د) سياسة مكة الخارجية ٦٤
1 / 5
الموضوع الصفحة
٣- الخلفية الاجتماعية والأخلاقية ٧٠
(أ) التضامن القبلى والفردية ٧٠
(ب) المثل العليا الأخلاقية ٧٥
٤- الخلفية الدينية والفكرية ٧٨
(أ) تدهور الديانة القديمة ٧٨
(ب) «الانسانية القبلية» ٨٠
(ج) ظهور الاتجاه نحو التوحيد ٨٢
الفصل الثانى: بواكير حياة محمد ﷺ ودعوة النبوة
١- نسب محمد ﷺ ٨٩
٢- مولد محمد ﷺ وسنواته الأولى ٩٢
٣- زواج محمد ﵊ من خديجة ٩٩
٤- الدعوة للنبوة ١٠٢
(أ) رواية الزهرى ١٠٢
(ب) رؤى محمد ﵊ ١٠٥
(ج) الاختلاء فى حراء، التحنث ١٠٩
(د) «أنت رسول الله» ١١٠
(هـ) «اقرأ» ١١٢
(و) سورة المدثر، الفترة ١١٤
(ز) خوف محمد ويأسه ١١٨
(ح) خديجة وروقة بن نوفل يشدان من أزر محمد ﷺ ١١٩
خاتمة ١٢١
٥- أشكال وعى محمد ﷺ بنبوته ١٢١
٦- التتابع الزمنى لوقائع الحقبة المكية ١٣٠
الفصل الثالث: الرسالة الأصلية (جوهر الرسالة)
١- فى تاريخ نزول القران (الكريم) ١٣٣
٢- المحتوى القرانى لأول ما نزل من القران (الكريم) ١٣٦
(أ) خلق الله للانسان ولطفه به ١٣٦
(ب) الكل راجع الى الله ليوفيه حسابه ١٤٠
1 / 6
(ج) استجابة الانسان- شكر وعبادة ١٤٣
(د) استجابة الانسان لله سبحانه- السماحة والكرم والتطهر ١٤٦
(هـ) مهمة محمد ١٥٢
٣- العلاقة الوثيقة بين الرسالة والأحوال المعاصرة ١٥٣
(أ) الجانب الاجتماعى ١٥٣
(ب) الجانب الأخلاقى ١٥٦
(ج) الجانب العقلى ١٥٩
(د) الجوانب الدينية ١٦١
٤- مزيد من التأمل ١٦٣
(أ) الظروف الاقتصادية والدين ١٦٣
(ب) أصالة القران الكريم ١٦٤
الفصل الرابع: أول من أسلم
١- الروايات المتداولة عن المسلمين الأوائل ١٧٢
٢- استعراض للمسلمين السابقين ١٧٦
٣- اللجوء الى الاسلام ١٨٩
الفصل الخامس: تزايد المعارضة
١- بداية المعارضة، الايات الشيطانية ١٩٣
(أ) خطاب عروة ١٩٣
(ب) قصة الايات الشيطانية ١٩٦
(ج) الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) الدوافع والتفسير ٢١٤
٢- أمور الحبشة ٢٢٦
(أ) الرواية التقليدية عن الهجرة الى الحبشة ٢٢٧
(ب) شرح قائمتى المهاجرين الى الحبشة ٢٣٥
(ج) أسباب الهجرة الى الحبشة ٢٣٨
٣- مناورات المعارضة ٢٤٥
(أ) اضطهاد المسلمين ٢٤٥
1 / 7
(ب) الضغط على بنى هاشم ٢٤٨
(ج) عروض التسوية على محمد ﷺ ٢٥٣
٤- شهادة القران (الكريم) ٢٥٤
(أ) النقد الكلامى لرسالة محمد ﷺ ٢٥٤
(ب) النقد الكلامى لنبوة محمد ﷺ ٢٥٩
(ج) أفعال معارضى محمد ٢٦٥
٥- قادة المعارضة ودوافعهم ٢٦٨
الفصل السادس: افاق ممتدة
١- تدهور فى أوضاع محمد ﷺ ٢٧٢
٢- زيارة النبى للطائف ٢٧٤
٣- الاقتراب من القبائل البدوية ٢٧٧
٤- المفاوضات مع المدينة ٢٧٨
(أ) توطئة ٢٧٨
(ب) بيعتا العقبة، الأولى والثانية ٢٨٣
٥- هجرة النبى ﷺ الى المدينة ٢٩٠
٦- حصاد الحقبة المكية ٢٩٣
الملاحق
الملحق (أ): الأحابيش ٢٩٩
الملحق (ب): التوحيد عند العرب والتأثيرات اليهودية المسيحية ٣٠٦
الملحق (ج): الحنفاء ٣١٣
الملحق (د): مبحث حول (تزكى) ٣١٧
الملحق (هـ) ٣٢٨
الملحق (و): المرويات عن عروة ٣٧٠
الملحق (ز): قوائم مختلفة ٣٧٤
الملحق (ح): عودة المهاجرين ٣٧٧
المراجع ٣٧٩
1 / 8
مقدمة الترجمة العربية
كتب مونتجمرى وات عددا كبيرا من البحوث والدراسات عن الاسلام، منها (القضاء والقدر فى القرون الثلاثة الأولى للهجرة) و(رسالة الاسلام فى العالم المعاصر) و(محمد ﷺ فى المدينة) وغيرها كثير، وكان الرجل متزنا فى غالب دراساته هذه التى ترجم عدد منها الى العربية «١» .
وقد مضى ذلك الزمان الذى كان يتحرج فيه الناس فى عالمنا العربى من ترجمة كتب المستشرقين التى تتناول الاسلام، فقد أصبح ضروريا فى عصر تمور فيه الأفكار ان نعرف ما كتبه الاخرون عن المسلمين، فليس كله سيئا على أية حال، كما أصبح من الضرورى أن نعرف- بشكل أعمق- أديان الاخرين وثقافاتهم، فهى موجودة بين أيدينا، ونتعامل معها بالضرورة. وبالنسبة للكتاب الذى معنا الان، فان أول معيار للحكم عليه هو مصادره. فما المصادر التى رجع اليها ليأخذ معارفه الأساسية عن محمد ﷺ فى الحقبة المكية؟
ان بعضها لا يرقى اليه الشك (القران والأحاديث الصحيحة)، لكن بعضها الاخر يورد أخبارا قد لا يوافق عليها بعض المسلمين (كتب السيرة والتاريخ العام) . وفى هذه الحالة، فالأولى بالنقد هو كتب التراث وليس ما اقتبسه وات منها، مما يثير قضية تقويم كتب التراث قبل نشرها.
وفيما يلى عرض تفصيلى للمصادر التى أخذ منها (وات) النصوص التى أقام عليها تحليلاته:
_________
(١) صدر الكتابان الأولان فى هذه السلسلة.
1 / 9
القران الكريم
المصدر الأول الذى رجع اليه وات Watt هو القران الكريم، وذلك من خلال المطبوعين التاليين:
ترجمة ريتشارد بل Bell للقران الكريم، الذى نشر فى جزءين (١٩٣٧- ١٩٣٩) فى أدنبرة ببريطانيا. غير أن بل فعل شيئا اخر غير الترجمة، لقد أعاد ترتيب السور والايات مسلسلا اياها حسب النزول الأول فالأول، Critical rearrangement وأعطى للايات والسور ترقيما بالحروف كالاتى:
أول ما نزل
باكره، أى من أول ما نزل بمكة- الحقبة القرانية الأولى
مكى بشكل عام
اخر الحقبة المكية
مدنية باكرة
مدينة بشكل عام
مرتبطة بغزوة بدر
مرتبطة بغزوة أحد
حتى الحديبية
بعد الحديبية
منسوخة.
ومعنى هذا أن بل Bell رجع لكتب التفسير كلها، وكتب السيرة وكتب أسباب النزول ليقوم بهذا العمل المرهق. ورجع وات Watt
1 / 10
لمطبوع اخر للقران الكريم بترجمة بل أيضا، لكن المستشرق فلوجل Flugel هو الذى تحمل مسئولية ترقيم الايات.
المطبوع الثانى يمثل جهدا من نوع يبين مدى الاهتمام الذى حظى به القران وسيرة الرسول ﷺ فى الغرب لسبب أو اخر، ونعنى به كتاب ليون كيتانى Leone Caetani الذى حاول ترتيب أحداث السيرة النبوية عاما فعاما، Annali dellIslam وربط ترتيبه هذا بالايات القرانية، فكأنما هو جعل السيرة اطارا عاما، ثم راح يبحث عن الايات أو السور التى تناسب كل واقعة أو حادثة أو ظرف اجتماعى، ووضعها مرتبطة بها، سواء كان ذلك بناء على مصادر اسلامية أو استنتاجا بالشواهد والقرائن والتخمينات. ولا بد أن كتاب نولدكه Noldeke الشهير عن تاريخ القران Geschichte des Quran قد تعرض لأسباب النزول وتحدث عن السابق والأسبق نزولا من الايات القرانية، لكن مما يؤسف له أنه لم يتح لى قراءة هذا الكتاب ولا أظنه مترجما.
وهنا تثور عدة أسئلة. نبدأ بأولها: لماذا بذل المستشرقون هذا الجهد المضنى لترتيب القران الكريم وفقا للأسبق فالسابق فالأقل سبقا.. الخ؟
ان أسباب ذلك متعددة، منها ما ذكره وات نفسه فى مقدمته وهو محاولة (... ربط المادة التاريخية التقليدية- يقصد ما ورد فى كتب السيرة وغيرها- بالقران الكريم. ولقد كان من المعتاد لفترة من الوقت التأكيد على أن القران الكريم هو المصدر الأساسى للحقبة المكية فلا شك أن القران معاصر لهذه الفترة، لكن القران- اذا استبعدنا صعوبة تحديد الترتيب الزمنى للأجزاء المختلفة (ترتيبه حسب تاريخ النزول) وعدم وضوح كثير من النتائج المتعلقة بذلك لأن القران نزل مفرقا ومنجما- لا يعطى لنا الصورة الكاملة لحياة محمد ﷺ والمسلمين فى الفترة المكية..) .
1 / 11
ويخلص وات الى أنه- لذلك- سيعتمد على القران الكريم كمصدر لتاريخ الفترة المكية، بالاضافة الى أحاديث الرسول ﷺ وكتب السير.. الخ.
سبب اخر دفع هؤلاء المستشرقين لاعادة ترتيب النص القرانى وهو ايمانهم بالمنهج التطورى فى التفكير وكتابة التاريخ، سواء تاريخ أوربا أو تاريخ العالم الاسلامى. كما أنهم لا يرون الأحداث تتحرك فى فراغ وانما من خلال بيئة اجتماعية واقتصادية وسياسية. كما أنهم يبحثون دائما عن دافع أو وازع للحركة، وقد يصيبون وقد يخطئون. واذا لم يضع القارئ فى اعتباره هذه (النظرة) أو هذه (الطريقة فى التفكير)، فقد يسىء فهم ما يقرأ.
اننا نكاد نفهم أن وات اعتمادا على ترتيب بل الانف ذكره- يكاد يحدثنا عن المرحلة القرشية للاسلام، أى المرحلة التى بدا فيها الاسلام وكأنه لقريش دون سواها. ونكاد نفهم من تلميحاته أحيانا وتصريحاته حينا- أن الاسلام بدأ يمر بمرحلة عربية أى أنه فى هذه المرحلة صار موجها للعرب.
ولا يقصد وات هنا أن الاسلام ليس دينا عالميا، فهذه مسألة حسمها التاريخ، فالاسلام يمتد الان بكثافة ما بين خط عرض ٦٠* شمالا وخط عرض ٦* جنوبا، بالاضافة لمسلمين كثيرين خارج ما يحتضنه هذان الخطان.
بل ان البعد العالمى ظهر فى الاسلام منذ بواكير الدعوة، فقد كانت كل أجناس البشر ممثلة حول الداعى الرسول ﷺ، فقد كان هناك صهيب (الرومى) وسلمان (الفارسى) وبلال (الحبشى) وعرب يمنيون وعرب شماليون. و(وات) نفسه يذكر لنا فى كتاب اخر له ترجم للعربية بعنوان (الاسلام والمسيحية) «١» ان الاسلام هو دين المستقبل، لأنه يحتضن كل قيم الديانتين السابقتين عليه: اليهودية والمسيحية، بالاضافة لأسباب أخرى ساقها تفصيلا فى كتابه.
_________
(١) فى سلسلة الألف كتاب الثانى، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
1 / 12
فليس المقصود، اذن، بالمرحلة القرشية والمرحلة العربية وصم الاسلام بالمحدودية، وانما كان من الطبيعى ان تبدأ الدعوة لقريش ثم تمتد وفقا لتطور الأحداث. وأرانى غير منزعج كثيرا بقول وات ان الربا لم يحرم فى المرحلة المكية لأنه كان أمرا شائعا بين تجار مكة، وانه لم يحرم الا فى المرحلة المدنية بعد استقرار دولة الجماعة الاسلامية. فالتدرج فى الدعوة، ومراعاة الظروف والرفق، كل ذلك من الأساليب المعروفة فى الدعوة بشكل عام ودعوة الاسلام بشكل خاص. فالخمر محرمة فى الاسلام يقينا، لكن ذلك لا يمنع من أن ذلك تم بالتدريج كما هو ثابت فى ايات القران الكريم.
بقى سؤال اخر: أليس أمرا مزعجا أن يعاد ترتيب ايات القران الكريم وسوره؟ أليس ذلك تحريفا للكلم عن مواضعه؟
اللهم لا*، فهذا يقصد به فهم مجريات الأمور وربط الايات الكريمة بأسباب نزولها، ومحاولة فهم الايات فى ضوء الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ... وقد استقر المصحف الشريف بترتيب سوره وآياته، ونحن نقرأه متعبدين بهذه الطريقة التى حفظه الله بها.
الحديث
والمصدر الثانى الذى اعتمد عليه (وات) هو أحاديث الرسول ﷺ، ومن المعروف أن مجموعات الأحاديث التى ينظر لها المسلمون باعتبارها تضم أصح الأحاديث عن رسول الله ﷺ هى المجموعات المعروفة بالصحاح:
البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن ماجه وأبو داود. وقد اختار وات لنفسه مرجعا لكتابه هذا هو صحيح البخارى، ربما لتوافر ترجمة له، وربما لأنه كان متاحا له دون سواه. وهو اختيار موفق على أية حال.
_________
* فى تقديرى، أن القران الكريم استقر على ترتيب معين، وكان الرسول ﷺ عندما تنزل اية أو ايات من القران الكريم يدل كتاب الوحى على السورة التى تنضاف اليها الاية أو الايات، ومن هنا فمن المتفق عليه أن ترتيب ايات السور توقيفى، أى من عند الله لا يجوز تجاوزه (السيوطى: الاتقان فى علوم القران ص ٩٠ وما بعدها- (المراجع) .
1 / 13
بقيت مسألة، فنحن نعرف أن احاديث الرسول ﷺ هى المصدر الثانى للتشريع الاسلامى بعد القران الكريم، لكن ماذا عنها كمصدر للتاريخ؟
الواقع أن الفرق رقيق جدا بين (المحدث) و(الاخبارى) و(المؤرخ) عندما نتحدث عن الفترة التى عاش فيها الرسول ﷺ بعد نزول الوحى عليه. فالمحدث هو كل مشتغل بالسنة وهو غير المؤرخ الذى يشتغل بالأخبار التاريخية ألا اذا كانت هذه الأخبار متعلقة بالرسول ﷺ، الا أن كلمة (المحدث) كانت تطلق أحيانا على المشتغل بجمع الأخبار التاريخية وروايتها، كما أن أخبار الرسول ﷺ وأفعاله وأقواله واقراراته هى فى حد ذاتها أخبار تاريخية «١» . وحتى لو اشتملت مجموعات الأحاديث على ذلك النوع المعروف بالأحاديث القدسية وهى التى يبلغها الرسول ﷺ عن ربه، فهى أيضا تفيد فى شرح العقيدة ومعرفة التوجيهات التى يطلبها الله ﷿، وبالتالى فهى مصدر من مصادر التاريخ. ومن المفيد هنا أن نورد الحديث القدسى الشهير الذى رواه مسلم عن أبى ذر الغفارى عن الرسول عن ربه: (يا عبادى، انى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. يا عبادى، كلكم ضال الا من هديته فاستهدونى أهدكم.
يا عبادى، كلكم جائع الا من أطعمته فاستطعمونى أطعمكم. يا عبادى، كلكم عار الا من كسوته فاستكسونى أكسكم. يا عبادى، انكم تخطئون فى الليل والنهار وأنا اغفر الذنوب جميعا فاستغفرونى أغفر لكم. يا عبادى، انكم لن تبلغوا ضرى فتضرونى، ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى. يا عبادى، لو أن أولكم واخركم وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا. يا عبادى، لو أن أولكم واخركم وانسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا.
يا عبادى، لو أن أولكم واخركم وانسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل انسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى الا كما ينقص الخيط اذا أدخل البحر. يا عبادى، انما هى أعمالكم أحصاها لكم ثم أوفيكم بها. فمن وجد خيرا فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه) . فالمتأمل فى هذا الحديث القدسى يدرك أنه وان كان موجها للشرية عامة، الا أنه لا بد من مناسبة وظروف بيئية قيل فيها هذا الحديث
_________
(١) محمد اسماعيل ابراهيم: الأحاديث النبوية والمحدثون. القاهرة، دار الفكر العربى، ١٩٧٣.
1 / 14
القدسى. انه موجه لأقوام فى الغاية من الغرور. وفى الغاية من الثقة فى أموالهم وقوتهم. يظنون أنهم هم المطعمون للناس ... الخ.
والواقع، أن علماء الحديث أو المحدثين كانوا هم رواد علم التاريخ عند المسلمين، فقد صار المؤرخون على نهجهم فى (العنعنة) أو (الاسناد) أو نسبة الخبر الى سلسلة من الرواة، فعلوم الحديث تشكل فى حد ذاتها مناهج لتصحيح الخبر، وهو أيضا عمل المؤرخ.
وفيما يلى نذكر بعض القضايا من علم مصطلح الحديث:
علم الجرح والتعديل، ويبحث فى أحوال الرواة من حيث أمانتهم وعدلهم وضبطهم أو عكس ذلك من كذب أو غفلة أو نسيان، ويسمى أيضا علم ميزان الرجال.
علم رجال الحديث، وهو علم يتناول تراجم للرواة وحياتهم ومعرفة تواريخ مواليدهم وتواريخ وفاتهم والاشارة لمواطنهم، وحالاتهم العقلية والصحية، وأول من كتب فى هذا العلم هو ابن سعد (توفى ٢٣٠ هـ)، والبخارى (توفى ٢٥٦ هـ)، ابن الأثير فى كتابه أسد الغابة فى معرفة الصحابة (ت: ٦٣٠ هـ) .
علم مختلف الحديث (بكسر اللام)، وهو يبحث فى التوفيق بين الأحاديث التى ظاهرها التناقض.
علم علل الحديث (بكسر العين)، ويبحث فى أسباب القدح فى صحة الحديث أو اتهامه بأنه موضوع.
علم غريب الحديث، ويبحث فى الأحاديث التى ينفرد بها راو واحد موثوق به.
علم الناسخ والمنسوخ من الحديث، وهو علم يبحث فى أوامر أو توجيهات قال بها الرسول ﷺ ثم عدل عنها أو جاء بأوامر وتوجيهات غيرها.
من هذا العرض يتضح أن علماء الحديث فى عصور التنوير الاسلامى لم يكونوا يأخذون الحديث على علاته، وانما كانوا يقومون ازاءه بعملية
1 / 15
نقد للنص ونقد للراوى، والتأمل فيه والتدبر فى محتواه، وبخاصة أن أحاديث الرسول ﷺ لم تجمع الا فى القرن الثالث للهجرة، أى بعد مضى أكثر من مائتى سنة على نطق الرسول ﷺ بها، مما جعلها عرضة للتزوير والتزييف، وعرضة لأصحاب الغرض والهوى «١» . وقد جعل المحدثون وعلماء الحديث لأحاديث الرسول درجات، فليس كل ما روى عن الرسول ﷺ صحيحا، لأنه لم يدون فى غالبة وقت نطق الرسول به. وقد أفرد علماء الحديث مجموعات لبعض الأحاديث الموضوعة أى المكذوبة على رسول الله منها: المصنوع فى معرفة الحديث الموضوع الذى وضعه على القارى الهروى.
وقد تحاشى (وات) الرجوع للأحاديث المشكوك فيها واكتفى بصحيح البخارى، وهو باختياره هذا قد اختار الأحاديث التى أجرى عليها علماء الحديث منهجهم فى نقد سلسلة الرواة، والمتن أيضا.
وعندما ألف أسد رستم كتابه (مصطلح التاريخ) الذى حقق شهرة واسعة فى جيلى على الأقل، لم يفعل فى الحقيقة الا أنه أعاد صياغة ما ورد فى كتب مصطلح الحديث.
كتب السيرة والمغازى
رجع (وات) فى كتابه هذا الى أهم مصدرين تعرضا للسيرة النبوية على الاطلاق، وهما السيرة النبوية لابن اسحق (المتوفى ١٥٠ هـ) والتى
_________
(١) من الكتب الأساسية التى تناولت علوم الحديث التى هى فى الواقع علوم نقد النص وتحقيقه نذكر: الباعث الحثيث فى شرح اختصار علوم الحديث، لابن كثير، شرح احمد محمد شاكر. علوم الحديث لابن الصلاح (أبو عمرو عثمان الشهرزورى) . ومن الكتب الحديثة: علوم الحديث ومصطلحه تأليف د. صبحى صالح، وعلوم الحديث لمحمد على قطب وغيرهما كثير.
1 / 16
هذبها ابن هشام (المتوفى ٢١٣ هـ)، والطبقات الكبرى لابن سعد (المتوفى ٢٣٠ هـ) .
ومن المعروف أن كتب السيرة التقليدية، بالاضافة الى هذين الكتابين، هى: كتابات الواقدى (المتوفى ٢٠٧ هـ) وعملان اخران كتبا فى زمن متأخر هما: الكتاب المعروف بسيرة ابن سيد الناس (توفى ٧٢٤ هـ/ ١٣٣٤ م) وقد جعل لها مؤلفها ابن سيد الناس عنوانا هو (عيون الأثر فى فنون المغازى والشمائل والسير)، وسيرة نور الدين الحلبى (المتوفى ١٠٤٤ هـ/ ١٦٢٤ م) المعروفة بين الناس باسم السيرة الحلبية. وقد جعل لها مؤلفها عنوانا هو (انسان العيون فى سيرة الأمين المأمون) .
وبتركيز وات على سيرة ابن اسحق (نقلا عن ابن هشام) وعلى الطبقات الكبرى لابن سعد يكون قد رجع للمصادر الأمهات التى اعتمدت عليها المصادر اللاحقة.
وقد تناول المؤلف مراجعه هذه فى ضوء منهج نقد النص أو معرفة ظروف تأليفه وربطه بالفترة الزمنية التى كتب فيها، ومعرفة اتجاهات الكاتب وما الى ذلك. وهى مسألة فى الغاية من الأهمية لابد أن يراعيها قراء كتب التراث، وهى لا تعنى تشكيكا بالضرورة فى هذه الكتابات، ولا تعنى- بالضرورة- انكار ما أوردته من معلومات، لكن هذه الظروف جميعا تعين على فهم التوجهات العامة التى قد يسير فيها المؤلف ربما بدون وعى منه. ومن المفيد أن نستطرد فى مسألة (تقويم المرجع) أو (نقد النص) هذه لأنها مسألة تنويرية خاصة فى ظل حركة نشر كتب التراث على نطاق واسع، ربما تأكيدا للذات، وتمسكا بالهوية وهو أمر مطلوب على أية حال.
ولتبسيط الأمور وجعلها أقرب للفهم لا بأس من ضرب أمثلة معاصرة، ثم نعرج بعد ذلك على أمثلة من السيرة النبوية. ألا يضيف الينا شيئا عند قراءتنا لكتاب عن عبد الناصر مثلا أن نعرف ان كان الكتاب قد تم تأليفه فى حياة عبد الناصر أم بعد مماته؟ ثم هل نشر الكتاب داخل مصر أم خارجها؟ وهل حظى بمباركة عبد الناصر أم أثار سخطه؟ وان كان
1 / 17
قد نشر خارج مصر، هل نشر فى دوله معادية لعبد الناصر أم فى دولة صديقة؟ وهل كان المؤلف يشغل منصبا فى حكومة عبد الناصر أم لا؟
وهل كان فى موقع يسمح له بالاطلاع على دواخل الأمور؟ وهل كان جزا من النظام؟ أم هل استقى معلوماته من المصادر العامة المتاحة، وكان كل دوره هو التحليل والتعليل؟ هل هو مصرى؟ هل هو اسرائيلى؟
هل هو عربى؟ هل هو غير ذلك؟ هل استفاد من النظام؟ هل أضير فى ظل النظام؟ من الجهة التى مولت الكتاب؟ هل كتبه بتكليف؟
هل هو كتاب دراسى؟ .. الخ. ألا تضيف اجابات هذه الأسئلة بعدا للكتاب وتوضيحا لبعض ما ورد به؟
هذا بالتأكيد صحيح، وليس معنى هذا أننا نشكك جازمين بما ورد فيه. لكن معرفة هذه الأمور بالنسبة لأى كتاب- تراثى أو غير تراثى- مسألة مهمة لفهم محتواه، وما قيل عن كتاب يتناول عبد الناصر، يقال عن كتاب اخر يتناول السادات، ويقال عن أى كتاب على وجه الاطلاق.
يكفى للدلالة على أهمية تقويم المرجع أن نضع بين أيدينا مجموعة كتب عن أسرة محمد على قبل قيام ثورة يوليو ١٩٥٢، ومجموعة كتب أخرى بعد هذه الثورة. ولنقارن. ليس من الضرورى أن تكون المجموعة الأولى غير دقيقة بالضرورة، وليس أيضا من الضرورى أن تكون المجموعة الثانية صحيحة أو العكس. وقد تكون المعلومات فى كليهما صحيحة. وانما جرى التركيز على معلومات بعينها واغفال أخرى.. وهكذا.
نورد هذا لنقول، انه من المفيد أن نعرف أن ابن اسحق قدم كتابه عن السيرة الى الخليفة العباسى الثانى أبى جعفر المنصور لتكون بمثابة منهج دراسى يدرسه ولى عهده المهدى. وقد طلب المنصور أن يشتمل الكتاب على تاريخ البشرية منذ ادم ﵇. وفى رواية الخطيب البغدادى أن الذى كلفه بتأليف الكتاب هو المهدى (... دخل محمد ابن اسحق على المهدى وبين يديه ابنه فقال له: أتعرف هذا يا ابن اسحق؟
1 / 18
قال نعم، هذا ابن أمير المؤمنين. قال: اذهب فصنف له كتابا منذ خلق الله تعالى ادم ﵇ الى يومك هذا..) «١» .
ليس معنى هذا أننا نقول ان ابن اسحق قد حابى بنى العباس ونزع من تاريخ أسرتهم ما لا يرضيهم، لكنه ربما يكون قد خفف الصياغة، كما أنه ليس من الضرورى أن يكون زور تاريخ عبد شمس. لكنه ربما يكون قد ركز على نقاط دون سواها. والواقع، أنه كان من الصعب جدا تزوير التاريخ بشكل واضح لأن القبائل التى عاصرت الدعوة الاسلامية كانت لا تزال موجودة لم تنقرض، وما كان ابن اسحق يؤلف كتابه بشكل سرى، فلا بد أن أفرادا من قبائل وعشائر مختلفة قد سمعوا بما حواه ان لم يكونوا قد قرؤه.
وعندما يقوم وات باثارة أمور كهذه، مجرد اثارة دون تأييد أو معارضة، فهو لم يفعل أكثر من ممارسة حقه فى تقويم المصدر.
وسنعتمد فى العرض الذى سنقدمه فى السطور التالية عن ابن اسحق على كتاب مهم ألفه المستشرق الألمانى جوزيف هوروفتس هو (المغازى الأولى ومؤلفوها)، الذى ترجمه الدكتور حسين نصار «٢» ومراجع أخرى.
ومحمد بن اسحق هو أعظم التلاميذ الذين تخرجوا على يد شيخ مؤرخى السيرة فى القرن الأول وهو محمد بن شهاب الزهرى. واسمه الكامل هو أبو عبد الله محمد يسار وكان جده يسار من نصارى العراق الذين وقعوا فى أسر المسلمين سنة ١٢ هـ فكان رقيقا لبنى قيس بن مخرمة ابن المطلب. واعننق يسار الاسلام فحرره سيده، لذا فهو من الموالى.
وعندما رزق اسحق بابنه محمد دفع به الى من يعلمه الحديث والفقه، وعلمه بنفسه فقد كان اسحق من رواة الحديث. وقد نقل ابن اسحق فى
_________
(١) الخطيب البغدادى، أبو بكر أحمد بن على الخطيب: تاريخ بغداد، ج ١، ص ص ٢١٤- ٢٣٤.
(٢) نشر فى القاهرة، سنة ١٩٤٩.
1 / 19
كتابه معلومات كثيرة عن شيوخه: عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله ابن أبى بكر بن حزم، ومحمد بن شهاب الزهرى، وهذا الأخير هو أهمهم جميعا.
وقد زار ابن اسحق الاسكندرية سنة ١١٥ هـ فدرس على يد محدثها يزيد بن ابى حبيب، ثم عاد للمدينة المنورة. وقد أورد ابن خلكان فى ترجمته له «١» ما نصه:
«وكان محمد المذكور ثبتا فى الحديث عند أكثر العلماء، وأما فى المغازى والسير فلا تجهل امامته، قال ابن شهاب الزهرى: من أراد المغازى فعليه بابن اسحاق، وذكره البخارى فى تاريخه، وروى عن الشافعى رضى الله عنه انه قال: من أراد أن يتبحر فى المغازى فهو عيال على ابن اسحاق، وقال سفيان بن عيينة: ما أدركت أحدا يتهم ابن اسحاق أمير المؤمنين، يعنى فى الحديث، ويحكى عن الزهرى أنه خرج الى قرية له فاتبعه طلاب الحديث فقال لهم: أين أنتم من الغلام الأحول، يعنى ابن اسحاق، وذكر الساجى أن أصحاب الزهرى كانوا يلجأون الى محمد بن اسحاق فيما شكوا فيه من حديث الزهرى، ثقة منهم بحفظه، وحكى عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد القطان أنهم وثقوا محمد بن اسحاق واحتجوا بحديثه، وانما لم يخرج البخارى عنه وقد وثقه، وكذلك مسلم بن الحجاج لم يخرج عنه الا حديثا واحدا فى الرجم من أجل طعن مالك بن أنس فيه ...» .
ويقال، ان ابن اسحق كان من أنصار مذهب القدرية (مسئولية الانسان عن فعله خيرا أم شرا) وهو مذهب المعتزلة، ومعنى هذا أن الرجل كان ذا ميول مناهضة لبنى أمية، وقد قام وات فى كتاب اخر له عن القضاء والقدر، بربط المذاهب والاتجاهات التى تبدو وكأنها مسائل دينية خالصة، بالتوجهات السياسية «٢» . وبشكل عام، فقد كان علماء الحديث
_________
(١) وفيات الأعيان- ترجمة محمد بن اسحق.
(٢) راجع الدراسة الملحقة بكتاب (القضاء والقدر فى فجر الاسلام وضحاه) تأليف مونتجمرى وات، ترجمة د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ- سلسلة الألف كتاب الثانى.
1 / 20
لا يثقون كثيرا فى الاخباريين وكتاب السير، بسبب دقتهم الشديدة- أى علماء الحديث- فى تحرى الخبر عن رسول الله ﷺ، لذلك ليس بمستغرب أن تكون علاقة ابن اسحق بمالك بن أنس عالم المدينة ومحدثها علاقة غير طيبة. وقد عاد ابن اسحق الى العراق بعد سقوط الدولة الاموية، وربما يكون حبه للعباسيين هو الذى دفعه للمقام فى العراق، وفيه وافته منيته فى بغداد سنة ١٥١ هـ أو ١٥٢ هـ على خلاف.
أما الكتاب الثانى من هذه الفئة من الكتب (السير) الذى اعتمد عليه وات فهو الطبقات الكبرى لابن سعد، واسمه الكامل محمد بن سعد ابن منيع البصرى، المولود فى البصرة سنة ١٦٨ هـ، وكان ابن سعد مولى للهاشميين، وان كان ابن خلكان يجعل ولاء ابن سعد لبنى زهرة، وكان كاتبا للواقدى ودرس فى المدينة المنورة وبغداد والكوفة. وقد تقيد ابن سعد بأسلوب مدرسة الحديث فى ايراد أخباره التاريخية، لذلك كانت علاقته بالفقهاء وعلماء الحديث أفضل من علاقة ابن اسحق بهم. ورغم أن كتاب ابن سعد يندرج تحت كتب الطبقات، الا أن الدراسة الطويلة المفصلة التى أوردها فى الجزء الأول عن سيرة الرسول ﷺ جعلت الباحثين حتى المستشرقين- يعتبرونه واحدا من كتاب سيرة الرسول ﷺ.
ثم نتعرض بايجاز لكتاب الواقدى (١٣٠- ٢٠٨) . وكان الواقدى منتميا بالولاء لعبد الله بن بريدة من بنى أسلم (من أهل المدينة) وذكر هو نفسه أنه انتمى بالولاء للهاشميين، وقد ولد فى اخر الدولة الأموية، ومات عن عمر يناهز الثامنة والسبعين ودفن فى بغداد. ولاه الخليفة الرشيد قضاء الجانب الشرقى من بغداد. وكان الواقدى من شيوخ الحديث، ومن المعروف أن علم التاريخ عند المسلمين قد تأثر كثيرا بمنهج علماء الحديث. وغلبت على الأخبار التى جمعها فى كتابه (المغازى) وهو الكتاب الذى نحن بصدده الصفة التشريعية، لذلك فهذا الكتاب يقع فى موقع وسط بين كتب الحديث وكتب السيرة (تاريخ النبى ﷺ .
وهو كغيره من كتب السيرة لا يهتم كثيرا بالفترة السابقة على الاسلام، وكان الواقدى لا يكتفى بالسماع وانما عاين مواقع الغزوات بنفسه وقام
1 / 21
بشىء يشبه ما يفعله الاثاريون هذه الأيام، ومع هذا فقد كان ضعيف الذاكرة ولم يحفظ القران قط فيما يقول الخطيب البغدادى. وساءت علاقته فى بغداد بالحنابلة.
كتب التاريخ العام
وكما رجع (وات) لمصادر أصيلة من فئة كتب السير والمغازى، رجع أيضا لأهم كتب التاريخ العام، ونعنى به تاريخ الطبرى المعروف باسم (تاريخ الأمم والملوك) وقد ولد الطبرى فى سنة ٢٢٤ هـ وتوفى سنة ٣١٠ هـ.
ومرة أخرى نذكر بطريقة أخرى ما أوردناه انفا من أن قراءة كتب التراث فن، اذ لا بد أن يكون القارئ على وعى كامل بأنه ليس كل ما ورد بها صحيحا، لذلك لابد من نقد النص أو تقويم المرجع. وحالة الطبرى وضح دليل يؤكد قولنا هذا، فالرجل يقول فى مقدمة كتابه وكأنه يتبرأ من كثير مما ورد فيه انه لا دخل له، وانه كتب كل ما سمع سواء أكان صحيحا أم باطلا، مقبولا للعقل أم مرفوضا منه، فما هو الا مسجل لكل ما سمع، ونفضل هنا نقل عباراته كما هى:
«وليعلم الناظر فى كتابنا هذا أن اعتمادى فى كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أنى راسمه فيه، انما هو على ما رويت من الأخبار التى أنا ذاكرها فيه، والاثار التى أنا مسندها الى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول، واستنبط بفكر النفوس، الا اليسير القليل منه، اذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين، وما هو كائن من أنباء الحادثين، غير واصل الى من لم يشاهداهم ولم يدرك زمانهم، الا باخبار المخبرين، ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس. فما يكن فى كتابى هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها فى الصحة، ولا معنى
1 / 22