واستعمار مصر كان لا بد له أن يؤدي إلى اتساع النفوذ الفرنسي إلى ساحلي البحر الأحمر وإلى ما وراء سيناء من ناحية فلسطين والشام، وأن يؤدي أيضا إلى التقدم نحو منابع النيل، وجعل مصر المدخل والمخرج لتلك الأرجاء الأفريقية الواسعة وحل اللغز الجغرافي القديم: أين ينبع النيل؟ وقد سجل التاريخ تحقيق الكثير من هذا على يد محمد علي وخلفائه؛ مما يدل على أن الكثير من خطط الحكومات إنما هي مما يمليه الواقع الجغرافي ويكرره التاريخ في أدواره المتباينة.
ولو دام الاحتلال الفرنسي لسلك نحو المصريين مسلكا يكون من أثره تحسين كثير من أحوالهم، ثم يعمد بعد هذا التحسين إلى إبطال النمو، أو إلى إبطاله في بعض النواحي وتوجيهه في الاتجاه الذي يريد، ولم يكن بد من اهتمام الفرنسيين بهذا التحسين الأبتر بحكم الإنسانية المشتركة وبحكم منفعتهم: يقاوم الأوبئة بإنشاء المستشفيات وما تستلزمه من مدارس الطب والمحاجر الصحية؛ حفظا للقوى العاملة في الإنتاج الزراعي الذي يغذي الخزانة العامة ويمون التجارة، ومنعا لانتقال المرض إلى الفرنسيين، يصلح الأداة الحكومية وينوع الإدارات صيانة للأمن وضبطا للأموال العامة.
ويستلزم هذا إصلاح نظام الضرائب والجباية، ويتبعه إلغاء الالتزام واستقرار ملكية الزارع للأرض، يفتح الأبواب لرءوس الأموال الفرنسية ولنظم التجارة والمعاملات الغربية، ويؤدي هذا لتنظيم القضاء على أسس غربية ولدخول القوانين الغربية، ويعنى بإعداد طائفة من أبناء البلاد تسد حاجة الإدارة من صغار الموظفين.
ولو دام الاحتلال الفرنسي لاعتمد بعض الاعتماد في الدفاع عن البلاد على جيش وطني من أبنائها.
ولو دام الاحتلال الفرنسي لاحتاط أشد الحيطة في كل ما له علاقة بالدين من المسائل الاجتماعية وموضوعات البحث العلمي، فالحاكم الغربي يحب أن تكون قواعد الإنتاج المادي غربية صرفة؛ لأن هذه القواعد تزيد الإنتاج والزيادة مما يهمه، ولكنه يكره من المحكومية الشرقيين الانقلاب الاجتماعي والبحث العلمي الحر، وذلك لأسباب: منها حرصه على أن لا يظهر للعامة في مظهر الهادم للعادات المشجع على التحرر من قواعد الدين، ومنها ظنه أن تلك الانقلابات لا بد وأن تؤدي في النهاية إلى الرغبة في الاستقلال، ومنها الميل إلى المحافظة على المظاهر الشرقية من قبيل الاحتفاظ باللطائف والتحف.
أما عن نظام الحكم فالمنتظر من الاحتلال الفرنسي - لو أن أيامه دامت - أن يبقي حكم القرى على ما عرفته مصر في عصورها المختلفة في أيدي العمد والمشايخ، وأن يعهد لفرنسيين في إدارة الأقاليم، وأن تسود المركزية الشديدة، وأن يبقي الفرنسيون الدواوين التي أنشأها فعلا بونابرت، ولم يرم بها إلى خلق النظام البرلماني - كما توهم البعض - فبونابرت لم يكن ممن يعجبون به أو يرتضيه لفرنسا، دع عنك مصر، بل رمى بها إلى إنشاء وسائل تمكنه من الاتصال بأعيان المصريين وتفهم ما يجري في أنفسهم وتفهيمهم حقيقة مشروعاته ونواياه حتى لا يبقى مجال لدس الدسائس وسوء الفهم.
هذا بعض ما نتصوره عن تطور الحكم الفرنسي في مصر لو استقام للفرنسيين أمرها، وليس هذا التصور مما لا يقوم على أساس من الواقع؛ فأكثره مستمد مما كتبه بونابرت وغيره عن نواياهم، ومما شرعوا في تحقيقه فعلا، ومما رأيناه من طرق الحكم الفرنسي في غير مصر من الأقطار الإسلامية، وليس هذا التصور مما يخلو من الفائدة التاريخية، فمن النافع حقا أن نضع في كفتي الموازنة معالجة الحاكم الفرنسي لمسائل مصر الداخلية والخارجية، ومعالجة الحاكم العثماني المسلم محمد علي لنفس المسائل.
ولكن الزمن لم يتسع للفرنسيين لتحقيق ما كانوا يأملون، ووجد القواد الثلاثة الذين تعاقبوا على حكم مصر - بونابرت وكليبر ومينو - أنفسهم مضطرين لتوجيه كل جهدهم للتغلب على الأخطار الداخلية والخارجية المحدقة بجيشهم وحكمهم، ولم يكن ما قام به أولهم بونابرت وثالثهم مينو من التجارب الإدراية الأداة الحقيقية لحكم البلاد، ولم تتغير - في أيامهم كلها - طرق الجباية ولا الضرائب ولا العمال، بل ظلت كما كانت قبل قدومهم.
ولذلك لم تكن الأعوام الثلاثة التي قضاها الفرنسيون في حكم مصر عهدا سعيدا لسكانها، حقيقة أن المصريين اعتادوا - قبل قدومهم - الانقلابات والاضطراب: اعتادها أهل الريف في بعض المناطق وأهل الحواضر، وعرفها - بصفة خاصة - أهل القاهرة، وكانت الانقلابات التي عرفوها مما يصحبه الشيء الكثير من اختلال الأمن وضروب العنف والتعسف وإعادة الطلب عليهم فيما أدوه من الضرائب والمغارم.
إلا أن هذه الانقلابات كلها كانت على نمط واحد، لا يأتي واحد منها بجديد ولا يصطدم بمألوف لديهم: فمثلا يتغلب علي بك الكبير على خصومه ويحكم البلاد كما حكمها خصومه، ثم يتغلب عليه أبو الذهب ويحكم كما حكم علي، وهكذا دواليك، ولم يكن للمصريين من نصيب في هذه الانقلابات إلا عمال الإدارة المالية من الأقباط ورؤساء العصابات العربية والشيوخ من العلماء. فالفريق الأول - بحكم اضطرار الأمراء جميعا لاستخدامه - يعمل للمنتصرين كما عمل للمنهزمين، ورؤساء العربان بسبب قوتهم الحربية قد يرجحون كفة طائفة من الأمراء على كفة خصومها، والشيوخ العلماء - بحكم تصدرهم ونفوذهم في الناس وتحلي بعضهم بصفات الفضل والاعتدال - يلجأ إليهم الناس للوساطة في رفع الحيف إذا ضاقوا به ذرعا، وقد يحتكم إليهم المتخاصمون من الأمراء، وكان تدخل الشيوخ عادة لرفع الضيم وإحلال الوئام محل الخصام أو للتخفيف من عنف الانقلابات.
نامعلوم صفحہ