والجيش بقي، إلى أن صدر دكريتو من مادة واحدة في سنة 1882 والمادة هي: إلغاء الجيش المصري. •••
رأي أصحاب الاشتراكي سان سيمون في محمد علي مصطنع الحديد والمال والعلم، محقق الحلم الذي حلموه، فاتحة العصر الذهبي الذي رجوه، أشادوا بالرجل الذي جمع في يد واحدة السيف والآلة، واتخذ منهما معا أداة واحدة، الذي خلق من آلات القتال وآلات الإنتاج نظاما واحدا منسجما، قال رئيسهم انفانتان: «في أوروبا القوة السياسية تكافح القوة الصناعية، أما في مصر فلا كفاح، ففيها منع امتزاج القوتين عن المجتمع الفتن والاضطراب، يسيطر ولي أمرها على الزراعة والصناعة والتجارة والعلوم والفنون والجيش والبحرية، وبهذا يستطيع أن يكبح جماح عناصر الجمود أو الرجعية وأن يطلق العنان للقوى المنتجة»، هذا رأي، وهذا الفيلسوف بنتام يبدي إعجابه بالحاكم المسلم الذي حرر نفسه من خزعبلات الماضي وأوهامه، ويشير عليه «بتطعيم» نظمه بشيء من «البنتامية»: في نظم الحكم وفي طرق تدريب ولي العهد، بذلك يكتسب لمنشآته قوة على مغالبة الأيام.
وليس محمد علي بالرجل الذي لا يعرف للفلسفة حقها أو للفلاسفة قدرهم، على قلة ممارسته لبضاعتهم، والواقع أنه أقام على المعنويات أكثر مما أقام على الحسيات (شأن الرجال العمليين)، وأن دوافعه وحوافزه كانت كلها أخلاقية: الكرامة، الجد، الرفعة، العمران، إيقاظ الهمم، إلا أن تعبيره هو عن عمله أصدق وأبسط من تعبير أنفانتان، قال في حديث مع بوالكمت:
لقد وضعت يدي على كل شيء، ولكن لكي أجعل كل شيء مثمرا.
والمسألة مسألة إنتاج، وإذا لم أقم به أنا ، فمن يقوم به غيري ؟ أين الذي كان يقدم الأموال اللازمة ويشير بالخطط التي تتبع والمزروعات التي تزرع؟ أين الذي كان يستطيع أن يأخذ الناس (ولو على الرغم عنهم) بطلب العلوم والمعارف التي ترتب عليها تفوق أوروبا؟ أتعتقد أن أحدا في هذه المملكة خطر له أن يجلب القطن والحرير والتوت؟ لا أحد، كان لا بد لي أن أقود هذه البلاد قيادة الأطفال، وإن تركها لنفسها يسلمها للفوضى التي أخرجتها منها.
وقد نوه المنوهون بتمكن محمد علي من القيام بكل ما قام به بدون أن يستدين، وقد كان معاصروه يتوقعون له الإفلاس المالي سنة بعد أخرى، وفي كل سنة لا يحدث ما توقعوه، تلك حقيقة تستحق التنويه، وقد نسبوها إلى أنه «كان لا يخرج القرش قبل أن يعرف أين سيضعه»، وهذا صحيح، ولكن الأمر أعمق من شئون التدبير المنزلي، لم يستدن محمد علي ولم يفلس؛ لأنه حرم نفسه ورعيته من أكثر أرباحه وأرباحهم، من الكد في الزراعة والصناعة والتجارة، فكان شأنه شأن المشتغل بعمل صناعي يضيف ربح كل سنة لرأس المال أو ينفقه في إضافات وتحسينات ولا يمسك منه إلا قدرا يسيرا، هذا هو السر، نذكره لنذكر معه محمد علي وجيل محمد علي من الفلاحين المصريين بالشكر وعرفان الجميل؛ فقد شقوا لنسعد، وكدوا لنهنأ.
الفصل السابع
وحمل أيضا ذلك الجيل من الفلاحين المصريين أعباء تنفيذ المشروع الخطير: مشروع إحياء العالم العثماني، رسمه محمد علي منذ الأيام الأولى وسار في تنفيذه بخطى ثابتة متئدة، رسمه حاضر في ذهنه وإن خفى على معاصريه ومؤرخيه، وسعيه إلى تحقيقه متواصل وإن بدا أحيانا في لغة الكلام أو لغة الفعل منحرفا عنه إلى هدف آخر، ولم يكن ذلك الانحراف الظاهري إلا أسلوب السياسي الحاذق يعدل المظهر ليكسب الجوهر، أو القائد الماهر يولي وجهه وجهة أخرى في حركة التفاف توصله إلى غرضه الأصلي.
والسر في خفاء المشروع على معاصري محمد علي الأوروبيين ومؤرخيه المحدثين يرجع إلى أن القاعدة التي اتخذها محمد علي أساسا لعمله - وهي مصر - عظيمة في حد ذاتها، يصح جدا أن تكون ملكا قائما بنفسه ولنفسه، من حقه أن يملك ولكن لنفسه وبمقتضى حاجاته، وهي جزء - إذ ذاك - من كل، ولكنه جزء يستطيع ويحق له أن يكون الكل، هذا الوضع للمسألة كلها هو الوضع الأوروبي المعاصر لمحمد علي، أخذه المؤرخون المحدثون - وإن أدهشهم هذا.
وكل الفرق في الصياغة وفي إضافة حقوق الفتح والتغلب «للكل» المصري، وهي مسألة نسبية: تريد أوروبا المعاصرة أن يكون الفتح والتغلب «للكل» المصري في المجاهل الأفريقية، أو - عندما تسخو - في بعض «الباشويات» العثمانية الشرقية والغربية حينا ما، وتفضل - على كل حال - أن ينصرف «الباشا» لإسعاد رعيته البائسة، ويريد مؤرخوه أن يكون «للكل» المصري كل ما يستطيع أن يمد إليه يده، ويتفقون جميعا في أن مصر عالم قائم بنفسه.
نامعلوم صفحہ