فوجد الفرسان عند ذلك فرصة أمكنتهم منه، فأحاطوا به واستطاعوا أن يحملوه إلى عوف بن مالك وهو بين الحياة والموت.
وقضى المهلهل في أسر عوف أشهرا يرسف في قيوده ولا يجد سلوة إلا في التغني برثاء أخيه، أو تذكر وقعاته في بني بكر.
ولم يكن أحد يجرؤ أن يدنو من خيمته إلا امرأة الشيخ عوف بن مالك وهي من بنات خئولته اسمها «جيبة ابنة المجلل». وكانت امرأة شابة جميلة حلوة العينين عذبة الحديث، عطفت على المهلهل أشد العطف في محنته، بعد أن كانت تكبر بطولته في حروبه، فكانت تحمل إليه كل يوم طعامه وشرابه، وتحادثه وتروح عنه. وكان المهلهل يأنس إليها حينا ويعرض عنها حينا، ويقبل منها طعاما يوما ويرفضه أياما، وهي مع كل ذلك دائبة على العناية به والترفق في أمره.
وجاءه يوما رجل من أتباع عوف فدخل عليه خباءه وهو باسم كأنه قد جاءه ببشرى، وقرب منه وجعل يحل وثاقه، وهو مطمئن إلى شكره وعرفانه. ولكنه ما كاد ينتهي من إطلاق يمينه من قيدها حتى بادره الأسير العنيف بضربة على أم رأسه كاد الرجل يخر منها صريعا، فارتد مسرعا وهو يترنح، حتى إذا ما صار على باب الخيمة صاح به حنقا: «ما الذي حملك على هذا؟ وأي جزاء تجازيني على فك قيدك؟»
فرد المهلهل بصره عنه متكبرا ولم يجب.
فذهب الرجل عنه مسرعا في غيظ شديد، وبقي المهلهل صامتا ينظر إلى أثر حز الحبال المتينة في معصميه. وفيما هو يتغنى حزينا يخاطب ذلك الأثر أقبلت عليه جيبة ابنة المجلل، وهي تنظر نحوه نظرات موزعة بين الإنكار والترفق.
فلما صارت قريبة منه قالت في رفق: «لم ضربت الرجل وقد أتى يفك وثاقك؟»
فنظر إليها المهلهل وألان من نظرته وقال: «وما الذي حمله على فك ذلك الوثاق ولم يستأذني قبل فكه؟ لئن كنت أسيرا فإنني لا أزال أملك قيدي.»
ثم جعل ينظر إلى معصميه ويحدث نفسه وينشد من شعره في بكاء كليب ...
فقالت جيبة في نغمة اعتذار: «لقد بعثه إليك ابن عمك عوف بن مالك وأمره أن يفك قيدك، وما كان يحسب أن ذلك يسوءك، وما يقصد من ذلك إلا التودد إليك، لعلك تأنس إليه. وقد جاءه اليوم قوم من بني عمك فأحبوا أن يأتنسوا بك.»
نامعلوم صفحہ