فنظرت إليه جليلة في شيء من الفزع. إن الأنباء تبلغه وهي تعلم صدق ما يقول، ولكنها لم تيئس وأرادت أن تستعين بما تعلم أنه في قلبه من حبها، فقالت كأنها معاتبة: ألا يرضيك منه عمك وأبناء عمك؟ إنك تعرف ما يحملون لك جميعا من المودة، فهلا أكرمتهم بالتغاضي عن جهل ابن عمك الصغير؟
فانتفض وائل حتى نزع غدائره من بين أناملها وقال في عنف: أتغاضى عن جهله! ومن لي بتحمل ما يتبع ذلك من جهل من يشاركونه؟ هل كنت لأسيغ أن يجعلني هؤلاء ملهاة لهم إذا مالت الخمر برءوسهم، وأن يتخذوا اسمي في أسمارهم العابثة هدفا لسخريتهم وعبثهم؟ لا وحق مناة! ما ذلك من شأن وائل.
ثم قام خارجا، ولم تجد كلمات جليلة إلى قلبه سبيلا، فقامت وراءه وهي دامعة العين وسألته بصوت متهدج: إلى أين يا ابن العم؟ إنك لم تطعم شيئا منذ الصباح.
فلم يجبها، بل سار وهو يرفع رداءه في اضطراب، ويلقي الشملة على كتفه في غضب، ووقفت جليلة حينا تنظر في أعقابه والحزن يعصر قلبها عصرا، حتى بعد واختفى عن عينها، ثم أسرعت وألقت عليها إزارها وخرجت مسرعة نحو منازل أبيها.
ولما صار كليب في الفناء الواسع بين خيامه دعا عبده الغصين، فجاء نحوه مسرعا، فصاح به في غضب: الرباب!
فأسرع العبد إلى جانب من الوادي، وسار كليب في خطوات واسعة لا يلوي على شيء وكلبه يتبعه ويشم آثاره. فلما بلغ آخر ثنية الوادي وقف ينتظر العبد حتى أقبل يجري وفي يمينه لجام فرس تخطر رشيقة في خيلاء، فوثب كليب على ظهرها وهمز جانبيها، فوثبت به لا تكاد تلمس سطح الرمال. وكانت كميتا غراء محجلة لا يرى الرائي منها إذا انطلقت إلا ساقين مثل ساقي النعامة تمدهما من أمام وأيطلين كأنهما لظبي تسبح بهما من خلف، وكأنها بينهما طائر يخترق الهواء.
وكان كليب مع ذلك يهمز فرسه في عنف على غير عادته ويصيح بها كأنه قد خرج يطارد عدوا؛ فإن الشجون التي تجيش في صدره كانت تلتمس منفذا في تلك الحركة العنيفة وتلك الصيحة الحانقة. ولما خرج من الوادي عرج متياسرا إلى براح من أرض صلبة قد غطى المدر سطحها، فكانت الفرس في عدوها تثير حولها نثارا من الحصى المتطاير، وكأنها أحست ما في قلب راكبها من الثورة، فأجابتها بوثبات لا تبالي فيها أين تقع حوافرها. وما كانت إلا هنيهات حتى بلغ وائل هضبة عالية فهدأ من سرعته وترك فرسه تعلو جانبها على رسلها، ولكنها وثبت على السفح الصخري كما يثب الوعل الأعصم، حتى علت ظهر الهضبة الفسيح، وكان العشب الأخضر يغطي سطحها المتموج، ولا تزال قطرات الماء من أثر الأمطار تلمع تحت ضوء الشمس في ثنايا الأعواد، وفي ثغور أزهار الأقاحي والعرار، فملأ كليب صدره من الهواء وأرخى الحبل للفرس ومسح عرفها بكفه، فاطمأنت في سيرها ومضت بين التلاع والوهاد تعلو وتهبط في هوادة كأنها تتحرك بما تحسه من إرادة سيدها، وقلب كليب نظره في أرجاء الأفق الواضح، وكانت السماء الزرقاء صافية بعد أن تحلبت أمطارها كأنها قد غسلت من أدرانها. فدب السلام رويدا إلى قلبه، وانفرجت عقدة جبينه ولاحت على وجهه بسمة الارتياح. ولما عادت إليه صورة ما حدث في الصباح لم تعد إليه غضبته، كأن المنظر الوديع هدهدها وقطع فحمتها. وعادت إليه صورة جساس بن مرة أخي زوجه الحبيبة فساءل نفسه: أما آن لجساس أن يدع تلك الوساوس التي توغر صدره؟ ولكنه لم يكن يحس عند ذلك تلك الكراهة التي ملأته غيظا منذ ساعة على ذلك الشاب الفارس الجريء، بل لقد كان في قرارة قلبه يتمثل بسالته فيعجب به ويتمنى مودته. إن مثل جساس من يحمي الظهر عند اللقاء، ويشفي النفس من دماء الأعداء، وإن مثله من يركن إليهم الملوك في رد غيبتهم والذب عن حياضهم. وهو أخو جليلة العزيزة، وما كان أجدره أن يكون إليه حبيبا ومنه قريبا، فإذا كان قلب جساس قد امتلأ غيرة منه وحقدا عليه، حتى أطلق فيه لسانه، فإن غيظه قد يسل وغيرته قد تهدأ. إنه لا يحاول إذا لقيه أن يخفي عليه ثورته. ولكن ذلك أخف كيدا وأسلم عاقبة من أولئك الذين يلقونه بالبسمات، فإذا تولوا عنه سلقوه بألسنة حداد. لقد تمنى كليب عند ذلك لو عاد جساس إليه صديقا يؤنسه بمودته ويسند ملكه بشجاعته.
وما زالت هذه الخواطر به حتى أزاحت عن كاهله ثقله فتنفس نفسا عميقا، وشعر بالأشجان التي تضطرم فيه تتصاعد معها، ودب إليه دبيب من السلام، وسار على رسله يقلب طرفه في الأفق الصافي وفي جوانب الربى الخضراء.
وفيما هو في ذلك لمعت أمام عينه لمعة على مرمى سهمين فرأى بياضا يبرق ثم ينساب، فإذا هو بطون الظباء وهي تثب في خفة من خميلة فوق طريقه لتقصد إلى أخرى آمنة إلى جانب من الهضبة. فصرخ صرخة وهمز فرسه وحرك اللجام إلى قصدها فانطلقت الفرس تعدو نحوها ووثب عساف يهدر من حلقه حتى سبقها. وما كادت الظباء تحس المطاردة حتى خرجت تهيم على الهضبة الفسيحة تعلو وتهبط بين ناشز من سطحها ومتطامن، والخوف يقذف بها قذفا، وقد مدت رءوسها حتى بلغت قرونها الطويلة جانبي ظهرها. وعدا الكلب والفرس في آثارها، وطالت المطاردة في تيامن وتياسر حتى بدا شيء من التردد على الظباء، فتفرقت تحاول أن تجد لها عاصما. ولكن الهضبة الفسيحة لم يكن بها صخر تتوقل في جانبه، فانطلقت تعدو في فزع حتى أدرك الكلب عساف زوجا منها كان أثقل الربرب وثبا، فجعل يهر في وجهيهما ويتواثب من حولهما وهما يحاورانه ويحاولان الخلاص منه حتى صار كليب على مرمى السهم من الظبيين، فجذب قوسه وسدد الرمية إلى أقربهما إليه، وهو يحاذر أن يصيب كلبه الباسل برميته، فإذا الكبش يخر وقد أصاب السهم مفصل كتفه، ثم سدد رمية أخرى فإذا النعجة تخر على خطوات منه وقد وقع النصل ما بين عينيها، وهمز كليب فرسه همزة فوثبت به حتى كانت عند الرميتين، وهما تفحصان الأرض بأظلافهما الدقاق. ونزل عن فرسه في خفة وجرد سيفه فذفف على الظبيين ومال عليهما يتأمل أعضاءهما في إعجاب.
ثم رفعهما إلى ظهر الفرس فربطهما في سرجه عن يمين وشمال، ثم مسح رأس كلبه وصاح به: عشاء طيب يا عساف!
نامعلوم صفحہ