ولم يشعر القوم وهم في هذه الثورة بقدوم جماعة أقبلت عند ذلك، ووقفت عند طرف الجمع لتسمع آخر مقالة المهلهل، وتشهد الغضبة الشاملة التي عمت نادي تغلب في تلك الليلة.
ولما خمدت حدة الثورة تقدم الوافدون نحو المهلهل ومدوا إليه أيديهم بالتحية، وقال كل منهم له كلمة تعزية، ثم ذهبوا نحو أبي نويرة فرحب بهم وفسح لهم المجالس في صدر المكان، وعاد الهدوء بعد قليل إلا همسات بين الجالسين يعرف بعضهم بعضا بهؤلاء الوافدين.
وبعد قليل وقف أبو نويرة فأشار بيده إلى الجمع أنه يريد الكلام، ثم قال كلمة رحب فيها بالمقبلين، وشكر لهم سعيهم بالعزاء، وصمت لحظة، ثم أشار إلى كهل من الضيوف قائلا: «بطل بني بكر الحارث بن عباد.»
فتطلعت الأنظار إلى الرجل الذي أشار إليه أبو نويرة، وكان رجلا طويلا قد وخط الشيب لحيته، ولكن قامته المعتدلة وبغاء جسمه المتين، واتزان حركاته وهدوءها كانت تنم عن أنه زعيم اعتاد أن يقود وأن يغامر، وأن يأمر وأن يطاع. وبعد لحظة من السكون قال أبو نويرة يخاطب ابن عباد: «إذ شئت يا أبا ضبعة.»
فوقف الحارث متكئا على رمحه، وتكلم وفي صوته رنة من الحزن فقال: «يا أبناء العم من تغلب! لقد علمتم ما كان مما لا حيلة فيه. وكان فقد كليب مصابا جليلا ، عمنا معاشر بني بكر كما عمكم، وأصاب أفئدتنا كما أصاب أفئدتكم، وكنا نرجو أن ينصف إخواننا بنو شيبان من أنفسهم، فيحقنوا الدماء ويخمدوا نيران حرب لا يصيب فيها الرجل إلا أخاه، ولا تقطع فيها يمين المرء إلا يسراه. ولكن بني شيبان لم ينصفوا ولم يعدلوا، ولجوا في العناد وأصروا على البغي، فلا حاجة بنا إلى نصرتهم، ولا رغبة فينا إلى مؤازرتهم، فنحن بعد اليوم بمعزل، وإن كنا لا نملك أن نحاربهم معكم، فلسنا بناصريهم عليكم؛ ولهذا عزمت على أن أكسر سهامي وأنزع الوتر عن قوسي، وأسير بأهلي ومن أطاعني لأبعد عن هذه الفتنة. ولعل إخواننا يجدون بعد الغي هدى.»
ثم قعد إلى جوار أبي نويرة يبن همهمة خافتة تنم عن ارتياح وشكران.
وتعاقب بعد ذلك الخطباء من الوافدين، بعضهم من قبائل بكر الأخرى: بني عجل وحنيفة ويشكر، تعلن الانفضاض عن إخوانهم بني شيبان أو الانتصار لتغلب ومؤازرتها، وبعضهم من فروع النمر بن قاسط، جد بكر وتغلب الأعلى، وقد جاءوا لنصرة بني أبيهم التغلبيين على بني أبيهم البكريين الذين تمادوا في البغي والظلم.
وهكذا صارت قبائل ربيعة كلها يدا واحدة تطالب بدم بطلها، وأصبحت شيبان في عزلة تستعد للمقاومة وحدها، والدفاع عن جريمة ولدها الثائر الباغي جساس بن مرة.
ولما هم المجتمعون بالانصراف بعد ذلك وقف عدي بن ربيعة «المهلهل» في سكون، وأشار بيده إليهم قائلا: على رسلكم يا بني أبي!
فوقف القوم ينظرون إليه، وكانوا عند ذلك أكثر إقبالا وأسلس أسماعا. فقال: «لقد علمتم ما كنت عليه من ضلال وغي، وانصراف إلى اللهو والمجون. لا أنكر ذلك، ولا حاجة بي إلى نكرانه، ولست أدافع عن نفسي ولا أبرئها؛ فقد كنت سادرا في ظل كليب، كفاني بشجاعته مئونة الجد، وصرفني جاهه إلى اللهو في غير قصد، ولكن قتله سلبني حمايته وأفقدني جاهه. وعلي أن أقطع سائر أيامي في قضاء دينه والوفاء له. وقد آليت منذ اليوم على نفسي، وعقدت بينكم موثقا، أن الخمر علي حرام لا أذوقها، وأن النساء علي حمى لا أقربه، وأن الطيب لا يمس جلدي، وأن الماء لن يبل جسدي حتى أثأر لكليب ثأرا تطيب له نفوسكم ...» ثم تردد قليلا وقال بعد صمت قصير: «وتطيب له نفسي.»
نامعلوم صفحہ