محاکمت گلگامش
هو الذي طغى: محاكمة جلجاميش: في عشر لوحات درامية
اصناف
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
من أصعب الأمور على الكاتب أن يحدث قارئه - الذي ينتمي مثله إلى حضارة هذه المنطقة من العالم - عن درة ساطعة في تاج هذه الحضارة. ودرة الدرر التي أعنيها هي ملحمة جلجاميش، والحضارة التي أقصدها هي حضارة وادي الرافدين القديمة. ومع أن الفجوة الزمنية التي تفصلنا عنها منذ اكتمال نسختها الأخيرة في العصر الآشوري الحديث (على عهد آخر الملوك الآشوريين العظام، وهو آشور بانيبال من 668ق.م. إلى 627ق.م.) تزيد عن ألفين وخمسمائة عام، ولا تقل منذ بداية تدوين أجزاء منها في العصر البابلي القديم (من 1894-1595ق.م.) عما يقرب من أربعة آلاف سنة، بالإضافة إلى ما تراكم على الوعي بعد غروب شمس هذه الحضارة بانهيار الدولة الآشورية (609ق.م.)، وانتهاء السلالة الكلدانية (539ق.م.)، من طبقات بعد طبقات كونتها شعوب ونظم ودول أخرى مختلفة تعاقب حكمها على أرض النهرين حتى الفتح الإسلامي (من الفرس الأخيمينيين (538-331ق.م.)، إلى المقدونيين والسلوقيين (330-125ق.م.)، إلى الأرزاسيين أو الفرثيين (من حوالي 250ق.م. إلى حوالي 228ب.م.) إلى الساسانيين (من 224ب.م. إلى 651ب.م.))؛ فإن ذلك كله لم يمنعها من التأثير على ثقافات الشرق الأدنى القديم والانتشار وراء حدوده، ولم يمنع كذلك - بعد اكتشاف نصها السابق الذكر في منتصف القرن الماضي - من أن تصبح جزءا لا يتجزأ من الأدب العالمي، وعنصرا من أهم العناصر المكونة للوعي المثقف، ومادة للبحث والدراسة والترجمة إلى كل اللغات، ومنبعا لا ينضب لإلهام المبدعين في الأدب والفن.
1
والعمل الأدبي الذي بين يديك محاولة ل «قراءة» هذه الملحمة الجليلة الجميلة قراءة جديدة. ولا بد قبل الكلام عنه من نبذة مختصرة بقدر الإمكان عن النص الأصلي العريق من جوانب مختلفة: قصة تدوينه ونسخه، وشذرات ألواحه المشتتة في متاحف العالم، وقصة اكتشافه وترجمته إلى اللغات القديمة والحديثة، وأصوله السومرية التي يحتمل أن يكون الكاتب أو الكتاب البابليون قد اعتمدوا عليها - بجانب التراث الشفاهي القديم - في نسج ملحمتهم الخالدة، ثم مكانة جلجاميش من الأدب العالمي وأهميتها - كتراث إنساني - للوعي العربي الحاضر. •••
لم يكن القصيد الشعري الكبير الذي اشتهر باسم «ملحمة جلجاميش» هو التشكيل الوحيد للأساطير وقصص المغامرات والحكايات الشعبية التي دارت حول شخصية جلجاميش، وتناقلتها الأفواه قبل تدوينها بمئات السنين؛ ذلك أن جذور هذه الملحمة البابلية الأصيلة ممتدة في عروق الثقافة السومرية،
2
ولها تاريخ سابق يقوم على عدد من القصص السومرية التي تمكن العلماء من جمع شذراتها وحل معظم ألغازها خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، وسوف نعرض لهذه القصص بعد الحديث عن حياة جلجاميش، الذي يتفق العلماء اليوم على أنه قد عاش في الحقيقة والواقع، على الرغم من تأليه الكهنوت السومري له في زمن مبكر - شأنه في ذلك شأن ملوك سومر المبكرين الذين جمعوا بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية - ومن رفعه إلى مصاف الآلهة بعد موته وتنصيبه قاضيا لأرواح الموتى في العالم السفلي.
كان جلجاميش ملكا ل «دولة مدينة» هي أوروك في جنوب بابل.
3
نامعلوم صفحہ