بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
بين يدي الكتاب
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد رسول الله وعلى آله وصحابته ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، وبعد:
فقد حصلت علي نسختين من كتاب المحاضرات والمحاورات للسيوطي قبل اثنتي عشرة سنة، وقد استهواني ما وجدت فيه من مادة أدبية ومن رسائل ومقامات ومختارات شعرية مشرقية وأندلسية ونقول من كتب نفيسة منها المخطوط ومنها المفقود، واخترت الكتاب ليكون مادة تدريس مقرر (علم المخطوطات ومنهج التحقيق) في جامعة قار يونس ببنغازي، ثم باشرت بتحقيقه وإخراجه لجمهرة الأدباء والقارئين من المعنيين بالتراث، سنة ١٩٩٢ م وقطعت شوطا كبيرا جاوز نصف الكتاب، ثم طوحت بي المقادير من بلد إلى آخر ومن دار إلى دار، أذرع الأرض سعيا للأمن والأمان والرغيف الكريم الحلال، وأرسلت ما أنجز من الكتاب مع جملة من مصادره ضمن مجموعة من الطرود فيها ما استطعت أن أرسله من مكتبتي عن طريق الشحن البحري- يوم كان الحصار الجوي مفروضا على ليبيا:- ووصل قسم قليل من الطرود، وضلت الطريق بقية الطرود، أو لنقل غيّبت، وكان الكتاب ومخطوطاته من جملة ما غاب أو غيّب، ولما استقر بي المقام في البلد الجديد، عاودني الحنين إلى الكتاب، ونفضت عن نفسي هموم الاحباط واليأس، وعاودت البحث عن مخطوطات الكتاب وتوافرت لدي ثلاث نسخ، ثم كلما قاربت من انجاز تحقيق الكتاب، ظهرت أمامي نسخ جديدة، فأعيد دراستها ومقابلتها، حتى أمكن الحصول علي ست نسخ تم بموجبها تحقيق الكتاب بعون من الله وتوفيقه، ولا شك أن هناك نسخا في بطون المكتبات لم أستطع الوصول إليها.
كتاب المحاضرات والمحاورات لم ينشر من قبل، وهو موسوعة أدبية، فيه نقول كثرة عن كتب تراثية نفيسة، منها المفقود، ومنها الذي ما زال مخطوطا، وقد حفظ كثيرا من الأخبار الأدبية والدينية والتاريخية والحضارية، وحوى شعرا لشعراء لم تصل دواوينهم، وأشعارا لشعراء خلت منها دواوينهم المطبوعة، وقد بلغ عدد الأبيات المذكورة في الكتاب حوالي الفين ومائتي بيت.
1 / 5
لقد استقى السيوطي مادة كتابه من مجموعة كبيرة من مصادر التراث، واختار فنونا من ثمار الفكر، فيجد فيه الدارس المجاميع الأدبية، والرسائل، والمقامات، والأخبار، والأحاديث النبوية، وتراجم الرجال، وآداب العلم والتعلم، وكتب التهذيب، وتعلم الأخلاق، وما إلى ذلك من نفائس المعرفة، وقد نخل السيوطي عشرات الكتب ونقل منها واختار ما يصلح منها في المحاضرات، وحفظ ما ضاع من كتب التراث، والكتاب بجملته مكتبة رائعة نفيسة يتطلع إليها العالم والمتعلم، وقد بذلت في درسه وتحقيقه واستقصاء ما استطعت الوصول إليه من مصادره سنوات طويلة عزيزة من سني العمر الفاني، ويسرني في هذا المقام أن أزجي أطيب التحيات وخالص الشكر والتقدير لكل من أعانني للحصول على مخطوطات الكتاب، وأخص منهم الأستاذ الدكتور طاهر عمران الطير الأستاد في جامعة قاريونس الذي زودني بنسختين؛ نسخة الأصل، ونسخة مكتبة الأوقاف العراقية، وأشكر أخي الأستاذ الدكتور سمير الدروبي الأستاذ في جامعة مؤتة على تزويدي بنسخة الرباط ونسخة المكتبة الظاهرية، وشكري الجزيل لأخي الأستاذ الدكتور عبد العزيز بن ناصر المانع الأستاذ بجامعة الملك سعود الذي أتاح لي الحصول على نسختي المكتبة الوطنية بباريس، وشكري وامتناني لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، والقائمين عليه، الذين أهدوني هدية كريمة هما نسختا باريس المحفوظة صورتهما في المركز، وأخص بالشكر والتحية الأستاذ الفاضل يحيى محمود بن جنيد الأمين العام لمركز الملك فيصل.
وبعد، فالحمد لله على توفيقه وعونه، وما التوفيق إلا من عند الله ﷾، وكم منيت النفس أن تبلغ أعمالي غايتها من الصحة والكمال، وهيهات، فان الوسائل لمثلي قاصرة، مهما بذلت من جهد واجتهاد، ولذلك لا أزكي عملي من النقص والوهم والنسيان، رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا
والحمد لله أولا وآخرا.
١٧ ربيع الثاني ١٤٢٣ هـ ٢٨ حزيران ٢٠٠٢ م يحيى بن وهيب الجبوري
1 / 6
جلال الدين السيوطي
حياته
السيوطي عالم جليل، متعدد المواهب، كثير التأليف، بعيد الصيت، طرق مختلف الموضوعات والعلوم، فأجاد فيها وبرز، وكان أحد كبار الموسوعيين في عصره، ونحاول أن نتعرف على السيوطي الإنسان، والسيوطي العالم المؤلف، في شيء من الإيجاز، ذلك لأن الدراسات التي تحدثت عن السيوطي وكتبه كثيرة، لدى القدامى والمحدثين.
اسمه عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق، جلال الدين الخضيري السيوطي، ولد سنة ٨٤٩ هـ/ ١٤٤٥ م، وتوفي سنة ٩١١ هـ/ ١٥٠٥ م، وقد ترجم السيوطي لنفسه مرتين؛ الأولى في كتابه (التحدث بنعمة الله) سنة ٨٩٦ هـ[١]، وهي ترجمة واسعة، تحدث فيها عن والده ومكانته وعلمه، وعن نفسه، ورحلاته، ومسموعاته، ومؤلفاته، وعلمه، وتبحره في العلوم، وبلوغه رتبة الاجتهاد فيها، وخلافاته مع بعض معاصريه، ولهذه الترجمة قيمة كبيرة في التعريف بحياته، والجوانب التي لا يدركها من ترجم له من معاصريه.
والترجمة الثانية، في كتابه (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة)، كتبها سنة ٩٠٣ هـ، أي قبل وفاته بقليل، وهي ترجمة ليست وافية كالأولى، ولكنها عبرت عن حياته العلمية وثقافته خير تعبير، فقد تحدث فيها عن حياته وأصله ونسبه وعلمه، وحفظه القرآن في صغره، وقراءته على الشيوخ، والكتب التي قرأها، وبدء تأليفه، ومقدار ما ألف في ذلك الوقت، ثم ذكر رحلاته وحجه لبيت الله، والعلوم التي برع فيها، والعلوم التي نهل منها ولم يبلغ فيها شأوا بعيدا، وكذلك العلوم التي عزف عنها كالفلسفة والرياضيات، وذكر مسردا بمؤلفاته موزعة حسب الفروع.
وخير من يرسم معالم حياته هو السيوطي نفسه، وقد أعجبتني هذه الترجمة الصريحة المباشرة، ولذلك أدون طرفا منها، وإليك حديثه عن نفسه في كتاب (حسن المحاضرة)، وفي بدء كلامه يمهد لذلك بتبرير لهذه الترجمة، وبأنه ليس مبتدعا في هذا الأمر، بل هو يقتدي بمن قبله من العلماء الذين ترجموا لأنفسهم، وأشهر هؤلاء: الإمام عبد الغافر الفارسي في تاريخ نيسابور، وياقوت الحموي في معجم الأدباء، ولسان الدين ابن الخطيب في تاريخ غرناطة، والحافظ تقي الدين الفارسي في تاريخ مكة، والحافظ أبو الفضل ابن حجر في قضاة مصر، وأبو شامة في الروضتين، ويقول:
_________
[١] كتب اليزابث ماري سارتين رسالتها عن هذه الترجمة، ونالت بها درجة الدكتوراه من جامعة كمبردج.
1 / 7
«أما جدي الأعلى همام الدين، فكان من أهل الحقيقة، ومن مشايخ الطرق، ومن دونه كانوا من أهل الوجاهة والرياسة، منهم من ولي الحكم ببلده، ومنهم من ولي الحسبة بها، ومنهم من كات تاجرا في صحبة الأمير شيخون، وبنى مدرسة بأسيوط ووقف عليها أوقافا، ومنهم من كان متمولا، ولا أعرف منهم من خدم العلم حق الخدمة إلا والدي، وسيأتي ذكره في قسم الفقهاء الشافعية، وأما نسبتنا بالخضيري، فلا أعلم ما تكون إليه هذه النسبة، إلا الخضيرية محلة ببغداد، وقد حدثني من أثق به، أنه سمع والدي رحمه الله تعالى، يذكر أن جده الأعلى كان أعجميا، أو من الشرق، فالظاهر أن النسبة إلى المحلة المذكورة.
وكان مولدي بعد المغرب، ليلة الأحد مستهل رجب، سنة تسع وأربعين وثمان مئة، وحملت في حياة أبي إلى الشيخ محمد المجذوب، رجل كان من كبار الأولياء، بجوار المشهد النفيسي فبرك عليّ، ونشأت يتيما، فحفظت القرآن ولي دون ثمان سنين، ثم حفظت العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك، وشرعت في الاشتغال بالعلم من مستهل سنة أربع وستين، فأخذت الفقه والنحو عن جماعة من الشيوخ، وأخذت الفرائض عن العلامة فرضي زمانه، الشيخ شهاب الدين الشارمساحي، الذي كان يقال إنه بلغ السن العالية، وجاوز المائة بكثير، والله أعلم بذلك، قرأت عليه في شرحه على المجموع، وأجزت بتدريس العربية في مستهل سنة ست وستين، وقد ألفت في هذه السنة، فكان أول شيء ألفته شرح الاستعاذة والبسملة، وأوقفت عليه شيخنا شيخ الإسلام علم الدين البلقيني، فكتب عليه تقريظا، ولازمته في الفقه إلى أن مات، فلازمت ولده فقرأت عليه من أول التدريب لوالده، إلى الوكالة، وسمعت عليه من أول الحاوي الصغير إلى العدد، ومن أول المنهاج، إلى الزكاة، ومن أول التنبيه إلى قريب من باب الزكاة، وقطعة من الروضة من باب القضا، وقطعة من تكملة شرح المنهاج للزركشي، ومن أحيا الموات إلى الوصايا، أو نحوها، وأجازني بالتدريس والإفتاء من سنة ست وسبعين، وحضر تصديري، فلما توفي سنة ثمان وسبعين، لزمت شيخ الإسلام شرف الدين المناوي، فقرأت عليه قطعة من المنهاج، وسمعته عليه في التقسيم، إلا مجالس فاتتني، وسمعت دروسا من شرح البهجة، ومن حاشية عليها، ومن تفسير البيضاوي.
ولزمت في الحديث والعربية، شيخنا الإمام العلامة تقي الدين الشبلي الحنفي، فواظبته أربع سنين، وكتب لي تقريظا على شرح ألفية ابن مالك، وعلى جمع الجوامع في العربية، تأليفي، وشهد لي غير مرة بالتقدم في العلوم، بلسانه وبنانه، ورجع إلى قولي مجردا في حديث فاته، أورد في حاشيته على الشفا، حديث أبي الجمرا في الإسرا، وعزاه إلى تخريج ابن ماجة، فاحتجت إلى إيراده بسنده، فكشفت ابن ماجة في مظنته، فلم أجده، فمررت على الكتاب كله، فلم أجده، فاتهمت نظري، فمررت مرة ثانية فلم أجده،
1 / 8
فعدت ثالثة، فلم أجده، ورأيته في معجم الصحابة لابن قانع، فجئت إلى الشيخ وأخبرته، فبمجرد ما سمع مني ذلك، أخذ نسخته، وأخذ القلم فضرب على لفظ ابن ماجة، وألحق ابن قانع في الحاشية، فأعظمت ذلك وهبته، لعظم منزلة الشيخ في قلبي، واحتقاري في نفسي، فقلت: ألا تصبرون لعلكم تراجعون، فقال: لا، إنما قلدت في قولي ابن ماجة، البرهان الحلبي.
ولم أنفك عن الشيخ، إلى أن مات، ولزمت شيخنا العلّامة أستاذ الوجود محيي الدين الكافيجي، أربع عشرة سنة، فأخذت عنه الفنون، من التفسير والأصول والعربية والمعاني، وغير ذلك، وكتب لي إجازة عظيمة، وحضرت عند الشيخ سيف الدين الحنفي دروسا عديدة في الكشاف والتوضيح وحاشيته عليه، وتلخيص المفتاح والعضد، وشرعت في التصنيف في سنة ست وستين، وبلغت مؤلفاتي إلى الآن ثلاث مئة كتاب، سوى ما غسلته ورجعت عنه، وسافرت بحمد الله تعالى، إلى بلاد الشام، والحجاز، واليمن، والهند، والمغرب، والتكرور، ولما حججت شربت من ماء زمزم، لأمور منها: أن أصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقيني، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر.
وأفتيت في مستهل سنة إحدى وسبعين، وعقدت إملاء الحديث من مستهل سنة اثنين وسبعين، ورزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، على طريقة العرب والبلغاء، لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة، والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة، سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها فيها، لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي، فضلا عمن هو دونهم، وأما الفقه، فلا أقول ذلك فيه، بل شيخي فيه أوسع نظرا، وأطول باعا، ودون هذه السبعة في المعرفة، أصول الفقه، والجدل، والتصريف، ودونها الإنشاء والترسل والفرائض، ودونها القرآات، ولم آخذها عن شيخ، ودونها الطب، وأما علم الحساب، فهو أعسر شيء عليّ، وأبعده من ذهني، وإذا نظرت في مسئلة تتعلق به، فكأنما أحاول جبلا أحمله، وقد كملت عندي الآن آلات الجهاد بحمد الله تعالى.
أقول ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى، لا فخرا، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها في الفخر، وقد أزف الرحيل، وبدا الشيب، وذهب أطيب العمر، ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفا، بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية، ومداركها ونقوضها وأجوبتها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها، لقدرت على ذلك، من فضل الله، لا بحولي، ولا بقوتي، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله.
وقد كنت في مبادي الطلب قرأت شيئا في علم المنطق، ثم ألقى الله كراهته في قلبي، وسمعت أن ابن الصلاح أفتى بتحريمه، فتركته لذلك، فعوضني الله تعالى عنه علم
1 / 9
الحديث، الذي هو أشرف العلوم، وأما مشايخي في الرواية سماعا وإجازة، فكثيرا ما أوردتهم في المعجم الذي جمعتهم فيه، وعدتهم نحو مئة وخمسين، ولم أكثر من سماع الرواية، لاشتغالي بما هو أهم، وهو قراءة الدراية» . ثم يذكر مصنفاته حسب الموضوعات، وسيرد الكلام عليها [١] .
عاش السيوطي حياة حافلة بالنشاط العلمي والاجتماعي، وقد شغل مناصب جليلة، وقامت بينه وبين منافسيه خصومات ودرس على كثرة من شيوخ عصره، كما أخذ الحديث عن نساء فضليات، وقد مر في ترجمته لنفسه أنه نشأ يتيما، وكفله كمال الدين ابن الهمام الذي كان وصيا عليه، فتعهده بالرعاية والتعليم، ومن ذلك أنه حفظ القرآن وهو دون
_________
[١] حسن المحاضرة ١/١٥٥- ١٥٧، ط مطبعة الموسوعات، مصر، و١/٣٣٥- ٣٣٧ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط دار إحياء الكتب العربية، القاهرة ١٩٦٧ م.
وانظر في ترجمة السيوطي في:
الضوء اللامع ٤/٦٨، بدائع الزهور ٤/٨٣، مفاكهة الخلان ١/٣٠١- ٣٠٢، ترجمة السيوطي، شمس الدين محمد الداوودي، مخطوطة توبنجن رقم ١٠١٣٤، النور السافر ص ٥٤، الكواكب السائرة ١/٢٢٨، شذرات الذهب ٨/٥٣، البدر الطالع ١/٣٣٣، فهرس الفهارس والأثبات ٢/٣٥٢، تاريخ الأدب الجغرافي، كراتشكوفسكي، ٢/٤٨٨، المؤرخون في مصر القرن التاسع الهجري ص ٥٦، مؤرخو مصر الإسلامية ص ١٤٢، وممن ألف عن السيوطي أو عن جانب من علمه: قبر الإمام السيوطي وتحقيق موضعه، أحمد تيمور، القاهرة ١٩٢٧، أدب السيوطي، دراسة نقدية، قرشي عباس دندراوي، القاهرة ١٩٧٤، السيوطي النحوي، عدنان سلمان، بغداد ١٩٧٦، جلال الدين السيوطي، بحوث ألقيت في ندوة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، القاهرة ١٩٧٦، جلال الدين السوطي مسيرته العلمية ومباحثه اللغوية، مصطفى الشكعة، القاهرة ١٩٨١، مكتبة الجلال السيوطي، أحمد الشرقاوي إقبال، الرباط ١٩٧٧، جلال الدين السيوطي، منهجه وآراؤه الكلامية، محمد جلال شرف، بيروت ١٩٨١، دليل مخطوطات السيوطي وأماكن وجودها، أحمد الخازن ومحمد الشيباني، الكويت ١٩٨٣، جلال الدين السيوطي وفن المقامات، السيد علي حسن، مجلة كلية الآداب، سوهاج ١٩٨٣، شرح مقامات جلال الدين السيوطي، سمير الدروبي، بيروت ١٩٨٩، جلال الدين السيوطي، عصره وحياته وآثاره وجهوده في الدرس اللغوي، طاهر سليمان حمودة، القاهرة ١٩٨٩، جلال الدين السيوطي وأثره في الدراسات اللغوية، عبد العال سالم مكرم، بيروت ١٩٨٩، السيوطي وجهوده في علوم القرآن، عبد الحليم هاشم الشريف، القاهرة ١٩٩١، فن المقامة بين البديع والحريري والسيوطي، أحمد أمين مصطفى، القاهرة ١٩٩١، ترجمة الشعراني لشيخه السيوطي، تحقيق سمير الدروبي، مجلة جامعة مؤتة، ١٩٩٣، حياة جلال الدين السيوطي مع العلم من المهد إلى اللحد، سعدي أبو جيب، دمشق ١٩٩٣، عناية السيوطي بالتراث الأندلسي، صلاح جرار، مجلة مؤتة ١٩٩٥، أشعار أندلسية ومغربية مستخرجة من كتاب المحاضرات والمحاورات للسيوطي، فايز القيسي، عمان ١٩٩٩، السيوطي ورسالته:
فهرست مؤلفاتي (العلوم الدبنية)، سمير الدروبي، مجلة مجمع اللغة العربية الأردني ١٩٩٩، الرمز في مقامات السيوطي، سمير الدروبي، عمان ٢٠٠١، وغير هؤلاء ممن فاتنا الاطلاع عليه، هذا فضلا عن الدراسات التي كتبت في مقدمات كتب السيوطي، التي كتبها المحققون، وهي كثيرة.
1 / 10
الثامنة من عمره، وحفظ كثيرا من المتون والكتب، في الفقه والنحو واللغة وغيرها من الفنون، وأتاحت للسيوطي كثرة أسفاره أن يأخذ عن مشايخ من مصر والشام والحجاز، بلغ عددهم كما يذكر السيوطي ست مئة نفس، وقد أجازه أكثرهم، يقول: «وأجاز لي خلق من الديار المصرية والحجاز وحلب، وقد جمعت معجما في أسماء من سمعت عليه أو أجازني، أو أنشدني شعرا فبلغوا نحو ست مئة نفس» [١]، ومن شيوخه الذين أخذ عنهم ولازمهم مدة طويلة شهاب الدين الشارمساحي، وشرف الدين المناوي، ومحيي الدين الكافيجي، وجلال الدين المحلي، وعلم الدين البلقيني، وتقي الدين الشّمنّي، وعبد القادر ابن أبي القاسم الأنصاري السعدي، وغيرهم، أما النساء اللواني سمع منهن وأخذ عنهم الحديث فيذكر منهن: أم الهنا المصرية بنت القاضي ناصر الدين محمد البدراني، وعائشة بنت عبد الهادي، وزينب بنت الحافظ عبد الرحيم العراقي، وأم الفضل بنت محمد المقدسي، وأم هاني بنت الهوريني، وغيرهن [٢] .
لقد أجيز السيوطي للتدريس سنة ٨٦٦ هـ، وبدأ نجمه في الصعود، وصار يفتي من سنة ٨٧١ هـ، ثم أملى الحديث بالجامع الطولوني، وكان إملاء الحديث قد توقف بموت ابن حجر العسقلاني، فجدده السيوطي [٣]، ويقول السيوطي إنه في سنة ٨٧٥ هـ، تنازع الناس في أمر الشاعر الصوفي عمر بن الفارض، واسهم السيوطي في هذا النزاع منحازا لابن الفارض، وعلى أثر ذلك لقيت مؤلفات السيوطي رواجا كبيرا، حتى إنها دخلت بلاد المغرب على يد ابن المجحود المصراتي، ووصلت كذلك إلى بلاد الروم والشام والحجاز وغيرها [٤]، وفي سنة ٨٧٧ هـ بلغ رتبة الاجتهاد [٦]، ثم عين في مشيخة الخانقاه البيبرسية سنة ٨٩١ هـ[٧]، وكثر خصوم السيوطي كلما علت مكانته وذاع صيته، وكان أشد خصومه الشيخ السخاوي وابن الكركي، وكان السيوطي قد كتب مقامته (الكاوي في تاريخ السخاوي)، وهي مقامة شديدة قاسية نال فيها من السخاوي وكتابه في التاريخ، ولم يبق له علما ولا قدرا، ومما قاله في وصف خصمه: «يا أرباب النّهى والألباب، وأصحاب المعارف والآداب..... ما ترون في رجل ألف تاريخا جمع فيه أكابر وأعيانا، ونصبه
_________
[١] التحدث بنعمة الله ص ٤٣.
[٢] حسن المحاضرة ١/٣٣٨، وجلال الدين السيوطي لمصطفى الشكعة ص ١٥- ٢٣، ٢٧- ٣٧.
[٣] التحدث بنعمة الله ص ٨٨- ٨٩.
[٤] التحدث بنعمة الله ص ١٥٥- ١٥٩.
[٥] السابق ص ٩٠، وبدائع الزهور ٣/٨٢، وشرح مقامات جلال الدين السيوطي ١/٣٣.
[٦] صون المنطق ص ١.
[٧] بدائع الزهور ٣/٢٢٨.
1 / 11
لأكل لحومهم خوانا؟ ملأه بذكر المساوىء وثلب الأعراض، وفوّق فيه سهاما على قدر أغراضه والأعراض هي الأغراض، جعل لحم المسلمين من جملة طعامه وآدامه، واستغرق في أكلها أوقات فطره وصيامه، ولم بفرّق فيه بين جليل وحقير، ولا بين مأمور وأمير، ولا بين مرؤوس ورئيس، ولا بين رخيص القدر وغال نفيس، وامتد حتى إلى العلماء الأعلام، وقضاة القضاة ومشايخ الإسلام، وأرباب المناصب والحكام، وهو على هذا حقير نقير، لا يباع في سوق العلم بقطمير، لا نسبه في الأنساب عال، ولا حسبه إذا قوّمت الأحساب غال، ولا يزداد إلا جهلا على كر الأيام وممر الليالي» [١]، وعلى هذا المنوال يمضي السيوطي في هجاء السخاوي والنيل منه، وكان السخاوي شديدا على السيوطي حين ترجم له في كتابه الضوء اللامع، وقد اتهم السيوطي بسرقة بعض مؤلفاته، والإغارة على كتب المكتبة المحمودية، واغتصاب الكتب القديمة التي لا عهد للمعاصرين بها، وكان من خصوم السيوطي الأشداء فضلا عن السخاوي كل من: أحمد بن الحسين بن العليف، والبرهان ابن الكركي، وأحمد بن محمد القسطلاني، والشمس الجوجري، والشمس الباني، وقد أفرد السيوطي لبعض خصومه مقامة أو رسالة في الرد عليه وهجائه أقسى هجاء، فألف عن ابن الكركي مقامة باسم: (الدوران الفلكي على ابن الكركي) [٢]، وفي رسائله ومقاماته نجد ردوده على خصومه وإن لم يذكر في بعضها أسماءهم، من ذلك مقامة باسم: (طرز العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة)، ورسالة باسم: (القول المجمل في الرد على المهمل)، وغير ذلك، وكان ممن وقف ينافح عن السيوطي وينصره تلميذه ابن إياس (المتوفى سنة ٩٣٠ هـ)، وجاء بعد ثلاثة قرون محمد بن علي الشوكاني (المتوفى سنة ١٢٥٠ هـ) ليدافع عن السيوطي وينصفه ويرد على مزاعم السخاوي [٣] .
إن خصوم السيوطي لهم ما يبرر خصومتهم، فالسيوطي قد نال منزلة كبيرة في علمه وجاهه، وزاد حسد حساده وخصومة خصومه، حين عهد إليه الخليفة المتوكل على الله عبد العزيز، بوظيفة قاضي القضاة سنة ٩٠٢ هـ، يولي من يشاء ويعزل من يشاء، فكبر ذلك على القضاة وقالوا: «ليس للخليفة مع وجود السلطان حلّ ولا ربط، ولا ولاية ولا عزل، ولكن الخليفة استخف بالسلطان لكونه حديث السن.. فلما قامت الدائرة على الخليفة، رجع عن ذلك، وبعث أخذ العهد الذي كتبه للشيخ جلال الدين السيوطي..
وكادت أن تكون فتنة بسبب ذلك» [٤] .
_________
[١] شرح مقامات السيوطي ٢/٩٣٣.
[٢] شرح مقامات السيوطي ١/٣٧١.
[٣] البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ١/٣٣٣.
[٤] بدائع الزهور ٣/٣٣٩.
1 / 12
وفي سنة ٩٠٣ هـ ثار عليه صوفية الخانقاه البيبرسية، وكادوا أن يقتلوه، فقد حملوه بأثوابه ورموه في الفسقية [١]، وفي سنة ٩٠٦ هـ غضب عليه السلطان العادل طومان باي، وأراد أن يفتك به، فتوارى السيوطي، وبقي متواريا مئة يوم، وهي مدة سلطنة طومان باي [٢] .
وفي غمرة هذه الأحداث، واشتداد هجمة الخصوم والحساد، قرر السيوطي أن يعتزل التدريس والإفتاء، ويلزم بيته للتأليف والعبادة، وكتب في ذلك المقامة اللؤلؤية التي يبين فيها سبب اعتزاله، والسيوطي يؤرخ لنفسه في كتبه ويسجل كل حدث ينزل به أو يقرره هو، سجل جل هذه الأمور في كتبه ورسائله ومقاماته، نقرأ ذلك في: (المقامة المزهرية المسماة بالنجح إلى الصلح) [٣]، يقول فيها: إنه تصدى للإفتاء سبع عشرة سنة، وبقي في الإفتاء والتدريس إلى أن بلغ من العمر أربعين سنة، وبعد ذلك أعتزل، وكذلك في رسالة (التنفيس في الاعتذار من ترك الإفتاء والتدريس)، وفي مقامة: (الاستنصار بالواحد القهار) [٤]، يذكر: أنه قاسى كثيرا من تصديه للفتوى، وناله بسبب ذلك ما يكون له عذر في ترك الإفتاء، وكذلك في مقدمة كتابه تنوير الحوالك، أما في: (المقامة اللؤلؤية) [٥]، فيزيد الأمر إيضاحا ويذكر لذلك أسبابا، ويقدم معاذير كثيرة، مبينا اختلال الموازين في ذلك الزمان، وغلبة الجهال والسفهاء على أهل العلم والتقى، يقول بنبرة غاضبة حزينة: «يا معشر الأحباب الصلحاء، وألى الألباب النصحاء، ومن لاح له أمر فلام عليه ولحا، إلى كم تكثرون عليّ الكلام، وتكبرون لديّ الملام ... أليس هذا زمان الصبر، الصابر فيه كقابض على الجمر؟ رأينا فيه ما أنذر به الرسول، وصحت به الأحاديث والنقول لكل سئول، من آيات وعلامات، ما كانت تقع فيما مضى منامات، ويود كل لبيب لو أنه عند المنى مات، وما من آية إلا وقد أمر النبي، ﵊، بأن يلزم العالم عندها خاصة نفسه، ويجلس في بيته ويسكت، ويدع العوام من ذلك الشح المطاع، ودنيا مؤثرة، وهوى له ذو اتباع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وذلك عين الابتداع، قد مرجت الأمانات والعهود، وكثر القائلون بالزور والشهود، وجم الاختلاف، وقل الائتلاف، وكذّب الصادق، وصدّق الكاذب المائق، وخوّن الأمين وأتمن الخائن ومن يمين ... وتعلم المتعلم لغير العمل، وكان التفقه للدنيا وليس
_________
[١] بدائع الزهور ٣/٣٨٨.
[٢] بدائع الزهور ٣/٤٧١، ٤/٥- ٦.
[٣] شرح مقامات السيوطي ٢/١٠٤١.
[٤] المصدر السابق ١/٢٢٥.
[٥] السابق نفسه ٢/٩٩٦.
1 / 13
له في الآخرة أمل، وأهين الكبير، وقدّم عليه الصغير، ورفعت الأشرار، ووضعت الأخيار، فلا يتبع العليم، ولا يستحى من الحليم.. «وهكذا يمضي السيوطي في بيان ما آلت إليه أمور الناس، والسوء الذي عمّ وطمّ، ويجد لكل ذلك مبررا لترك التدريس والعزلة ولزوم البيوت، يقول: «فلنجلس في البيوت، ولنلزم السكوت، ولنتّق الله في خاصة نفسنا، ولندع عامة الأمور إلى أن نحل برمسنا»، ولم يكن السيوطي في هذا القرار مبتدعا، بل سبقه إلى ذلك جلة من العلماء، وهو يقتدي بالفضلاء من الأوائل، يقول:
«وكم من عالم قبلي قد قبل هذه الوصية، إذ رأى ما ليس له به قبل، وترك الإقراء والإفتاء، وأقبل على خاصة نفسه والعمل، وقد اقتديت بهم ونعم القدوة، وائتسيت بالحديث الذي هو لكل مؤمن أسوة، طالما قطعت نهاري في التدريس والإفتاء، واستغرقت أوقاتي في نفع الناس، وقتا فوقتا، ولم أسلم على ذلكم من يوليني أذى ومقتا، ويرميني كذبا وبهتا» [١]، والمقامة طويلة ونفيسة سجل فيها ما كان يعانيه من أهل زمانه من حسد وجور وأذى، وأمور دعته إلى لزوم العزلة وترك مخالطة الناس.
لقد اعتزل السيوطي الناس، واعتزل مجالس السلطان أيضا، وترفع عن قبول هدايا السلاطين، ومما يروى أن السلطان الغوري، وكان ذا ثقافة عالية ومشاركة في الشعر والأدب والتاريخ، وله مجالس مشهورة عرفت بمجالس الغوري، وقد حاول السلطان أن يقرب السيوطي إليه، وأن يسترضيه مما لحق به من أذى في عهد سلفه، ولكن السيوطي آثر العزلة والبعد عن مجالس السلاطين، وكذلك الاعتذار عن قبول هداياهم، فقد أرسل إليه السلطان الغوري هدية هي ألف دينار وخصي، فرد المال، وقال لرسول السلطان: «لا تعد تأتينا قط بهدية، فان الله تعالى أغنانا عن مثل ذلك»، وأما الخصي فقد أعتقه السيوطي وجعله خادما في الحجرة النبوية الشريفة [٢]، وقد عزز السيوطي موقفه هذا بأن كتب رسالته: (ما رواه الأساطين في عدم التردد على السلاطين)، وقد رويت باسم آخر هو: (رواية الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين)، وروى نجم الدين الغزي أنه نظمها في منظومة لطيفة وأضاف إليها بعض الزيادات [٣]، وهكذا تتسم حياة السيوطي بالعلم والعفة والترفع عن موائد الحكام وعطايا السلاطين.
وفي سنة ٩١١ هـ ودع السيوطي الدنيا بعد أن عاش فيها حياة عريضة خصبة حافلة بالنشاط والعطاء والعمل، وفارق الدنيا عن اثنين وستين عاما، وهو في أوج اكتماله العلمي
_________
[١] شرح مقامات السيوطي ٢/٩٩٦- ١٠٠١.
[٢] بدائع الزهور ٢/٣٩٦، وجلال الدين السيوطي، لمصطفى الشكعة ص ١٠٨- ١٠٩.
[٣] الكواكب السائرة ١/٢٢٨.
1 / 14
وازدهاره الثقافي والاجتماعي، ويقول الغزي في وفاته: «وكان له مشهد عظيم، ودفن في حوش قوصون خارج باب القرافة، وصلى عليه غائبة بدمشق بالجامع الأموي» [١] .
مؤلفات السيوطي
السيوطي عالم موسوعي كثير التأليف غزير الإنتاج، ألف في كل فن، واختلف من أحصى مؤلفاته في عدد هذه المؤلفات، وهي بطبيعة الحال تتفاوت بين المجلدات الكبيرة والرسائل الصغيرة، في موضوعات الثقافة العربية والإسلامية، فقد ألف في علوم القرآن، والتفسير، والحديث النبوي وعلومه، والفقه، واللغة وعلومها، والبيان والبديع، والتاريخ والتراجم والطبقات، والأدب وتاريخه، والتصوف، وتحريم علم المنطق، والطب، وغيرها.
وقد ذكر السيوطي مؤلفاته في كتابين، الأول: (التحدث بنعمة الله) وذكر من كتبه ٥٣٠ مؤلفا [٢]، ثم في كتابه (حسن المحاضرة) حين ترجم لنفسه، قال: «وبلغت مؤلفاتي إلى الآن ثلاث مئة كتاب سوى ما غسلته ورجعت عنه) [٣]، والمعروف أن السيوطي ألف كتابه التحدث بنعمة الله قبل كتابه حسن المحاضرة، فكيف تكون مؤلفاته في الأول ٥٣٠ كتابا ثم بعد ذلك في حسن المحاضرة ينزل العدد إلى النصف ٣٠٠ كتاب، هل هناك خطأ في العدد وهو ٦٠٠، وكتب الناسخ ٣٠٠، أم أن ما غسله بلغ نصف مؤلفاته، وهذا ما لا يعقل، وبين تأليف الكتابين مدة طويلة لابد وأنه ألف خلالها كتبا كثيرة، ومما يعزز هذا الفرض أن السيوطي ذكر في (فهرست مؤلفاته) الذي كتبه بعد حسن المحاضرة ٥٣٨ مؤلفا، وقسم هذه المؤلفات إلى موضوعات هي:
في التفسير: ٧٣ كتابا، وفي الحديث: ٥٢ كتابا، وفي المصطلح: ٣٢ كتابا، وفي الفقه: ٧١ كتابا، وفي أصول الفقه والدين والتصوف ٢٠ كتابا، وفي اللغة والنحو والتصريف ٦٦ كتابا، وفي المعاني والبديع ٦ كتب، وفي الكتب الجامعة ٨ كتب، وفي الطبقات ٣٠ كتابا [٤] .
واسترعت كتب السيوطي اهتمام العلماء في عصره وما بعده فأحصوها، فنجد أن كتبه قد نيّفت على الخمس مئة كما يذكر الغزي في الكواكب السائرة [٥]، وابن العماد في
_________
[١] الكواكب السائرة ١/٢٣١، وينظر: قبر السيوطي وتحقيق موضعه، لأحمد تيمور ص ٦- ٢٢.
[٢] التحدث بنعمة الله ١٠٥- ١٣٦.
[٣] حسن المحاضرة ١/٣٣٨.
[٤] فهرس الفهارس ٢/٣٥٩.
[٥] ١/٢٢٨.
1 / 15
شذرات الذهب [١]، وأوصل العدد إلى ست مئة مؤلف كل من ابن إياس [٢]، وابن طولون [٣] والعيدروسي [٤] .
واهتم المعاصرون باحصاء مؤلفات السيوطي، فقد أحصى أحمد الشرقاوي إقبال للسيوطي ٧٢٥ مؤلفا [٥]، ويؤخذ علي الباحث أنه أهمل كتابي السيوطي: (التحدث بنعمة الله)، و(فهرست مؤلفاته)، وأحصى أحمد الخازندار، ومحمد إبراهيم الشيباني في دليل مخطوطات السيوطي [٦] ٩٨١ عنوانا، وآخر من أحصى للسيوطي من المعاصرين هو إياد خالد الطباع في كتابه (الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي، معلمة العلوم الإسلامية) [٧]، إذ جاء بأكبر عدد وهو ١١٩٤ عنوانا، مقسمة وفق الآتي:
الكتب المطبوعة ٣٣١ عنوانا.
الكتب التي مازالت مخطوطة ٤٣١ عنوانا.
الكتب المفقودة أو المجهولة المكان: ٤٣٢ عنوانا.
وفي هذه الكتب المؤلفات الكبيرة التي تكون مجلدات، وفيها الرسائل الصغيرة التي قد تكون ورقات، وقد امتاز السيوطي بكثرة التأليف، وتنوع الفنون والموضوعات، وحسن العرض والتبويب، مما استرعى انتباه القدامى والمحدثين، فأشادوا بفضله وجودة مؤلفاته، فقد أشاد به المقّري بقوله: إنه إمام الدنيا [٨]، ووصفه الشوكاني: (بالإمام الكبير صاحب التصانيف) [٩]، وأشاد بفضله وكتبه مجموعة من العلماء، منهم: ابن إياس [١٠]، وابن العماد [١١]، وعبد الحي الكتاني [١٢]، أما المؤلفون المعاصرون فقد أشاد بمؤلفاته جمهرة كبيرة نذكر منهم: كراتشكوفسكي الذي يقول عنه: (أكثر المؤلفين قربا إلى جمهرة القراء، لأكثر من ثلاثة قرون، لا في البلاد العربية وحدها، بل في العالم الإسلامي عامة) [١٣]، ويعبر
_________
[١] ٨/٥٣.
[٢] بدائع الزهور ٤/٨٣.
[٣] مفاكهة الخلان ١/٣٠١- ٣٠٢.
[٤] النور السافر ص ٥٥.
[٥] مكتبة الجلال السيوطي ص ٧.
[٦] الكويت ١٩٨٣.
[٧] طبع دار القلم، دمشق ١٩٩٦.
[٨] أزهار الرياض ٣/٥٦.
[٩] البدر الطالع ١/٣٢٨.
[١٠] بدائع الزهور ٤/٨٣.
[١١] شذرات الذهب ٨/٥٣.
[١٢] فهرس الفهارس ٢/٣٥٩.
[١٣] تاريخ الأدب الجغرافي ٢/٤٨٨.
1 / 16
نيكلسون عن إعجابه بالسيوطي ومؤلفاته بقوله: (لو سئلنا أن نختار شخصا واحدا يعكس في ذاته الاتجاهات الأدبية للعصر الاسكندري في الحضارة العربية بشكل تام قدر المستطاع، لوقع اختيارنا على جلال الدين السيوطي) [١] .
وهذا التراث الضخم في شتى العلوم والفنون هو جهد رجل فرد، عالم فذ، نذر نفسه للعلم، وأخلص له، فوفقه الله سبحانه، وهداه إلى الطريق القويم.
إن عصر السيوطي هو العصر المغولي، الذي شهد تفتت البلاد الإسلامية، وخراب المدن، وسقوط الحضارة، وقد بدأ هذا التفتت والانحدار قبل سقوط بغداد، ثم ازداد ذلك بعد سقوط بغداد على أيدي المغول سنة ٦٥٦ هـ، حتى دخول العثمانيين مصر سنة ٩٢٣ هـ، وفي هذه الفترة التي بلغت القرنين ونصف، ساد حكم المغول البلاد الإسلامية من الهند شرقا، إلى بلاد الشام غربا، وقد رافق ذلك محنة أخرى، هي خروج المسلمين من الأندلس سنة ٨٩٧ هـ، وإحراق الكتب العربية، فقد أمر الكردينال (زيمتس) باحراق مكتبة غرناطة، وذهب في هذا الحريق أكثر من ثمانين ألف مجلد، من كتب التراث الإسلامي، وكان لهذا البلاء صدى في نفوس العلماء، بأن دعاهم حرصهم على تراث الأمة، أن اتجهوا إلى التأليف الموسوعي، والنقل عن الكتب ليحفظوا هذا التراث من الضياع، وليقدموا الفكر الإسلامي في تضاعيف كتبهم، وقد دأبت مجموعة كبيرة من المؤلفين على هذا الضرب من التأليف الموسوعي، الذي يحفظ تراث الأمة في التاريخ، والأدب، والتراجم، والمعجمات، وكان صفوة من هؤلاء العلماء في هذه الفترة، والذين قدموا مؤلفات نفيسة نادرة نذكر أهمها:
- ابن عساكر (ت ٥٧١ هـ) في: تاريخ دمشق، ويقع في ٤٠ مجلدا كبيرا.
- ابن الجوزي (ت ٥٩٧ هـ) في: المنتظم في تاريخ الأمم، طبع منه ستة أجزاء، وألف ابن الجوزي نحو ٣٠٠ كتاب.
- ابن الأثير، عز الدين الشيباني (ت ٦٣٠ هـ) في: الكامل في التاريخ، ٢١٢ مجلدا، وله أسد الغابة في معرفة الصحابة، في ٥ مجلدات.
- ياقوت الحموي (ت ٦٢٦ هـ) في معجم الأدباء، في سبعة مجلدات. ومعجم البلدان في خمسة مجلدات كبار.
- ابن أبي أصيبعة (ت ٦٦٨ هـ) في: طبقات الأطباء.
- ابن خلكان (ت ٦٨١ هـ) في: وفيات الأعيان، في سبعة مجلدات.
- ابن الطقطقي (ت ٧٠٢ هـ) في: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية.
_________
[١] تاريخ الأدب العباسي، الترجمة العربية ص ٢٧٨.
1 / 17
- ابن منظور (ت ٧١١ هـ) في: لسان العرب، (٢٠ مجلدا)، واختصر الحيوان، وتاريخ دمشق، والذخيرة لابن بسام.
- النويري (ت ٧٣٢ هـ) في: نهاية الأرب، طبع منه ثمانية عشر جزءا.
- أبو الفداء (ت ٧٣٢ هـ) في: المختصر في أخبار البشر.
- أبو حيان الغرناطي الأندلسي (ت ٧٤٥ هـ)، له كتب كثيرة في اللغة والتفسير والطبقات.
- الذهبي (ت ٧٤٨ هـ) في: تاريخ الإسلام.
- ابن فضل الله العمري (ت ٧٤٨ هـ) في: مسالك الأبصار (٢٧ مجلدا) .
- ابن قيم الجوزية (ت ٧٥١ هـ) في: أعلام الموقعين، وزاد المعاد، ومفتاح دار السعادة.
- ابن شاكر الكتبي (ت ٧٥٤ هـ) في: فوات الوفيات (٤٠ مجلدا)، وعيون التواريخ (٦ مجلدات) .
- صلاح الدين الصفدي (ت ٧٦٤ هـ) في: الوافي بالوفيات (٣٠ مجلدا) .
- ابن خلدون (ت ٨٠٨ هـ) في: مقدمته، وفي تاريخه.
- الفيروز أبادي (ت ٨١٧ هـ) في: القاموس المحيط.
- ابن جماعة (ت ٨١٩ هـ)، بلغت مؤلفاته الألف كتاب.
- القلقشندي (ت ٨٢١ هـ) في: صبح الأعشى.
- المقريزي (ت ٨٤٥ هـ) في: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، والسلوك في معرفة الملوك، وإمتاع الأسماع.
- ابن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢ هـ) في: الدرر الكامنة (٥ مجلدات)، وتهذيب التهذيب (١٢ مجلدا)، والإصابة في تمييز الصحابة (٩ مجلدات) .
- ابن تغري بردي (ت ٨٧٤) في: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (١٦ مجلدا) .
- السخاوي (ت ٩٠٢ هـ) في: الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع (١٢ مجلدا)، وله نحو مئتي مصنف.
- السيوطي (ت ٩١١ هـ) في مؤلفاته الكثيرة.
من ألف في المحاضرات والمحاورات وما أشبهها:
كتاب المحاضرات من كتب الاختيارات النوادر والطرائف والفوائد النثرية والشعرية، ولقد سبق السيوطي إلى هذا الضرب من التأليف كثرة من المؤلفين، على اختلاف أساليبهم ومناهجهم وتبويبهم، ولكنهم جميعا يلتقون عند فكرة المحاضرات والمحاورات والمسامرات والاختيارات، وتتضمن كتبهم مختارات من الأحاديث والقصص والنوادر والمقامات والطرائف والفوائد اللغوية والأدبية والتاريخية، ونماذج من الشعر على سبيل
1 / 18
الاستشهاد، وما إلى ذلك من فنون التأليف، وهذه الكتب لا تقوم على منهج واحد في التبويب والتصنيف، وإذا ما عرضنا لبعض هذه الكتب فسنجد الطبيعة المشتركة لهذا الجنس من التصنيف الذي يميل كلما مر الزمن إلى التنوع والموسوعية، فمنذ منتصف القرن الثالث بدأ هذا الضرب من التأليف، ويمكن أن نتخذ كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة (ت ٢٧٦ هـ) بداية، فهو وإن كان فيه تبويب وتقسيم إلا أن منهجه كان يقوم على فكرة الاختيار والتنويع والاستطراد ودفع السأم بالفكاهة والطرائف والنوادر، لدفع الوهن والملالة عن القارىء أو السامع بعد الدرس الجاد، ويوجه كتابه لعامة الناس ليس لفريق دون آخر، ويبين ابن قتيبة منهجه في الكتاب فيقول: «ولم أر صوابا أن يكون كتابي هذا وقفا على طالب الدنيا دون طالب الآخرة، ولا على خواص الناس دون عوامهم، ولا على ملوكهم دون سوقتهم، فوفّيت كل فريق قسمه، ووفرت عليه سهمه، وأودعته طرفا من محاسن كلام الزهاد في الدنيا وذكر فجائعها والزوال والانتقال ... ولم أخله مع ذلك من نادرة طريفة وفطنة لطيفة، وكلمة معجبة، وأخرى مضحكة،.... لأروّح بذلك عن القارىء من كد الجد، وإتعاب الحق، فان الأذن مجّاجة، وللنفس حمضة»، ثم يقول:
«وسينتهي بك كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة، وما روي عن الأشراف والأئمة فيهما، فإذا مرّ بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه، أو تعجب منه، أو تضحك له، فاعرف المذهب فيه وما أردنا به» [١] .
ويمكن أن نصنف كتاب البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي (ت ٤٠٠ هـ) في جملة كتب المحاضرات هذه، فهو يسير على نمط كتاب ابن قتيبة، عيون الأخبار، فهو يتضمن ألوانا من المعرفة الأدبية واللغوية والتاريخية والفلسفية والإخبارية، والحكمة والفكاهة والنوادر، وينص التوحيدي على أن كتابه كتاب مختارات ومنوعات. فهو يقول: «ولا عليك أن تستقضي النظر في جميع ما حوى هذا الكتاب، لأنه كبستان يجمع ألوان الزهر، وكبحر يضم أصناف الدرر، وكالدهر يأتي بعجائب العبر» .
ومن هذه المصنفات كتاب زهر الآداب وثمر الألباب، لأبي إسحاق إبراهيم الحصري القيرواني (ت ٤٥٣ هـ) واسم الكتاب يدل على مضمونه، فهو كتاب يشتمل على منتقيات من الشعر والنثر، فيها الطرائف والنوادر، والأخبار والآراء البلاغية والنقدية وما إلى ذلك، يقول المؤلف في مقدمة الكتاب: «وبعد؛ فهذا كتاب اخترت فيه قطعة كاملة من البلاغات، في الشعر والخبر، والفصول والفقر، مما حسن لفظه ومعناه، واستدل بفحواه على مغزاه، ولم يكن شاردا حوشيا، ولا ساقطا سوقيا، ... وهو كتاب يتصرف الناظر فيه
_________
[١] عيون الأخبار ١/٣٩ ط دار الكتاب العربي بيروت ١٩٩٧.
1 / 19
من نثره إلى شعره، ومطبوعه إلى مصنوعه، ومحاورته إلى مفاخرته، ومناقلته إلى مساجلته، وخطابه المبهت إلى جوابه المسكت، وتشبيهاته المصيبة إلى اختراعاته الغريبة، وأوصافه الباهرة إلى أمثاله السائرة، وجده المعجب إلى هزله المطرب»، ويقر المؤلف بأن ليس له في هذا إلا حسن الاختيار: «وليس لي في تأليفه من الافتخار، أكثر من حسن الاختيار، واختيار المرء قطعة من عقله، تدل على تخلفه أو فضله» [١] .
ومن هذه الكتب التي يدل اسمها على محتواها، كتاب: (محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء) للراغب حسين بن محمد الأصفهاني (ت ٥٠٢ هـ)، وقد جمع فيه من العلوم والمعارف الإنسانية حشدا كبيرا، من ذلك: العلم، والعقل، والجهل، والأخلاق، والأبوة، والبنوة، والمدح، والذم، والهمم، والجهد، والصناعات، والمكاسب، والغنى، والفقر، والاستعطاء، والأطعمة، والشرب، والإخوانيات، والغزل، والزواج، والمجون، وخلق الناس، والملابس، والطيب، والديانات، والموت، والسماء والأزمنة والأمكنة والحيوانات، وغير ذلك، ويتناول هذه الموضوعات بأسلوب أدبي يذكر ما قيل في كل فكرة من آيات وأحاديث وشعر ومثل وحكاية وطرفة ونادرة، مع استطرادات وانتقالات من موضوع إلى آخر.
ومن هذا الضرب من التأليف كتاب: (المستطرف من كل فن مستظرف) لشهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي المحلي (ت ٨٥٠ هـ)، واسم الكتاب ينبىء عن مضمونه، فهو يحوي كل ظريف من الفنون والمعارف، فتجد فيه التمثل بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويسوق الأخبار التاريخية، مع سرد اللطائف، والحكايات. والنوادر، والطرف، والحكايات، والمختارات الشعرية والنثرية، والأمثال، وما إلى ذلك.
والأبشيهي يشير إلى من سبقه من المؤلفين في هذا الضرب، والكتب التي نقل عنها ونسج على منوالها، وأهمها العقد الفريد لابن عبد ربه، وربيع الأبرار للزمخشري، ويبين طريقته ومحتوى كتابه فيقول: «أما بعد فقد رأيت جماعة من ذوي الهمم، جمعوا أشياء كثيرة، من الآداب والمواعظ والحكم، وبسطوا مجلدات في النوادر والأخبار والحكايات، واللطائف، ورقائق الشعر، وألفوا في ذلك كتبا كثيرة، وتفرد كل منها بفرائد وفوائد لم تكن في غيره من الكتب محصورة» .
ويبين طبيعة الكتاب ومن أفاد منهم ممن سبقوه: «فاستخرت الله تعالى، وجمعت من مجموعها هذا المجموع اللطيف، وجعلته مشتملا على كل فن ظريف، وسميته (المستطرف في كل فن مستظرف)، واستدللت فيه بآيات كثيرة من القرآن العظيم،
_________
[١] زهر الآداب ١/٣٣- ٣٦ تحقيق زكي مبارك ومحمد محيي الدين عبد الحميد، ط القاهرة ١٩٢٩.
1 / 20
وأحاديث صحيحة من أحاديث النبي الكريم، وطرزته بحكايات حسنة عن الصالحين الأخيار، ونقلت فيه كثيرا مما أودعه الزمخشري في كتابه (ربيع الأبرار)، وكثيرا مما نقله ابن عبد ربه في كتابه (العقد الفريد)، ورجوت أن يجد مطالعه فيه كل ما يقصد ويريد» .
أما مادة الكتاب وما اقتبسه من الكتب السابقة، فيوضحها في قوله: «وجمعت فيه لطائف وظرائف عديدة، من منتخبات الكتب النفيسة المفيدة، وأودعته من الأحاديث النبوية، والأمثال الشعرية، والألفاظ اللغوية، والحكايات الجدية، والنوادر الهزلية، ومن الغرائب والدقائق، والأشعار والرقائق، ما تشنف به الأسماع، وتقر برؤيته العيون، وينشرح بمطالعته كل قلب محزون:
من كل معنى يكاد الميت يفهمه ... حسنا ويعشقه القرطاس والقلم» [١]
ومن الكتب المتأخرة بعد زمن السيوطي، التي نهجت هذا النهج كتابا العاملي محمد بن الحسين الحارثي الهمذاني (ت ١٠٣١ هـ) المخلاة والكشكول، وفي اسم الكتابين دلالة على مادتهما، فالمخلاة: الكيس الذي يعلقه المتسول في رقبته، ويضع فيه ما يجود به عليه المحسنون، وكلمة المخلاة عربية فصيحة، فهي تعني ما يجعل فيه (الخلى)، وهو العشب الرطب، ثم أطلقت على ما يجعل فيه العلف ويعلّق في عنق الدابة، أما الكشكول: فكلمة فارسية يطلق على الحقيبة التي تضم أنواعا من الحاجيات، ويقول في مقدمة الكشكول إنه جمع فيه: «ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، من جواهر التفسير، وزواهر التأويل، وعيون الأخبار، ومحاسن الآثار، وبدائع حكم، يستضاء بنورها، وجوامع كلم يهتدى ببدورها، ونفحات قدسية تعطر مسام الأرواح، وواردات أنسية تحيي رميم الأشباح، وأبيات تشرب في الكؤوس لسلاستها، وحكايات شائعة تمزج بالنفوس لنفاستها» .
ويبدو أن كتاب الكشكول هو تتمة لكتاب المخلاة، وكلاهما على نمط واحد في الاختيار، يقول في مقدمة الكشكول: «ثم عثرت بعد ذلك [٢] على نوادر تتحرك لها الطباع، وتهش لها الأسماع، وطرائف تسر المحزون، وتزري بالدر المخزون، ولطائف أصفى من رائق الشراب، وأبهى من أيام الشباب، وأشعار أعذب من الماء الزلال، وألطف من السحر الحلال.... فاستخرت الله تعالى، ولفقت كتابا ثانيا يحذو حذو ذلك الكتاب الفاخر، ويستبين به صدق المثل السائر، فكم ترك الأول للآخر» [٣] .
هذه الكتب وغيرها، يشبه بعضها بعضا إلى حد ما من حيث الاختيار وحسن
_________
[١] المستطرف ١/١١ ط إحياء التراث العربي، بيروت ١٩٩٤.
[٢] يريد بعد تأليف كتاب المخلاة.
[٣] الكشكول، مقدمة الكتاب، تحقيق طاهر أحمد الزاوي، ط الحلبي، مصر ١٩٦١.
1 / 21
الانتقاء، والحرص على كل نادر وطريف ومفيد، من جيد الشعر، والنثر، والأخبار، والأمثال، والقصص، والحكايات، والحكم، مرصعة بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، والآثار المأثورة.
وقبل التعرف على كتاب المحاضرات للسيوطي يحسن أن نذكر ما وقفنا عليه من أسماء الكتب التي تحمل اسم المحاضرات، سواء اتفق المضمون أم اختلف، من ذلك:
- المحاضرات والمناظرات لأبي حيان التوحيدي (ت ٤٠٠ هـ)، من كتبه التي فقدت [١] .
- محاضرات الأدباء، للراغب الأصفهاني (ت ٥٠٢ هـ) .
- محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار، لمحيي الدين محمد بن عربي (ت ٦٣٨ هـ)، كتاب في الآداب والمواعظ والأمثال والحكم وسير الأولين والأنبياء [٢] .
- محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر، لعلاء الدين علي دده البوسني الموستاري، المعروف بشيخ التربة (ت ١٠٠٧ هـ) [٣] .
- محاضرة الأديب ومسامرة الحبيب، لعلي بن حسين الفرضي الحلي (ت بعد ١٣٢٨ هـ) .
معنى المحاضرة
ولم نقف بعد على معنى (المحاضرة)، المحاضرة في الوضع اللغوي: المجالدة، وهو أن يغالبك على حقك فيغلبك عليه، ويذهب به، قال الليث: «المحاضرة أن يحاضرك إنسان بحقك فيذهب به، مغالبة أو مكابرة، وحاضرته: جاثيته عند السلطان، وهو كالمغالبة والمكاثرة» [٤] والمحادثة، تقول حاضر القوم: جالسهم وحادثهم بما يحضره، ومنه: فلان حسن المحاضرة، وألقى عليهم محاضرة [٥] .
والمحاضرة: صنف من أصناف العلوم الأديبة، وقد قسم الزمخشري العلوم إلى اثني عشر صنفا، المحاضرات أحد أصنافها، والأصناف هي: علم متن اللغة، وعلم الأبنية، وعلم الاشتقاق، وعلم الإعراب، وعلم المعاني، وعلم البيان، وعلم العروض، وعلم القوافي، وإنشاء النثر، وقرض الشعر، وعلم الكتابة، وعلم المحاضرات [٦]، وينقل السيوطي عن بعض المؤلفين قوله: «ومراده بالمحاضرات، ما تحاضر به صاحبك من نظم
_________
[١] معجم الأدباء ٥/١٩٢٥، تحقيق إحسان عباس.
[٢] كشف الظنون ٢/١٦١٠، معجم المؤلفين ١١/٤١، معجم المطبوعات ص ١٨٠.
[٣] كشف الظنون ص ٩١، ٢٠٠، هدية العارفين ١/٧٥٠- ٧٥١، معجم المؤلفين ٢/٥٣٢ ط مؤسسة الرسالة.
[٤] اللسان: حضر. والقاموس المحيط: حضر.
[٥] المعجم الوسيط: حضر.
[٦] المحاضرات للسيوطي الورقة ٢، عن القسطاس في علم العروض للزمخشري ص ١٥- ١٦.
1 / 22
أو نثر، أو حديث أو نادرة، أو مثل سائر» [١] ويوضح طاش كبري زاده (ت ٩٦٨ هـ) المراد بالمحاضرة فيقول: إن علم المحاضرة، هو استعمال كلام البلغاء في أثناء الكلام في محل مناسب له على طريق الحكاية، وإن ذلك العلم يراد به تكوين ملكة يراد بها الاحتراز من الوقوع في الخطأ عند نقل الكلام عن الآخرين، على ما يقتضيه مقام التخاطب، من جهة معانيه الأصلية، ومن جهة خصوص ذلك التركيب نفسه [٢] .
يتضح من الأقوال السابقة أن المراد بالمحاضرات والمحاورات هو ما تتضمنه المجاميع الأدبية من مختار المنظوم والمنثور الذي يشتمل على الثقافة العربية والإسلامية، في مفهومها العام الشامل، ويصدق هنا مفهوم الأدب عن القدماء الذي أوضحه ابن خلدون في كلمته السائرة: (الأخذ من كل علم بطرف) [٣]، ويريد بذلك: «الإجادة في فني المنظوم والمنثور، على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو، مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، يفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة، والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه» [٤] .
ومما سبق نجد أن مفهوم المحاضرات يعني، ما يختاره المؤلف من ثمار العلوم والمعارف من لدن السابقين، وفق ذوقه واختياره، وكثيرا ما يهدف المصنف إلى الغاية التعليمية والتربية الخلقية، والتماس العبرة من تجارب السابقين، وما إلى ذلك.
كتاب المحاضرات والمحاورات
ونهج السيوطي في كتاب المحاضرات نهج من سبقه من المؤلفين، ولكن لكتابه نهجه الخاص وتميزه، ولكل كتاب من الكتب السابقة على كتاب المحاضرات أو اللاحقة، سمته ونكهته ومذاقه.
للسيوطي منهجه في التأليف بعامة يقوم على الأحاطة بكتب من سبقه من المؤلفين، والاطلاع على كل صغيرة وكبيرة من تلك الكتب، يقول مبينا منهجه في مقدمة كتاب الأشباه والنظائر [٥]: «ولم أزل في أيام الطلب أعتني بكتبها قديما وحديثا، وأسعى في
_________
[١] المحاضرات الورقة ٢.
[٢] مفتاح السعادة ص ٢٠٨- ٢٠٩.
[٣] مقدمة ابن خلدون ص ٤٧٦ ط دار الكتب العلمية، بيروت ٢٠٠٠.
[٤] السابق ص ٤٧٥- ٤٧٦.
[٥] الأشباه والنظائر، مقدمة المؤلف، ط حيدر آباد ١٣٥٩ هـ.
1 / 23
تحصيل ما دثر منها، سعيا حثيثا، إلى أن وقفت منها على الجم الغفير، وأحطت بغالب الموجود مطالعة وتأملا، بحيث لم يفتني منها سوى النزر اليسير، وألّفت فيها الكتب المطولة والمختصرة، وعلّقت التعاليق، ما بين أصول وتذكرة، واعتنيت بأخبار أهلها وتراجمهم، وإحياء ما دثر من معالمهم، وما رووه أو رأوه، وما تفرد به الواحد منهم من المذاهب والأقوال، ضعّفه الناس أو قوّوه، وما وقع لهم مع نظرائهم، وفي مجالس خلفائهم وأمرائهم، من مناظرات ومحاورات، ومجالسات ومذاكرات، ومدارسات ومسايرات، وفتاوى ومراسلات، ومعاياة ومطارحات، وقواعد ومناظيم، وضوابط وتقاسيم، وفوائد وفرائد، وغرائب وشوارد، حتى اجتمع عندي من ذلك جمل، ودونتها رزما، لا أبالغ وأقول وقر جمل» [١] .
وكأن هذا المنهج الذي وصفه السيوطي في التأليف، قد كتبه لهذا الكتاب، فهو متحقق فيه، ولا شك أنه يصف خبرته في التأليف عامة، بعد ممارسته هذا العمل الشاق الطويل في كتبه الكثيرة.
يقدم السيوطي لكتابه هذا بمقدمة موجزة يبين فيه طبيعة الكتاب ومنهجه. فيقول:
«هذا مجموع حسن، انتخبت فيه ما رقّ وراق من ثمرات الأوراق، والتقطت فيه من درر الكتب الجواهر، ومن شجرة الحدائق الأزاهر، مما يصلح لمحاضرة الجليس، ومسامرة الأنيس» [٢] .
ويريد السيوطي في هذا الكتاب أن يقدم النافع من ثمار الكتب التي أعجبته، ومن فنون شتى من المنظوم والمنثور، وتتضمن منتقيات أدبية وتاريخية ودينية، فيها طرف وفوائد مقتبسة، من سير الأنبياء، والخلفاء، والصحابة، والكتاب، والشعراء، ومجموعات من الرسائل الأدبية والمقامات، ومنتقيات من الأشعار، ونوادر، وملح أدبية وفوائد ثقافية وعلمية، وما إلى ذلك من ضروب المعرفة.
وقد نقل السيوطي من عشرات الكتب في مختلف الموضوعات والفنون، ومن هذه الكتب ما هو معروف لدينا، ومنها ما هو مفقود، وكذلك حفظ جملة صالحة من الأشعار التي لم تحوها الدواوين، أو الأخبار التي فاتت الكتب التي بين أيدينا، وقد نقل من هذه الكتب وفق ذوقه ومذهبه، وإذا نظرنا في هذه النقول والاختيارات، نجدها تتفاوت في طولها، فمنها ما هو قصير شديد القصر، لا يتجاوز بضعة أسطر، ومنها ما هو طويل شديد الطول يستغرق صفحات طوال، من ذلك بعض الرسائل والمقامات الطويلة التي تكاد تكّون كتبا، مثال ذلك (حكاية القاضي واللص) المنتقاة من الطبقات الكبرى
_________
[١] السابق نفسه.
[٢] المحاضرات، الورقة ٢.
1 / 24