مغالطات لغوية: الطريق الثالث إلى فصحى جديدة
مغالطات لغوية: الطريق الثالث إلى فصحى جديدة
اصناف
فماذا كانت استجابة العربية لمناخ العلم؟ انتعشت ونمت وأصدرت المعاجم التراثية وجدد بعضها، وأصدرت معاجم علمية مترجمة، وقد كان يرجى للغة العربية في هذا العهد أن تبلغ درجات الرقي لو أتيح لها أن تكون وتستمر لسان حال النهضة العلمية العصرية، ولكن سياسات الغرب الاستعمارية حالت دون ذلك، فما إن ثبت الاجتياح البريطاني أقدامه في مصر حتى عرقل هذه المسيرة - أولا بتحويل التدريس في مدرسة الطب إلى اللغة الإنجليزية عام 1887، ثم إغلاق مدرسة الألسن ونفي رفاعة الطهطاوي ومؤيديه إلى السودان، وتوجيه البعثات إلى إنجلترا (بدل فرنسا وإيطاليا)، «وما هو إلا عام أو بعضه حتى حذا الأمريكيون في الكلية السورية الإنجيلية حذو البريطانيين، فتحول التدريس فيها، للأسف، من العربية إلى الإنجليزية بدءا من 1890 (بعد حوالي ربع قرن من تدريس الطب والصيدلة والعلوم الطبيعية الأخرى فيها بالعربية بمستوى راق مرموق)، وهكذا حرمت اللغة العربية من فرصتها الذهبية وغرست بذور الشك والريبة في نفوس أبناء العربية بلغتهم - بأهم مقومات أصالتهم وحضارتهم.»
ويوجز الأستاذ حسين أحمد أمين القصة بقوله: «... أغلق باب الاجتهاد في العصر العباسي الثاني، ثم توالت المحن بتدهور حال الأمة، وحال الثقافة عند أبنائها، ثم بالغزو العسكري فالغزو الفكري الأجنبيين، مما تسبب في انحسار ثقة العرب - خاصة من الشباب - بأنفسهم، وبتراثهم ولغتهم ونظمهم، فضعفت حصيلة الشباب من اللغة العربية، وكذا قدرتهم على التعبير بها عما يدور بنفوسهم من مشاعر، وبأذهانهم من أفكار. وقد حرمهم فساد منهج تعليم اللغة العربية في مدارسنا من القدرة على النظر في كتب التراث العربي القديم لعجزهم عن فهم لغتها، فإن نظروا فيها كان ذلك من قبيل الرغبة في التندر على سخافة نظرة الأسلاف، خاصة من جانب المتفرنجين المبالغين في النظرة إلى الغربيين وكأنهم أنصاف آلهة، والمبالغين في التحقير من شأن تراث أمتهم الذي حسبوه المسئول عن التخلف الذي صرنا إليه. وبانقطاع صلتهم بتراثهم وماضيهم، تلاشت القدرة على الاستعانة بالجانب الحي الإيجابي من التراث في مواجهة تحديات المستقبل.»
50
ونعود للدكتور أحمد شفيق الخطيب في بحثه العميق الشائق أمام مؤتمر المجمع، الذي يمزج بين رصانة المادة وحرارة العاطفة، يقول سيادته: «إن العقبات التي كان يقال باعتراضها سبيل التعليم باللغة العربية ممكن التغلب عليها، فقد تيسر ذلك للأتراك مع أن لغتهم أحدث عهدا بالعلوم من اللغة العربية ودونها في غزارة المادة، أليس مؤسفا ومذلا أن الأكثر من عشرين بلدا من بلاد العرب، مفردة ومجتمعة، تتعاجز عن تجاوز صعوبات موهومة في معظمها، في حين نجح في تجاوزها قرابة المائتي بلد في عالمنا اليوم، عدد سكان الكثير منها لا يتجاوز بضعة ملايين؟ قالوا هكذا عن تعليم العلوم بالعربية في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، ثم طبق تعريب هذه المواد في مختلف هذه المراحل ولم ينخفض مستوى تعليم العلوم بسبب ذلك
51 ... كذلك ثبت بطلان هذه المقولة في إنجازات الأطباء السوريين الذين يتابعون دراساتهم في الخارج
52 ... مشكلة الكتب والدوريات والمراجع والمصطلحات العلمية أيضا مشكلة واحدة مترابطة، وهي في الواقع مشكلة كل لغة وليست خاصة باللغة العربية، وإلا ماذا كان يقول الكوري والألباني والبلغاري واليوغوسلافي والإيراني والتركي والخمسون ثقافة التي كانت تؤلف الاتحاد السوفيتي؟ وكلهم طبقوا توطين العلوم واستنباتها بلغاتهم القومية بإمكانات لغوية ومادية وبشرية تتقزم أمام الإمكانات اللغوية والمادية والبشرية العربية. الذين يطلبون توافر الكتب والمراجع والمصطلحات قبل التعريب يضعون العربة أمام الحصان، ويقيني أنهم أدرى الناس بذلك، والتعريب حتى يتجاوز كل ذلك لأنه قضية كرامة؛ كرامة لغة وكرامة أمة. والذين اغتصبوا أرضنا، يا سادتي، ألم يعبرنوا العلوم على اختلافها، والأبحاث بمختلف تقاناتها، بلغة موات؟ باللغة التي أقاموها من العدم، بعد دثور دام عشرين قرنا، فجعلوا منها لا لغة التدريس في شتى العلوم والتقانات فقط، ولا أداة حضارية تقام بها الندوات العلمية في علم الذرة وتقانة الإلكترونيات فحسب، بل جعلوا منها أيضا وسيلة ترابط جامعة أسهمت في خلق الكيان الصهيوني وتوحيد شراذم المهاجرين إليه، المتعددي المشارب واللغات.»
53
في كتابه «في التعريب والتغريب» يتساءل د. محمود فوزي المناوي حول التنفج المتفشي بالكلمات الأجنبية، فيقول: «ويمكن لأي مواطن عندنا الآن أن يلحظ طوفان الكلمات الدخيلة التي يستملحها البعض ويرددونها على ألسنتهم، بينما يوجد لها مقابل أجمل وأوضح في التعبير تتمتع به لغتنا، ولا يعرف أحد على وجه اليقين لماذا يفضلون الدخيل على الأصيل: أهي هجمة «التفرنج» عادت من جديد؟ أم هي اتجاه إلى نبذ أصالتنا وهجر انتمائنا؟»
54
ولعل القارئ الآن قد عرف على وجه اليقين لماذا كان ذلك: لعقدة الدونية المزروعة في أعماقنا منذ قرون وقد اشتد عودها واستوت على سوقها، وجعلتنا بعد رحيل الاستعمار المادي نهفو إلى الاستعمال العقلي وننشده طوعا واختيارا، وننشئ مزيدا من المدارس الأجنبية ومدارس اللغات والأقسام الجامعية الأجنبية، ونحشر فيها الأنبغ والأقدر من أبنائنا ليجري مسخه حثيثا، ونفتح سوق العمل ونمنح أعلى الأجور لمن يجيد الرطانة ويحسن التنفج. «هذا التباعد بين الإنسان العربي الحالي ولغته الأصيلة جعلها عبئا عليه، فراح يتعامل معها كجسم غريب ناشز، أو في أحسن الأحوال كأثر تاريخي يوهم بفخر زائف: أحدهما راح يندب حظها ويرثي مآلها، ثم يتمادى في تثبيت مواقعها في سجون معاجمها وكهوف نحوها، أما الآخر فقد انصرف هربا منها وهو يتخلى عنها سرا وعلانية، إهمالا أو تشويها، حتى ظهرت تلك البثور المتقيحة على وجهها: إما من لغات أخرى أو من لا لغة أصلا. لعل ما آلت إليه حال لغتنا هكذا ليس إلا إعلانا عما آل إليه حالنا كله في أكثر من مجال، هذا الرطان المتقيح يعلن فيما يعلن عن احتمال رطان اقتصادي، ورطان اجتماعي، ورطان سياسي بشكل أو بآخر.»
نامعلوم صفحہ