مغالطات لغوية: الطريق الثالث إلى فصحى جديدة
مغالطات لغوية: الطريق الثالث إلى فصحى جديدة
اصناف
Replication
كما تشاء. فهذا الأجنبي يتقن العربية الفصحى وقد درسها أكاديميا مثلما درسناها في مدارسنا، غير أنه، بحكم ظروفه الجغرافية، لم يعرف العامية ولم يتعرض لها قط، أي أنه خلو من الازدواجية اللغوية (الفصحى/العامية) التي نتحلى بها، إنه يمثل «الفصحى الخالصة» أو المحضة التي لا تتوافر لأي منا من حيث إننا ثنائيون تعرضنا لكل من الفصحى والعامية. مثل هذا الشخص هو وحده من يخبرنا أتكون الفصحى والعامية «لهجتين» أم «لغتين». (2) ثنائية إفقار لا إثراء
ازدواجنا اللغوي إذن ليس كغيره من ضروب الازدواج (لغة الكتابة/لغة الكلام) في اللغات الأخرى، غير أن «ذلك الازدواج لا يعني امتيازا يتمثل في امتلاك لغتين، بل يعني الافتقار إلى لغة واحدة منسجمة مكتملة الحلقات كلغة، بكل ما تعنيه حالة أمة بلا لغة، أو حالة أمة ذات لغة تعاني من الازدواج والانشطار والتشوه.»
7 «العامية ليست لغة مكتملة الحلقات كما أن الفصحى ليست لغة مكتملة الحلقات، ذلك أن الفصحى عاجزة منذ قرون وقرون عن الاستمرار كلغة كلام وحياة يومية. وهي بذلك لغة ناقصة، كما أن هذا النقص، هذا الانفصال عن الحياة اليومية، يفقرها ويحرمها من حيوية الحياة ويجردها من القدرة على التعبير عنها بالحيوية المطلوبة ... والعامية رغم كل التطور الذي حققته والمكاسب التي أحرزتها تظل محرومة من ثروة خبرات الفصحى في التعبير عن الثقافة العربية، فالفصحى هي حامل هذه الثقافة القومية. وهكذا نجد العامية عاجزة، بحكم عدم الممارسة، وبحكم وقف النمو المفروض عليها، عن أن تكون لغة الفكر والفلسفة والأدب ... إلخ، وبهذا يتضح أن الازدواج يعني عدم اكتمال حلقات الحياة اللغوية، وضرب التمكن والإتقان في الصميم، وبالتالي حرمان اللغتين (الفصحى والعامية) من اكتمال صفة الفصاحة الضرورية لكل لغة لتكون لغة بالمعنى الصحيح والكامل للكلمة.»
8
وإذا كانت اللغة هي الفكر أو «دالة الفكر» (دي لاكروا)، وإذا كانت كل أمة تتكلم كما تفكر وتفكر كما تتكلم (هردر)، فإن العقل العربي المشطور بين الفصحى والعامية مهدد بالتشوش والاضطراب وانعدام الوضوح والدقة.
يستهل الأستاذ أمين الخولي كتابه «مشكلات حياتنا اللغوية» بالحديث عن ظاهرة «الازدواج اللغوي» التي تجعل المجتمعات العربية «تحيا وتشعر وتتعامل وتتواصل بلغة يومية مرنة نامية متطورة مطاوعة، ثم هي تتعلم وتتدين وتحكم بلغة مكتوبة محدودة غير نامية، لا تطوع بها الألسنة، وتتعثر فيها الأقلام، وهذا الازدواج اللغوي القهري يصدع وحدتها الاجتماعية ويفرقها طبقات ثقافية وعقلية، وبهذه الوحدة المرضوضة الواهنة تمارس الحياة العملية وهي خائرة التماسك فاترة التعاون إن لم تكن فاقدته ... اللغة التي هي وسيلة كسب المعرفة قد صارت هي نفسها مادة صعبة التعلم سيئة النتائج ... وإذا الكثرة الكاثرة تحيا حياة تئود كل تقدم وتعوق كل نهوض، بسبب من اللغة.»
9
للأستاذ محمد العلائي، وهو من «الأمناء» - تلامذة الشيخ أمين الخولي - نظرات تشخيصية ثاقبة لأدواء العربية، منشئها وأعراضها ومخاطرها المحتملة. يقول في تقديمه لكتاب أستاذه «فن القول»: «لقد كان لطبيعة الشخصية المصرية هذه منذ القدم نتائجها في استقبال المجتمع للغة المفروضة، وفيما يأخذ به نفسه من المداراة والمصانعة، حين يتناول اللغة الوافدة على أنها ضرورية، ويظل يلتوي بها وينحرف، حتى ينتزع من كيانها لباب دلالتها، واضعا مكان هذا اللباب ما يلتئم مع الفطرة المصرية، ويلتقي بملابساتها الإقليمية، مفهوما وإحساسا. ومن أعراض هذه الحكمة المصرية ما حدث للعربية الفصيحة، حين جاءت المصريين محفوفة بسلطان الدين، وسيف السياسة، فتناولتها الروح المصرية المستترة بالملاطفة والمسايرة، حتى أفقدتها خصائصها الجذرية، وأفعمتها من ذات شخصيتها وأجوائها؛ ما أدى إلى انشعاب العربية إلى لغتين: عامية وفصيحة، وانزواء الفصيحة مكتفية بظاهر من الحياة في أجواء البيئة التعليمية، وفي الرسميات المفروضة على الملكات والألسنة، تاركة للعامية خصائصها المرهفة، في رصد الأعماق الشعبية، وفي تسجيل النزعات المتراجعة إلى هذه الأعماق، بما تحمل من آلام وآمال، وجعلت أمواج العامية والفصيحة تلتقي وتتنافر، وتتقارب وتتدافع، حتى أصبح الكيان المصري، في هذه الحالة الأخيرة، على وضع فني ممسوخ، لا يتميز بلون ولا طعم ولا رائحة، وأصبح الفن القومي على وضعه ذلك يستقبل الحياة من نوافذ العقل بلغة تغاير كل المغايرة وتختلف كل الاختلاف مع هذه اللغة التي يضطر إليها حين يعبر عما استقبل من نوافذ الحياة، وتلك هي المحنة القومية البالغة، التي أمسكت بالفن المصري وأصابته بالتيبس والجمود، وحالت بينه وبين أسباب النشاط، التي من شأنها أن تعمل على خلق الإحساس بالكرامة القومية، وتنمية العقيدة التي تحمي هذه الكرامة، وتتكفل بتنظيم وسائلها، وتشخيص مقوماتها، وتكون مسئولة أمام الوعي الجماعي عن استرخاء الملكات الفنية وميوعة الضمير.»
10 (3) انسداد طرق التطور
نامعلوم صفحہ