فأسرعنا المسير، ولما وصلنا إلى البركة - منزل للحاج في الطريق الشرقي - تلقيت أمرا من القائد العام الأمير علي بن الحسين (جلالة الملك علي) يخبرني به أن الأمير فيصل في مضايقة شديدة بينبع، وأنه هو بذاته ينتظر كل آن هجوم فخري باشا عليه أو مروره على طريق خلص إلى مكة؛ ولهذا يشير آمرا إياي بالرجوع إلى مكة ومنها يأمرني أن أغذ السير إلى عسفان لتشكيل جبهة جديدة تدافع عن مكة؛ ويقول إن لم أفعل هذا فربما قطعت علي خط الرجعة، فيضمحل الجيش بدون أي خدمة.
ولما كنت أعلم جيدا أن في تنفيذ هذا الأمر انفراط أمر العشائر، عزمت على الآتي: فبعثت الشريف فوزان الحارث بألف وخمسمئة هجان مردوفة، وأمرته بألا يصبح إلا وهو قد احتل حجر واستأصل حسين بن مبيريك. وبعث بجوابي لجلالة الملك علي الذي يحمله إلى رابغ ويخبره بأن لا حجر ولا ابن مبيريك بيد الترك وينتظره هناك. وبعثت الشريف عبد الله بن ثواب الحارثي بمثل تلك القوة إلى المدينة المنورة وأمرته بأن يشن الغارة على مخافر الترك بجبل وعيرة وجبل أحد، وأن يوقد نيرانا كثيرة بالجبال والمرتفعات ويكثر الصياح، وأن يأسر كل محتطب أو ذا حاجة أو تاجر من تجار نجد ممن يخرج من المدينة أو يدخل إليها، وأن يطلق سراح الراجعين إلى المدينة بعد أن يتحقق من هوياتهم، وأن يزودهم بكتب إلى العشائر بغربي المدينة ممن التحق بالأتراك والشريف حيدر ويهددهم بالصياح إذا هم لم يتراجعوا إلى الأميرين بينبع ورابغ ويقول إنه في مقدمة الجيش الشرقي وقد نفذ ما عليه، كأن حجر قد احتلت في الوقت المعين.
وتوجهت أنا بالقوة الأصلية إلى ناحية الحناكية - موقع معروف شمال المدينة المنورة بشرق - فأقمت بها ثلاثة أيام والتحقت بي هنالك كل عشائر هتيم وحرب. وكانت القوى عشرين ألف راكب، فتوجهت بها نحو الغرب لأعبر السكة الحجازية ما بين محطتي أبا النعم وهدية. وفي طريقنا بالحرة كدت أقع أسيرا بيد الأتراك لولا عناية الله؟ وهو أنني تقدمت ومعي هجانان لشدة الحر يومئذ وللتخلص من وعورة الحرة، وإذا بقاع صحصح فيه دوحة عظيمة إلى جنبه غدير أفيح، فأنخت وأمرت بشيء من القهوة في انتظار قدوم العيون - عيون القوة - فكان كل من رآني هناك ينيخ، وأخيرا ولتأخر القوة وحملتها قررت أن تكون هذه الدوحة منزلة الظهيرة. وكان عندي حينذاك الشريف شاكر بن زيد وخالد بن لؤي والشيخ ناهس الذويبي شيخ مشائخ حرب.
وبينما أنا جالس معهم دخل رئيس عشيرة ولد، محمد رجا بن خلوي، وأشار إلي بأنه يريد محادثتي فقمت إليه، فأشار إلى تل لا يبعد عنا بأكثر من خمسمئة متر وقال: هل ترى هذا التل؟ قلت: أراه. قال: إن به قوة تركية. قلت: كيف؟ قال: اسمع من هذا الغلام. وإذا بغلام يفع تتقد عيناه يقول لي: يا سيدي عان الترك عانهم انظر إلى الترك انظر إليهم ! قلت: كيف؟ قال: «إنني وأخي زمالان للشيخ رجا بن خلوي، ذهبنا في مقدمة القوم نحتش حشيشا فألقى الترك القبض علي أنا وأخي، وقال كبيرهم لنا من أنتما ومن هؤلاء القوم؟ فقلت أنا مبادرا: هؤلاء هتيم وشيخهم سمران بن سمرة ونحن منهم قد بلغه أن الشريف عبد الله نزل الحناكية فرحل عن طريقه لاجئا إلى خيبر. فقال: لا تكذب، فقلت: ولم الكذب أطلقني إن أردت واحتبس أخي وأنا آتيك بسمران بن سمرة؛ فاحتبس أخي وأطلقني. ولكن عان يا سيدي الترك عانهم»! فقلت: هل رأيت كثرتهم؟ قال: هم كثير ولكن نحن أكثر، ابعث بي أدل القوم.
فانتحيت ناحية وقسمت الخيل إلى ثلاثة أقسام: القسم الأوسط مع قائدهم الشيخ هوصان بن عفار، والأيمنين على أخيه الشيخ راقي بن عفار، والأيسرين على الشيخ عبد الله بن مسفر، وأمرتهم أن يحيطوا بهذه القوة وأن يوغلوا إلى ما وراءها حتى يقفوا على حقيقة الحال: هل لهؤلاء من مدد أو قوة كاملة؟!
فتوجهت الخيل، ثم بعثت بمشاة العشائر من اليمين بقيادة الشريف خالد بن منصور، وبعشائر هذيل بقيادة الشريف فائز الحارث، وبعثت بعشائر ثقيف وابن الحارث وهذيل الشام بقيادة الشريف شاكر بن زيد من الميسرة فتبعوا الخيل؛ ولم تمض إلا دقائق حتى كان الاشتباك الشديد، وإذا برشاشاتهم تلعلع ومتفجراتهم ترعد فينعكس صوتها بين حلي الحرة وهضابها، فلم يقف إنسان بمحله بل حملوا حملة صادقة فأبادوا القوة التركية بأجمعها، وأتوا بقائدها الأميرالآي أشرف بك وأتوا بالمدافع وبالرشاشات وبغنائم لا تحصى وبهدايا إلى الأمير ابن رشيد وإلى الأمير ابن سعود وإلى إمام اليمن، ومن جملة الغنائم ثمانية وثلاثون ألف جنيه ذهبا عثمانيا ومن الأطعمة المجففة وسائر البسكوتات فأغنانا أياما عن الزاد ولقد كنا في حاجة شديدة حتى إلى الملح.
فسرنا، ولم نقم، لنعبر السكة قبل أن تأتي قوة تركية تمنع العبور ونحن في مفازة قتالة. ثم احتلت قواتنا ما بين هدية وأبا النعم، الخط إلى آبار أبا الحلو غربي السكة، واستمر العبور أربع ساعات ونصف على ثمانية خطوط. ثم اقتلعت أعمدة البرق وانتزعت قضبان السكة. وقد كتب أشرف بك مصيره في تقرير غلف ووضع على قضبان البرق. وكتبت أنا كتابا إلى فخر الدين باشا أقول له بأنا أسفنا على ما وقع على أشرف بك وحملته وعجبنا من بعثكم هذه القوة بهذه الأموال في بلاد ثائرة، وقلت إن الثورة قد انتقلت إلى ما بين الشام والمدينة.
وعليه فقد تراجع حالا هو من ينبع النخل ومن وادي الصفراء ومن بئر سعيد إلى بير درويش؛ وهذا جناحه الأيمن الذي كان يعمل ضد الأمير فيصل رجع من بير قاظي وسطح الغاير ومن برام وعبود إلى غدير مجز ومجزان إلى آبار علي، وهذا جناحه الأيسر الذي كان يعمل ضد الأمير علي تراجع أيضا، وتقدمت فنزلت بوادي العيص بربيعان، وكررت على الخط الحديدي أهاجمه ليل نهار، فتحررت قوة الملك فيصل واتجهت عن طريق الساحل إلى الوجه، وقد كان بيد الأتراك. وكان قائمقام القضاء في الوجه صديقنا العزيز عبد السلام بك كمال أحد أفراد دار كمال المعروفين بالقدس، وكان عثماني المذهب شديد التمسك بالترك، وهي مزية يشكر عليها لاعتقاده بأنها واجبة عليه. وكان معه - كقائد للمقاطعة - الأميرالآي أحمد بك على القوة النظامية العثمانية، وكانت مركبة من مدفعية ساحلية وبطارية جبل وطابور أفراده ألف ومئتا جندي غير الجندرمة. وقد كان بالوجه هجانة من عقيل أهل نجد مركبة من ثمانمئة هجان.
ولدى نزولي بوادي العيص كتبت إلى هؤلاء العرب أنصحهم بالانضمام إلى الثورة العربية قبل أن ينالهم التنكيل، فوردت أجوبتهم بالموافقة. وبعد أن استلموا معاشاتهم تركوا الأسلحة حيث هي وخرجوا ثم التحقوا بالثورة كأفراد وإن هذه المزية أيضا يشكرون عليها.
ولقد تقدم الملك فيصل من الساحل فاستولى على (أملج). ثم ضرب الأسطول البريطاني الوجه. وعند وصول أوائل قوى الملك فيصل، تراجع القائم مقام والأميرالآي بقواتهما إلى العلا، ودخل جيش الملك فيصل الوجه بدون مقاومة تذكر. ثم كتبت إلى عشائر عنزة وعلى رأسها الشيخ فرحان الأيدي والشيخ شهاب الفقير. أما ابن رفادة، شيخ الوجه وأحد رؤساء بلي، فقد فر والتحق بأحمد جمال باشا في الشمال.
نامعلوم صفحہ