وتوضأ أبوها ليصلي، وكانت سعاد قد نسيت الصلاة، فذكرها أبوها بها وقال لها إن الله سوف يرضى عنها وينجحها إذا صلت وأطاعت الله، وطاعة الوالدين من طاعة الله.
وانتظمت سعاد في الصلاة مرة أخرى، وبدأت تحبس نفسها في حجرتها وتجلس إلى مكتبها الصغير وتحفظ الدروس، لكنها ما أن تسمع صوت الأطفال تحت النافذة حتى تقفز وتجري لتلعب معهم في الحقل.
حركة جسمها وهي تجري تبعث فيها اللذة، وتشتد اللذة حين تمسك الفأس وترفعه عاليا في الهواء ثم تهوي به على الأرض في ضربات قوية ، وتلك البذور الصغيرة التي تدفنها في التراب وترويها بالماء، فإذا بها بعد بضعة أيام تبرز فوق الأرض خضراء ناعمة، تلمسها بأطراف أصابعها، وفي كل يوم تراها تنمو وتكبر وأوراقها الخضراء تحت أشعة الشمس تلمع وتهتز كأنما ترقص، وتغوص بيديها في طين القناة لتصنع فتحة تجري فيها المياه من القناة لتروي الزرع الأخضر، ويراها أبو صبري فيقول لها: يا ست سعاد، ملابسك اتسخت بالطين، وأبوك سيغضب منك ويضربك، اذهبي يا بنتي وذاكري دروسك واتركي هذا العمل القذر لنا نحن الفلاحون، وتقول سعاد إنها تحب هذا العمل عن المذاكرة، ويقول لها صبري إنه يود ألا يشتغل في الحقل ويذهب إلى المدرسة ويقرأ ويكتب، ويصبح موظفا محترما وليس فلاحا فقيرا، وتقول له سعاد إنها تحسده؛ لأنه لا يذهب إلى المدرسة ولا أحد يقول له يا حمار، ولا أحد يحبسه داخل الحجرة أو داخل الفصل ويجري طوال النهار في الحقل الواسع مع الحمام والعصافير، يحرك ذراعيه وساقيه تحت الشمس، ويملأ صدره بالهواء المنعش، ويقول صبري إنه مستعد لأن يبادلها حياته، فيأخذ أباها الموظف ويعيش في البيت النظيف، وينام في السرير تحت البطاطين ويأكل البيض والدجاج ويذهب إلى المدرسة ويرتدي الحذاء والبدلة، وتذهب سعاد لتعيش في كوخهم الطيني على حافة النيل، وتنام على الأرض، وتأكل المش الحراق، وتأخذ أباه الفلاح الذي يسير حافيا ويرتدي الجلباب الممزق والطاقية الجرباء.
ولم تكن سعاد تتصور أن أباها يمكن أن يكون فلاحا فقيرا، وكانت تتصوره مأمورا أو وزيرا أو حتى ملكا، لكنها كانت تكره المدرسة وتكره أن يحبسها أبوها في حجرتها لتذاكر، وتحب الحقل وفحت الأرض بالفأس وتحريك ذراعيها وساقيها والجري فوق أرض واسعة.
وفي يوم ذهبت مع صبري إلى بيتهم الطيني على حافة النيل، ورأت أمه بجلبابها الطويل الأسود تعلوه بقع الطين، وأخوته الصغار أردافهم عارية، مغطاة بالطين، وأنوفهم وعيونهم سائلة ومغطاة بالذباب، والبيت ليس بيتا فيه حجرات، ولكنه حجرة واحدة سقفها من الطين والبوص وأرضها تراب، وأشار صبري إلى ركن في الحجرة وقال لسعاد: أنا أنام هنا ، وأتغطى بهذه الزكيبة في الشتاء، ولم تعرف سعاد ما هي الزكيبة، لكنها رأت شوالا فارغا من الخيش، نفضه صبري من التراب وفرشه على الأرض قائلا: تفضلي اجلسي يا سعاد، وقالت أمه وهي تجفف يديها السمراوين المشققتين في جلبابها وتمسح العرق عن وجهها الطويل النحيل: يا مرحب يا ست سعاد.
قبل أن تنام سعاد تلك الليلة، وإلى جوارها أمها تربت عليها بيدها البيضاء السمينة وجسمهم الناعم الأبيض داخل قميص نوم حريري، وسريرها دافئ، وهي راقدة تحت البطاطين الصوفية، حمدت الله بينها وبين نفسها لأن الله لم يجعلها مكان صبري، وكانت قد نسيت وهي تتأرجح بين النوم واليقظة المدرسة والمذاكرة والامتحان وكل شيء.
لكن ما أن تشرق الشمس، ويلمع الزرع الأخضر تحت الأشعة الذهبية كأنه يرقص، ويرفرف الحمام بأجنحته في الهواء، وتلمح صبري من النافذة مشمرا عن جلبابه يضرب الأرض بالفأس، أو يروي الزرع ويحرك يديه في ماء القناة أو يجري وراء الحمام ويحرك ذراعيه وساقيه في الهواء، حتى تتململ سعاد وهي جالسة إلى مكتبها تذاكر، وتحس بجسدها محشوا بين المقعد والمكتب، والخشب يضغط على بطنها من الأمام وظهرها من الخلف، وقدماها وساقاها لا تتحرك، ثابتة تحت المكتب كأنما مقيدة بالحديد، ولا شيء فيها يتحرك، وعقلها أيضا لا يتحرك، عيناها ثابتتان فوق الأرقام أو الكلمات، تحفظ شكلها، وتصنع لها ذيولا لتربطها بعضها بالبعض فيسهل حفظها، فهي تبدو لها أرقام متفرقة، وكلمات لا يربط بينها شيء، وقواعد غير مفهومة، وتضاريس في الشرق والشمال والجنوب والغرب، وحوادث منذ قرون في بلاد لا تعرفها، وملوك وغزوات ومواقع لا أول لها ولا آخر، وقواعد النحو والإعراب والممنوعات من الصرف والمبني للمجهول ونون النسوة وجمع التكسير.
وكان أبوها قد أحضر لها مدرسا خاصا بالبيت، يهز رأسه وهو يقرأ قواعد النحو كأنه يرتل القرآن، ولسانه ثقيل، ويغمض عينيه ويفتحهما ثم يغمضهما ويفتحهما، وهو يردد: أأأأ فهمت؟ وتقول سعاد: لا، ويربش المدرس بعينيه قائلا: ليس من الضروري أن تفهمي، عليك بالحفظ!
وفي المدرسة، كان المدرس يقف بجوار السبورة وفي يده العصا الطويلة المدببة أو يمر بين الصفوف يلسع التلميذات والتلاميذ على ظهورهم، وهو يقول: انتبه يا ولد أنت وهو، وانتبهي يا بنت أنت وهي، وتلتقط أذنا سعاد المدرس وهو يتكلم عن بلد اسمها الصين، والصينيون بنوا حول الصين سورا كبيرا، وهم يربون دود القز ليصنع لهم شرانق الحرير، وتتذكر سعاد دود القز الذي تشتريه أحيانا وتضعه في صندوق من الكرتون، وبضع ورقات من شجرة التوت، وتثقب جدار الصندوق عدة ثقوب ليدخل الهواء ولا يموت الدود، وكان الدود يزحف داخل الصندوق ويصعد حتى الحافة محاولا الخروج، لكن سعاد تهز الصندوق فيسقط الدود مرة أخرى إلى القاع.
وفجأة لسعها المدرس على ظهرها وهو يسألها: لماذا بنى الصينيون السور الكبير حول الصين؟ وانتصبت سعاد واقفة وهي تقول: حتى لا يهرب دود القز إلى بلد أخرى، فلسعها المدرس عدة لسعات أخرى.
نامعلوم صفحہ