10 يوليو
لنا الآن يومان على البحر تحيط بنا دائرة الأفق فوقنا وأسفل منا زرقة السماء وزرقة الماء ... نحن في وحدتنا تتهادى بنا الباخرة فوق الامواج ولا تسمع الأذن سوى كلام المسافرين الهادئ الساكن ورغاء الماء يشق عبابه حيزوم قاربنا الهائل، وتطلع الشمس والناس في مراقدهم ثم ترتفع ويتلقف الموج شعاعها ويتقاذفه حتى يفنيه وسط اللجة العظيمة، وتغرب وهم يتجهزون لطعامهم فلا يعنى بمغربها منهم جائع، ثم ندخل بكلنا تحت غطاء الليل ينفرد على الوجود وتتلألأ فيه النجوم.
ذلك ما نرى من يومين طويلين حتى اعتادت العين المنظر والسمع هذا الوش الدائم، ولم يبق أمام الحواس ما يستدعي الالتفات أو يشغل الضمير، نعيش في هدأة كاملة، أكبر ما يهمنا أن نقوم للطعام وأقصى أمانينا أن نفرد مقعدنا في مكان ظليل، فنمد فوقه سيقاننا ونسند إليه رأسنا وننظر بعين نصف مغمضة إلى الفضاء الذي أمامنا، ونترك أنفسنا خالدة إلى سكونها ناعمة في ذلك التخدر اللذيذ الذي يجيئها به نسيم البحر.
ما أحلى هذه الحياة الفارغة من كل الهموم وما أطيبها! يمر علينا الوقت في مقعدنا هذا أو جالسين إلى جانب أصدقاء يحكون لنا عما سنرى ولا نحس بمره ... نمسك أحيانا كتابا فلا يجذبنا شيء مما فيه لأنه مهما كان لذيذا لا يساوي عيش السكون الذي يغمرنا.
نجاهد أحيانا أن نغير هذا العيش ونبدله ببعض النشاط فندور فوق القارب من جانب لجانب، ولكن ما أسرع ما نرجع إليه إذ لا شيء يعوضنا عنه.
اليوم عينه منتصف الليل
أسمع ضجة في الخارج ... ترى ماذا عساها تكون؟ ...
ها مينا نابولي تختفي عن الأنظار ويبتلعها الليل في جوفه العظيم، تركت صالون الباخرة ساعة سمعت الضجة وأسرعت أرى سببها فإذا الناس ينظرون إلى بعيد ويتساءلون: «شايف ... شايف»، فوقفت على أطراف أصابعي فلم أتبين شيئا لأن الواقف أمامي أكثر مني طولا وأعرض أكتافا، وكلما حولت رأسي إلى جهة مال هو الآخر برأسه نحوها، وأخيرا علمت أنها باخرة عند خط السماء، فغيرت من ذلك المنظر المتشابه الذي اعتدناه من ساعة غابت الإسكندرية عنا وأدخلت إلى الجو العظيم الصامت شيئا من معنى الحياة والحركة.
ازدادت الضجة ارتفاعا حينما لمعت عند الأفق بشائر الأرض، وجعل كل يقص على بعض ما يعرف عن نابلي، ولم يك إلا قليل حتى رأينا قارب صياد يتلاعب به الموج وصاحبه فيه ساع يريد أن يكسب من بين مخالب الموت قوته، فلما اقتربنا منه ودفعت الباخرة عن جانبيها تضاعف الموج قوة وفظاعة فجعل القارب يختفي ويظهر بين طيات الماء، والصياد في جوفه مطمئن اطمئنان المترف في رياشه، ناظر إلينا وإلى مختلف ما نلبس بعين هادئة اعتادت هاته الأشكال حتى صارت مبتذلة عندها، وكأنه يقول لنا وقد اجتمعنا نحدق به إنما العيش عادة تصبنا في قالبها الأيام، فلا نعبأ بما فيه مهما كان شديدا إذ قد طال ما ألفناه.
في الفترة التي أخذها الصياد تجلت المدينة تحت الشمس الساطعة، وهبطت حركة الباخرة حين دخلت المينا، ثم إذا إنسان يصيح كأنه غريق يستغيث، فما أسرع أن جاء راكب ممن معنا فوقف إلى جانبي وأخرج من جيبه قطعة من النقود قذفها بعيدا عن الرجل كما يقذف الإنسان إلى الكلب لقمة العيش أو قطعة السكر، وكالكلب أسرع هذا العاري فالتقط القطعة بفمه، ووجدت أنا من السرور لنفسي أن أعمل ما عمل صاحبي فألقيت قطعة سقطت في الماء فسقط وراءها وخرج بها بين أسنانه وجعل يصيح من جديد، والتف الركاب يتلهى الإنسان بالضحك من أخيه الإنسان.
نامعلوم صفحہ