Quai d’Orsay ) ومحطته، ولقد كنا في طريقنا نرى الشوارع المسدودة والطرق علا فيها الماء فيأخذنا الهول، لكن ذلك لم يكن شيئا إلى جانب هذه المحطة ارتفع فيها الماء فلم يبق ظاهرا منها سماء ولا أرض إلا سلك التلغراف يمر من فوق الماء...
وعند ذلك المنور الذي يطل منه الإنسان على الوهدة الأرضية موضع الحركة الدائمة ومسير القطارات التي تخرق أرض المدينة يقوم فنار السكة الحديد ولا يزال منيرا، وكأنه بلونه الأحمر يبكي دما على هاته الأماكن التي أغار عليها الطوفان فأخرس صوتها، وقد شاهدها هو من قبل مكان العمل وموضع ضجة النازحين والقافلين من أهل باريس وفرنسا، كم كانت تزعجه بالأمس صيحات العمال أو تستبكيه دمعات المودعين، فإذا به اليوم ينعي ذلك الصمت المطلق بعد أن خان المكان صوته واختنق بعبرته!
استمررنا في طريقنا والضجة هي الضجة والزحام هو الزحام، وعلى طول الشاطئ يرى الإنسان المستطلعين خبر النهر، ومن بينهم العمال لم يبق لهم من عمل ينظرون بحنق وأسى وغيظ وحزن وتهيج واستسلام إلى ذلك الذي ربط أيديهم عن العمل وتركهم وكأنهم كسالى، وهم ما عرفوا للكسل اسما ولا وجدوا إليه يوما طريقا، وظللنا في مسيرنا حتى وصلنا برج إيفل، ولم يكن الماء ولكن امتلاء الشارع بالماء حجزنا عن إتمام ما نريد واضطررنا لنتخذ طريقا آخر، فصعدنا سلما عاليا جدا أنهكنا، وبعد سير طويل رجعنا إلى الشاطئ ثانية.
ولقد جعلت أتردد من يوم لآخر بعد ذلك لأرى من شأن النهر، وما أحدث وجدد، ولقد ألحق بالبلد أضرارا جمة، فقضى انقطاع الشوارع بانقطاع المواصلات فبطل عمل المتروبوليتان (سكة حديد تحت الأرض) وتعطلت التراموايات والأمنوبيسات والأوتوبيسات، وعزت العربات فلا يسهل وجودها، كذلك انقطع عمل بعض التياترات بانقطاع الكهرباء عنها، وهبط عدد الزوار في التياترات العاملة، كما هبط وارد البلد من المطعومات.
30 يناير 1910
ومن أعظم الأضرار التي حدثت دخول المياه إلى (بدرونات) المخازن الكبيرة كاللوفر والبرانتن، ولقد رأينا طولمبة ترفع من مخازن اللوفر مياها غزيرة كثيرة لا شك أنها أتلفت قسما كبيرا من البضائع.
ولم تختص باريس بأذى النهر، فقد حصل في الضواحي ضرر أكبر هز من إحساس الناس، ودفع رئيس الجمهورية أن يزورها ليرى المنكوبين يرتعدون في البرد ويطلبون المعونة، فيمد إليهم يد مساعدة تعينهم على كبير نكبتهم بعد أن انهدمت بيوتهم وانتبذوا بالعراء.
هذه هي المصائب التي أصابت باريس هذا العام، مصائب تألمت لها نفوس بني الإنسان فساعدوا المنكوب وخففوا بذلك من عظيم ألمه لوقع المصاب .
10 فبراير
الحمد لله، الحمد لله ألف مرة ... ما أشنع الحال حين تكون باريس خالية من الكهرباء والغاز، حقيقة باريس مدينة النور وهي من غير النور كالحة، انقطعت الكهرباء والغاز على أثر فيضان السين فدخلت البلد - بلد الليل - في حزن ولبست الحداد، فكنت تمر أمام قهوة فترى المصابيح والشموع بلونها الأحمر الدامي كأنها تبكي على أيام العز التي ابتعلها النهر في جوفه، وكنت تذهب في الشوارع الكبيرة عند الأوبرا فيخيل لك أنك تسير في مقبرة بعد إذ كنت لا تراها خالية لحظة من الحركة، والحمد لله عادت الكهرباء وعاد الغاز وعاد إلى باريس نورها.
نامعلوم صفحہ