169

مذكرات الشباب

مذكرات الشباب

اصناف

نزلت حيفا سنة 1914 وزرت دير الكرمل، وكانت حيفا في سنة 1914 من البلاد العثمانية التي تطلعت ألمانيا لبسط نفوذها في الشرق من طريقها؛ لذلك كانت مملوءة بالألمان وواقعة تحت نفوذهم.

وكأن الذكرى تدعو الإنسان للعود إلى الأمكنة التي سار من قبل فيها ليشهد ما صنع الزمان بها، وليرى إن كانت قد تغيرت بمقدار ما تغير، فنزل الأكثرون من ركاب السفينة ونزلنا معهم، ما أكبر الفرق بين الأمس واليوم! نزلت ورفيقي في سنة 1914 فلم يسألنا أحد من أنتم ولا فيم تنزلون، أما اليوم فيجب أن تودع جواز سفرك لدى عامل الجمرك الذي جاء إلى السفينة خصيصا لهذا، ومقابل إيداعك الجواز يناولك العامل ورقة تسمح لك بالمرور، فإذا عدت رد العامل جوازك إليك وضمن بذلك مغادرتك الديار، وهذا الفرق في المعاملة سببه ما دفعت الحرب إلى نفوس السواد من الثورة على كل نظام قائم، فرجال الحكم يريدون أن يطمئنوا إلى أن النازلين لا يقصدون إلى الإقامة في بلادهم، وإلى أن من قصد منهم إلى الإقامة ليس من محركي الثورات ولا من المهيجين، وهم يحرصون اليوم على ما لم يكونوا بالأمس يحرصون عليه لأسباب شتى، فنفوس أهل الأمم المختلفة لا تزال تملأها عوامل البغضاء منذ الحرب، لا يزال الإنكليزي ينظر إلى الألماني بعين الحذر، ولا يزال الفرنسي ينظر إلى الألمان بعين المقت، ولا يزال الألماني ينظر إليهما جميعا بعين الكراهية، وليست الأمم التي كانت متحالفة أيام الحرب لتخلو من النظر إلى بعضها البعض الآخر بعين الحقد، ففرنسا وإنكلترا تتنافسان النفوذ في الشرق وتخشى كل واحدة منهما أن تدس الأخرى لها الدسائس وأن تضع في سبيلها العقبات والعراقيل، وليس هذا كل السبب في مراقبة المهاجرين، بل ليس هو معظم السبب، فقد كانت الأمم تتنافس قبل الحرب وكانت تدس الدسائس، ولكن الهيئات الحاكمة كانت مطمئنة إلى أن قوة نفسية الأهلين وحرصهم على استتباب النظام واستمساكهم ببقائه كل ذلك كفيل بضياع آثار الدسائس سدى وببقاء الأمن والسكينة في البلاد، أما اليوم فالنظام القائم موضع النقد من كل إنسان، لا يرضاه الذين أصيبوا أثناء الحرب في ثورتهم وجاههم وصاروا فقراء بعد أن كان لهم الأمر والنهي، ولا الذين رفعتهم الحرب من أماكن الضعة إلى حظ من الثروة أحلهم محل الاحترام وجعلهم يرون ما أوتوا قليلا إلى جانب ما قاسوا من قبل، هؤلاء تدفعهم غلظة طبعهم للانتقام من ذوي الحسب والأصل القديم وممن لا يزالون بحكم الطبيعة سادة الوقت وإن لم يكونوا في منصة الحكم، كذلك ترى الدول لا يطمئن بعضها إلى بعض، وترى الأفراد لا يطمئنون إلى نظام الحكم، وترى الحكومات لا تطمئن إلى سكينة الأفراد؛ ولذلك كانت الرقابة وكان الحرص على مضايقة الحرية.

نزلنا حيفا وسلكنا السبيل إلى دير الكرمل، والدير يقع على ارتفاع عشرة ومائة متر فوق سطح البحر فيما أخبرنا أحد قساوسته، والطريق إليه اليوم هو الطريق الذي كان سنة 1914 ولم يغيرونه، وكان أثناء الحرب يتسع للأوتموبيل المدرع ولما هو أكبر من الأوتموبيل المدرع، تسير فوقه العربة صاعدة إلى الدير فإذا الجبل من يمينك والوادي عن يسارك وكأن الجبل والوادي هذه السنة أقل بهاء منهما في سنة 1914، ولعل أكبر السبب لذلك أنا صعدنا إلى الكرمل سنة 1914 والشمس منحدرة إلى المغيب يلذ ضوؤها العيون وتدع أشعتها نسمات الهواء تحرك أغصان الشجر وتتلاعب بأوراق النبات وتبعث إلى النفس مسرة تزيدنا حبا للحياة ولما فيها، أما اليوم فقد ذهبنا إلى الكرمل والشمس صاعدة إلى عرش الزوال والضوء حاد والأشعة قاسية والهواء ساكن ... ذلك في ظني أكبر السبب، وهو ليس بالعجيب، فالجبل والوادي صورة أمام العين، والصورة يزداد لدينا جمالها وينقص بمقدار ما ينبعث عليها من ضوء وعلى قدر ما في نفوسنا من استعداد للمتاع بالجمال.

جبال حيفا جرداء لا ترى عليها من النبت ولا من الشجر إلا القليل، وسفوحها فيما دون الطريق إلى الكرمل أكثر خضرة وبهاء، تنمو عليها بعض أشجار التوت والزيتون، وبطن الوادي سهل منحدر إلى الشاطئ تقوم فوقه أنواع من الزرع متجاور مختلف ألوانه.

تعبر في طريقك إلى الدير بابا كبيرا، تقف بك العربة عنده حتى تدفع رسم مرور العربة قرشين ونصف القرش يتقاضاها رجال الدير لينفقوا على الدير ومجاوراته منها، فإذا بلغت الدير وجدت تلقاءه نصبا أقيم فوق رفات قتلى الحرب من الحلفاء ذكرى لمجد الحرب ومجازرها، ووجدت إلى جانب الدير كنيسة وإلى جانب الكنيسة منزلا يأوي إليه الرهبان، وإلى جانب المنزل فندقا ينزل فيه حجاج من ذوي الورع والتقى.

دخلنا الكنيسة مع راهب نيف على الستين ممتلئ صحة أحمر الوجنات أبيض الشعر خاشع الطرف رضي النفس لين الكلام، وكنيسة الكرمل صغيرة رشيقة فيها من الضوء أكثر مما اعتادت الكنائس، وينحدر إليها النور من نوافذ ركبت في أعلى الجدار، وزانتها صور قدسية نقشت الزجاج تحكي أساطير المسيح المنجى والعذراء المضحية، وأنت إذ تتخطى باب الكنيسة المقابل لنصب شهداء الحرب تجد نفسك في فناء يبلغ ستة أمتار في خمسة، وترى إلى يسارك في هذا الفناء بابا هو باب منزل الرهبان، ثم تعدو درجة فإذا بك وسط الكنيسة، وإذا أمامك صورة العذراء وصورة المسيح تحف بهما الشموع وهما في بريقهما الذهبي مثال الخشوع والخضوع، وليس هذان النقشان كل ما في مذبح الكنيسة من إبداع، بل لقد نظمت حولهما من الأوعية والآثار المقدسة ما يكل الطرف عن الإحاطة به لأن قداسة مكان مقدس تحول دون تحديقك بدقائقه وبخاصة إذا كان عليك من راهب أو قسيس رقيب، ولأن قداسة الأماكن المقدسة تشتملها دائما ظلمة لا تبدد منها الشموع إلا بمقدار يزيدها قداسة، وليس من شأن الظلمة أن تجلو ما اشتملت، بل يكل النظر خلالها كلاله عند التحديق بنور الشمس الساطع الوهاج.

وليس مذبح كنيسة الكرمل قائما فوق سطح الأرض، بل هو يعلو كهف شعيب! وكهف شعيب نقر في جبل الكرمل لأكثر من تسعمائة سنة خلت، وقد بنيت الكنيسة وبني إلى جانبها الدير لتحل بهما بركات ذلك الكهف وساكنه.

ولست تستطيع إذ تنحدر إلى ما تحت المذبح على ثلاث درجات غير منتظمة أن تميز في ظلمة الكهف شيئا، وليس بك من حاجة لاختراق حجب تلك الظلمة، فهي ظلمة منيرة للمؤمنين وإن كانت داجية، وهي لغير المؤمنين قتام لا يحوي غير صخر ينطوي خلاله القبر القديم.

وخرجنا من الكنيسة بعد إذ تفضل الراهب الهرم فقص علينا طرفا من تاريخها، وسرنا فإذا حول الدير والكنيسة والمنزل والفندق وحشة الجبل يؤنسها إيمان أولئك الرهبان، ويعمرها بعض أشجار الجوز والخروب والصنوبر انتشرت متباعدة بعضها عن بعض، وأردنا أن نوغل في الجبل فخيل لنا أنه موحش كله، لكنني علمت بعد إذ أقمت بلبنان زمنا أن عند قمته مدفعا ضخما، وأن لهذا المدفع قصة، فقد استولى الحلفاء أيام الحرب على حيفا، وتراجع الأتراك وضباطهم من الألمان خلا الجندي القائم على هذا المدفع الذي أبى أن يتراجع وظل يصب الموت على المهاجمين حتى صمت صوته وصوت مدفعه.

وشققنا طريقنا وسط المدينة عائدين إلى الباخرة، ومررنا بحانوت ألماني يتكلم لغة أهل البلاد كأنه منهم؛ ذلك بأنه ولد في حيفا وكان يأمل مع الألمانيين أن تكون حيفا مصدر النفوذ على الشرق الأدنى والمتسلطة على سكة حديد بغداد والمهددة للهند وللهند الصينية.

نامعلوم صفحہ