167

مذكرات الشباب

مذكرات الشباب

اصناف

ولما قاربت لجنة الدستور الانتهاء من عملها فكر عدلي باشا وأصحابه ومن بينهم أعضاء لجنة الدستور في تأليف حزب الأحرار الدستوريين وفي إنشاء جريدة السياسة، وكان الدفاع عن الدستور قبل صدوره وبعد صدوره هو الفكرة الأساسية التي تألف الحزب من أجلها، ودعيت يومئذ لرئاسة تحرير السياسة فلم أتردد في القبول لأني رأيت هذه الفكرة الجليلة من أشرف ما يدافع الإنسان عنه.

وكذلك انتقلت في هذه السنوات العشر من الدكتور هيكل المحامي بالمنصورة غير المسؤول إلا عن نفسه وعن عمله إلى الدكتور هيكل المحامي بمصر والمسؤول عن أهله وولده والأستاذ بالجامعة المصرية، وإلى الدكتور هيكل رئيس تحرير السياسة، وإذا صح ما قاله أناتل فرانس من أن الإنسان إذ ينتقل من حياة إلى حياة يموت حياة ليحيى حياة أخرى فقد ماتت لي في هذه السنوات العشر حيوات عدة واستبدلت بها حيوات عدة كذلك، ولست أدري أي هذه الحيوات خير، وقد تكون كلها متعادلة إن كانت تطورات نفسي واحدة في أطوار مختلفة.

بعد سنتين انقضتا في رئاسة تحرير السياسة شعرت بإجهاد شديد؛ لأنني شعرت لهذا العمل منذ توليته بمحبة شديدة ، وليس أشد إجهادا للنفس من حب العمل الذي يقوم الإنسان به، ينسى الإنسان نفسه فيه فلا يفكر في صحته ولا في طعامه ولا في نعمة الحياة ومسرتها؛ لأن الحب يحتل من النفس محل الصحة والطعام والنعمة والمسرة جميعا، شعرت بالإجهاد وجاء على أثر الإجهاد المرض، ثم عقب المرض نزال السياسة والحكومة في ساحة القضاء حين رفعت الدعوى الأولى التي اتهمت الحكومة فيها السياسة بإهانة هيئة مجلسي النواب والشيوخ، وفيما كانت هذه القضية منظورة كان التحقيق جاريا في قضية جديدة، تلك دعوى النيابة أن السياسة قذفت رئيس الوزراء وأهانت هيئة الوزارة وحضت الناس على كراهية نظام الحكم إلى غير ذلك من الادعاء، ولما انقضت الدعوى أمام القضاء جرت النيابة في تحقيق جديد هو نشر السياسة محضر تحقيق القضية الأولى، وجرت كذلك في التحقيق مع سعادة حلمي عيسى باشا عن مقالاته التي نشرها في السياسة، وباشرت تحقيقات جديدة مع صحف أخرى، وخيل للناس جميعا أن النيابة قد أعدت عدتها ليكون محرر السياسة معها في كل يوم للتحقيق معه.

وكنت قد اعتزمت السفر إلى لبنان للاستراحة من جهد العمل قبل أن تبدأ النيابة هجومها، فلما امتد خط ذلك الهجوم تمهلت حتى فرغت النيابة من تحقيقاتها، ثم خشيت أن أطلب جواز سفري وأن أحدد موعده فتطلبني النيابة للتحقيق في عشيته.

فوسطت من كلم النائب العمومي فعلمت من وسيطي أنه خاطب سعد باشا زغلول رئيس الحكومة مباشرة، وأن الأخير رأى أن ليس لي أن أسافر وضد السياسة قضيتان وأبدى - كما علمت - أنه على استعداد لحفظ القضيتين إن أنا اعتذرت عما نشرته السياسة من أن سعد باشا تداخل في الانتخابات التكميلية لمجلس النواب، وصرحت بأن الخبر مكذوب، ولما كنت أعلم صحة الخبر الذي نشرته السياسة لم أقبل التكذيب وعمدت إلى طلب جواز السفر وحددت موعده، وأعددت نفسي لنزال جديد مع الحكومة، لكن الحكومة لم تتعرض لي، ولست أدري أكان عدم تعرضها لأنها لم تعلم بسفري أم كان منها حرصا على الدستور والقانون أم أنها خشيت أن تظهر بمظهر المتعنت من غير أي مبرر للعنت؟.

وكذلك استطعت أخيرا أن أغادر مصر في يوم الثلاثاء في 29 يوليو سنة 1924 بقطار الساعة الحادية عشرة صباحا قاصدا بورسعيد لأبحر منها إلى لبنان على الباخرة الإيطالية كارينوليا من بواخر اللويد تريستينو.

وصلنا بورسعيد الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان في انتظارنا أصدقاؤنا المقيمين بها، وعلى الرغم من أن الباخرة لا تقوم قبل الساعة الثامنة مساء فضلنا الذهاب توا إليها هربا من حر المدينة وطلبا لهواء البحر نستنشقه بضع ساعات قبل السفر، ولم يكن على ظهرها حين وصولنا إلا سيدة وابنتها وخادم.

كارينوليا باخرة صغيرة تبلغ حمولتها مائتين وخمسين ألف طن، وهي من البواخر التي تجوب شواطئ الشرق الأدنى على مهل؛ لأنها كما تنقل المسافرين تنقل المتاجر وتتسع لها أكثر من اتساعها لهم، وغرف الدرجة الأولى فيها قديمة النظام تسع كل واحدة منها ثلاثة من المسافرين، وصالونها الذي وضع به البيانو لا يمكن لأكثر من أربعة أشخاص أو خمسة الجلوس فيه، وغرفة المائدة المجاورة للصالون متسعة فوق سطح الباخرة وقد مدت فيها ثلاث مناضد طويلة حول كل منها أربع وعشرون مقعدا، فأما المنضدة الوسطى فكان يجلس إليها قبطان الباخرة والمتقدمون من رجالها، وأما اليمنى عند اتجاهك لحيزوم الباخرة فكان يجلس إليها العائلات، وكان يجلس باقي المسافرين إلى المائدة الثالثة.

وكنا نجلس إلى المائدة اليمنى، وكان معنا عائلات من السوريين واللبنانيين المقيمين بمصر، وكان لهذه المائدة مظهر ظرف؛ أن كان أكثر الذين يجلسون إليها من الأطفال ومن الشبان الذين لم يتجاوزوا سن الحلم، ولم يكن عليها من الرجال إلا ثلاث، المسيو عطا الله والدكتور سامي كمال وأنا.

وقد اخترنا المكان المجاور للدرج الهابط إلى (الكابين) حتى إذا أصيب أحدنا بدوار البحر كان على مقربة من مرقده، لكن اختيارنا لم يكن ذا فائدة لأن الباخرة كانت تسير كل يوم في المساء بعد أن يفرغ الناس من طعامهم، وكانت تقف في الصباح وتظل واقفة يومها ولا تعود للسير إلا مساء، وبذلك لم يكن أحد يشعر بأنا على سفر، بل كنا جميعا نرى أنها أشبه (بالكازينو) أو (بالبير) في عرف الإنجليز، ولو أن صالونها أو غرفة التدخين بها كانا أكثر سعة، ثم لو أن السطح لم يكن ضيقا بمقدار لا يتسع لمقعد طويل لكان شعورنا هذا معبرا عن حقيقة لا مجرد خيال ووهم.

نامعلوم صفحہ