مذكرات بكوك

عباس حافظ d. 1378 AH
138

مذكرات بكوك

مذكرات بكوك

اصناف

وعندئذ أخرج المستر بكوك رأسه من النافذة؛ فإذا هو يبصر حقا مركبة وأربعة جياد، على مسافة قصيرة منهما، وهي مندفعة في سرعة بالغة.

وقال الشيخ بصوت يكاد يكون صراخا: «تقدما، تقدما، جنيهان لكل منكما، لا تدعاهما يسبقاننا، هلما، احرصا على اللحاق بهما.»

وكانت الخيل المسرجة في المركبة الأولى قد شرعت تعدو بأقصى السرعة، ومركبة واردل تنهب الأرض في إثرها نهبا، ولا تلوي على شيء.

وصاح الشيخ الغضوب قائلا: «إني أرى رأسه - لعنه الله - إني لأرى رأسه!»

وقال المستر بكوك: «وأنا أيضا، هذا هو.»

ولم يكن المستر بكوك مخطئا، فقد كان وجه المستر جنجل الذي غمره الوحل المتطاير من العجلات ظاهرا للعين من شرفة المركبة، وحركة ذراعه التي كان يلوح بها بعنف صوب السائقين لتشجيعهما واحتثاثهما على زيادة السرعة.

وكان الموقف قد استحمى واستحر، وبدت الحقول والأشجار وأسوار العوسج تمرق من أمامهما بسرعة «الدوامة»، وشدة انطلاق المركبة واندفاعها، حتى دنت من جانب المركبة المستبقة، وكان صوت جنجل في تلك اللحظة غالبا على أصوات العجلات، وهو يستحث الغلمان، واشتد غضب الشيخ، وثارت ثائرته، وذهب يزأر شاتما لاعنا عشرات الشتائم واللعنات ، صارخا: «أيها الأوغاد، أيها المجرمون!» جامعا قبضة يده، ملوحا بها، يهزها في الفضاء هزا لذلك المستهدف لغضبه، ولكن المستر جنجل لم يجاوز في الرد على هذا الوعيد أكثر من الابتسام المستخف، والجواب عن هذه التهديدات بصيحات المنتصر، حين انطلقت خيله مستجيبة لمهوى السياط المتزايدة، ووخزة المهماز في الخاصرة، في سرعة متجددة، تركت المطاردين في إثرها متخلفين.

وما كاد المستر بكوك يدخل رأسه من النافذة، ويفعل المستر واردل مثله من الجهد والتعب بعد ذلك الصياح الشديد، حتى حدثت رجة عنيفة طوحت بهما فوق مقدم المركبة، وتلتها خبطة فجائية، وصوت تهشم شديد، وانطلاق عجلة من مكانها، وانقلاب المركبة رأسا على عقب.

وبعد بضع ثوان في ذهول واضطراب بالغين، لا يتبين خلالهما غير اندفاع الخيل، وتحطم الزجاج، شعر المستر بكوك بأيد تجذبه من تحت أنقاض المركبة، ولم يكد يستوي على قدميه، ويستخرج رأسه من أطراف معطفه الفضفاض الذي حال في الواقع بينه وبين الانتفاع بمنظاره، حتى بدت النكبة واضحة لعينيه.

ورأى الشيخ واردل حاسر الرأس، طارت القبعة من فوقه، ممزق الثياب في عدة أجزاء منها، واقفا بجانبه، وبقايا المركبة متناثرة عند قدميه، وأما الغلامان فقد استطاعا بعد جهد قطع «السيور» والحلقات التي تربط الخيل، ووقفا بجانب رءوسها، تعلوهما الأوحال، ويلوحان أشعثين أغبرين من عناء السفر، ومجهدة الركوب.

نامعلوم صفحہ