إن الموت الذي عاجل كبار الرجال ومشاهير القادة والكتاب قبل أن تنضج مجهوداتهم «واخد بالك» قد محى بيده الحقيقة فقضى على مجهودي قبل أن أتمه .
نجوتم من يدي يا سادتي من زبائن وزبونات، وطويت مذكراتي، وهي الحافلة بالحوادث والعظات، وحال بينهم وبيني قضاء وقدر، حال بينهم وبيني عجل يطوي الأجل وبأجرة أيضا، وإلى القراء ما حدث: قدر فكان، ومكتوب على الجبين تراه العيون، ونزلت بي الكارثة التي تهدد الجميع ستصيبهم واحدا فواحد، ما دامت البقية الباقية من أوتوموبيلات السلطة العسكرية تسير بلا وعي على مبدأ لا أتوموبيل إلا أنا، والحكومة تاركة الحبل على الغارب وحضرات السواقين يلعبون بالنار، ويتسابقون كأنهم في مضمار، لا يأبهون لآدمي أو جماد وأصحاب الامتياز لا يهمهم إلا ملأ الجيب، وعلى الله التساهيل.
شوارع أصبحت كلها «مطبات»؛ لأن الحمل الذي يسير عليها ثقيل لا يحتمل، والتنظيم «مش ملاحق» يصلح، وحوادث الاصطدام ضايقت حتى عزرائيل فلخمته.
لقد رأيت بعيني رأس يوما من الأيام يلمس الترام فيوقفه ثم يخرج من حدود الشارع إلى رصيف قهوة بعابدين فيصدم بالعامود الحامل لأسلاك الترام، وأخيرا يقف، وكل هذا أين؟ أمام قسم عابدين!
الله وحده يعلم عدد الضحايا، ومجهود الإسعاف وقصر العيني إذا وقع سلك الترام، فنسف وحرق في ثوان أرواحا وأبدانا.
وها أنا أكتب إليكم هذه المذكرة التي ربما كانت الأخيرة، وأنا على سريري بقصر العيني، وقد بتر لي ثلاث أصابع من يدي اليمنى، وعملت لي عملية في رجلي، مع أن آخر ما أذكره قبل أن غبت عن الوجود قول أحدهم لي وأنا بين الانتباه والإغماء «شد حيلك يا بو محمود، سليمة».
ولست أدري كيف تكون المسألة سليمة، وقد قتل في «تكاتيكها» جوز خيل، وتهشمت العربة، وبترت أصابعي، وعملت لي عملية في رجلي، بل ماذا كان يوده القائل أن يحدث لتكون المسألة غير سليمة.
وهذه هي الحادثة بدون تهويش ولا تهويل كما كتبت في المحضر، وكما عرفها موكلي محامي العمال الأستاذ كامل بك حسين ليطالب لي بتعويض عما أصابني من الضرر والتكسير «والخضايض».
حدث يوم الجمعة أنني أوصلت بدرا من بدور النحس، فأصابني رشاش نحسه المدرار، وكان ذلك في أنحس ساعة من أنحس يوم جمعة مع أنحس زبون.
ركب معي من وصلت إلى محطة حلوان، فبانت لي بوادر نحسه في الطريق، إذ كبت الخيل وكدنا نضيع أمام ملف البنك الأهلي مع أتوموبيل «أيضا» ووصلنا أخيرا، فأعطاني الأجرة وأنا أتأمل شاربيه وكيف فتلا، وإلى الطربوش وكيف استوى على ذلك الرأس النحاسي فوق شعره الحجري اللامع، لم تلامس كفي كفه؛ لأن جو البيك البارد جعله يلبس «قفازا» في هذا الصباح بالرغم من شدة الحر، والله أعلم ماذا كان ملاقيني أكثر من ذلك إذا كنت لامست يده!
نامعلوم صفحہ