وفي ظني أني تغلبت على أزمة السكر بوقوفي هذا الموقف تجاه شركة السكر ثم بمبادرتي باستيراد كميات كبيرة من السكر من الخارج لكفاية الاستهلاك المحلي. وقد وافقتني لجنة التموين العليا على ما عرضته عليها من استيراد خمسين ألف طن من السكر ورد بعضها أثناء وجودي بالوزارة وورد البعض بعد خروجي منها.
وقامت في عهدي مشكلة أخرى وهي أسعار الأقمشة التي تنتجها شركات الغزل والنسيج المصرية؛ فقد كانت تشكو من مزاحمة الوارد من الأقمشة الأجنبية وتطلب زيادة الرسوم الجمركية على هذه الواردات حماية للإنتاج المحلي . وقد وافقت ضمن من وافقوا من الوزراء على هذه الحماية بزيادة التعريفة الجمركية على الأقمشة الواردة من الخارج، ولكني اشترطت أن تتعهد الشركات بألا تزيد في المستقبل من أسعار الأقمشة الشعبية التي تنتجها. وقد تعهدت بذلك، وأشير إلى هذا التعهد في المذكرة التي أقرها مجلس الوزراء في 4 سبتمبر سنة 1949. على أن مندوبي هذه الشركات قد قابلوني في أواخر أكتوبر وطلبوا مني الموافقة على زيادة هذه الأسعار زيادة تتناسب مع ارتفاع أسعار القطن، فرفضت ذلك وذكرتهم بتعهدهم السابق، وبقيت الأسعار كما هي. وأظن أن هذه الشركات وغيرها قد اغتبطت لخروجي من الوزارة في 3 نوفمبر سنة 1949 حيث استقالت الوزارة الائتلافية؛ فقد قرأت بعد أسبوعين في صحيفة «المقطم» بالعدد الصادر يوم 19 نوفمبر خبرا تحت عنوان: «ارتفاع أسعار الأقمشة الشعبية بدون مبرر» جاء فيه أن شركات الغزل والنسيج رفعت أسعار منتجاتها في الأسبوع الماضي. وبعد أن ذكرت الصحيفة مقدار الزيادة في كل صنف من هذه المنتجات، أضافت إلى ذلك قولها: وقد علمنا بعد كتابة ما تقدم أن هذه المصانع قد أعلنت صباح أمس (18 نوفمبر سنة 1949) أسعارا جديدة تزيد على الأسعار التي أشرنا إليها بمقدار 5٪.
وتساءلت الصحيفة: «هل عند الحكومة أو المسئولين فيها علم بذلك، وهل وافقت أو وافقوا على هذه الأسعار الجديدة التي سيتحملها المستهلك فوق ما يتحمل من أعباء جسام؟ وهل هذا يتفق وتصريحات المسئولين كل صباح ومساء عن مكافحة الغلاء وخفض الأسعار؟»
وفي يقيني أني لم أكن متجنيا على الشركات الصناعية عامة في منعها من زيادة أسعار منتجاتها؛ لأن هذه الزيادة لم يكن منشؤها الموازنة بين التكاليف والأسعار كما تدعي بل الرغبة الملحة في زيادة أرباحها. وقد أشرت إلى هذه الحقيقة في مناقشة سياسة حكومة الوفد نحو الغلاء بمجلس الشيوخ؛ إذ قلت بجلسة 8 مايو سنة 1950 إن شركات الغزل والنسيج لم تحترم تعهدها في سبتمبر سنة 1949 وإنها رفعت أسعار منتجاتها من الأقمشة أكثر من 30 «ثلاثين» في المائة عما كانت عليه في ذلك التاريخ. وقارنت بين أرباح هذه الشركات من واقع تقاريرها عن سنة 1949 وبين أرباح شركات الغزل والنسيج في إنجلترا، فوجدت أن متوسط أرباح هذه الشركات في تلك السنة بلغت 15٪ من رأس مالها في حين أن أرباح شركات الغزل والنسيج في مصر في نفس هذه السنة بلغت 37٪. وقلت إن من واجب الحكومة أن تحد من هذه الأرباح لتكون في مستوى أرباح الشركات في بريطانيا، وأن القانون رقم 95 لسنة 1949 الخاص بشئون التموين يخول الوزارة هذا الحق، ولكن وزير التجارة والصناعة غنام باشا عارضني في هذا الرأي. (3) روح الائتلاف
لم أجد في الوزارة الائتلافية ما كنت أنشده وأنتظره من إشاعة روح الائتلاف بين أعضائها، بل رأيت تنافرا شديدا بين مختلف الكتل الممثلة فيها. وقد أسفت لهذه الحالة وعددتها من نقائص حياتنا السياسية. وطالما أفضيت لبعض زملائي في الوزارة أن يكبحوا جماح الحزبية العنيفة وأن يبذلوا جهودهم في تدعيم الائتلاف لأنه تجربة تشهدها البلاد بعد سنوات طويلة من التناحر والشقاق. وقلت لهم إن الأمة قد اغتبطت بهذا الائتلاف اغتباطا كبيرا وأملت من ورائه خيرا كثيرا وأنها ترقب في لهفة نجاح هذه التجربة، فإذا فشلت فإن الأمة ستكون معذورة إذا تزعزعت ثقتها في الأحزاب وفي كفاءتها وقدرتها بل وإخلاصها. وبالرغم من أني كنت أسمع تحبيذا لآرائي من زملائي فإن تيارات الشقاق كانت تفعل فعلها في هدم الائتلاف، وساعد على ذلك لهجة بعض الصحف؛ إذ كانت تعمل على خلق الأسباب والذرائع لفضه. وكان الخلاف على أشده في تقسيم الدوائر الانتخابية وتوزيعها. ويبدو لي مما كنت أشاهده أن الوزراء السعديين لم يعملوا على نقض الائتلاف بل كانوا يسيرون في فلكه، وكذلك الوطنيون، وكذلك أيضا شأن الوفديين في بداية عهد الوزارة. ورأيت الثورة على الائتلاف تبدأ من معسكر الأحرار الدستوريين، والعجيب في هذا الصدد أن أغلبية وزرائهم كانوا ميالين إلى بقاء الائتلاف ولكن الأقلية الصاخبة قد تغلبت على الأغلبية الهادئة.
وكان يمكن لرئيس الوزارة أن يتغلب مع ذلك على تيارات الشقاق ويعيد إلى الائتلاف كيانه؛ لأن عقبات جوهرية قد تخطتها الوزارة واجتازتها بسلام، ولم يكن بقي سوى عدد قليل من الدوائر الانتخابية اشتد عليها الخلاف بين الوزراء الوفديين والأحرار الدستوريين. وقد وافقت اللجنة الوزارية الموكول إليها تقسيم الدوائر على تحكيم رئيس الوزراء في أمر هذه الدوائر، ولكن لسبب لا أعرفه تنحى رئيس الوزارة عن قبول هذا التحكيم، ولو أنه قبله لانتهى الخلاف على الدوائر المعدودة التي كانت مثار الخلاف. ويبدو لي أن عاملا جديدا ظهر في محيط الوزارة وعجل بسقوطها قبل أن تتم مهمتها، وهو أن الوزراء الوفديين أخذوا يتنكرون للائتلاف ويعملون على إسقاط الوزارة لتحل محلها وزارة محايدة، وتلك كانت أمنيتهم بل أنشودتهم القديمة.
ولعمري ليست التشكيلات الوزارية هي جوهر الموضوع، وإنما أدعو الله من كل قلبي أن تصفو نفوس المواطنين وتخف حدة ما بينهم من خلاف وشقاق؛ لأن أمام البلاد من الأعباء ما يستدعي أن نواجهها بجبهة متحدة، وأن وحدة الكلمة هي من أقوى الأسلحة في تحقيق أهدافنا القومية.
إخراجي من مجلس الشيوخ
أبريل سنة 1951
في سنة 1950 وسنة 1951 وقفت من حكومة الوفد في مجلس الشيوخ موقفي من كل وزارة، وهو تأييدها فيما تحسن ومعارضتها فيما تسيء، وهذه هي الخطة التي رسمتها لنفسي في الحياة البرلمانية. ولكن هذا الموقف لم يرض وزارة الوفد لأن الوفد لا يريد إلا الخضوع والإذعان. وقد نبهني إلى ذلك بعض أصدقائي، ولفتوا نظري إلى أن مدة عضويتي بالمجلس تنتهي في مايو سنة 1951 وسأدخل الانتخاب في التجديد النصفي للمجلس؛ فمن الحكمة أن أكف عما أسميه «المعارضة النزيهة»؛ لأن هذه المعارضة ستجلب لي المتاعب التي لقيتها منذ سنة 1924 وربما أقصتني عن الحياة البرلمانية. ومع أن النصيحة كانت من الوجهة العملية معقولة، لكني لا أدري لماذا لم أقتنع بها، وكل ما تملكني أن النيابة في نظري رسالة لا حرفة، يجب أن يؤديها عضو البرلمان بكل إخلاص ونزاهة؛ ألم نقسم اليمين المرة تلو المرة علنا في البرلمان أن نؤدي أعمالنا بالذمة والصدق؟
نامعلوم صفحہ