وأما فيما يتعلق بالقسم الثاني ألا وهو منع السودانيين المخلصين، وكلهم فيما أظن مخلصون لنا، راضون عن حكمنا، راغبون في بقائنا بالسودان كإخوان لهم، معتقدون أن بلادهم جزء لا يتجزأ من مصر، أقول إن هذه الإجراءات مستنكرة، ونعلن لجهات الاختصاص بصفتنا حكومة وبصفتنا مجلس نواب استنكارنا لما يكون صحيحا منها واحتجاجنا عليها، وإني لمغتبط بأن لكم في هذه الوزارة ثقة تامة وأن تتخذ ما في وسعها لحفظ حقوق مصر في السودان.»
وانتهت المناقشة بتقديم اقتراحين، أحدهما مني، وهذا نصه: «على أثر التلغراف الذي ورد إلى مجلس النواب من الوفد السوداني الذي عزم على الحضور إلى مصر للإعراب عن ولاء السودانيين لمصر وتمسكهم بالارتباط بها، وعلى أثر الأنباء الواردة من السودان عن المناورات المصطنعة التي يقصد منها الاعتداء على حقوق مصر والسودان، يعلن المجلس عطفه على السودانيين جميعا لتمسكهم بارتباطهم الوثيق بمصر ويعلن استنكاره للمناورات المصطنعة التي يقوم بها دعاة الاستعمار في السودان، ويعلن تمسك الأمة المصرية بمبدئها الخالد وهو أن السودان جزء لا يتجزأ من مصر.»
والثاني من حسين بك هلال، وهذا نصه: «بعد سماع التصريحات الحكيمة التي أبداها حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء بخصوص الإجراءات غير الشرعية القائمة الآن في السودان للسعي في فصل السودان عن مصر، يكرر المجلس ثقته التامة بالوزارة ويطلب الانتقال لجدول الأعمال.»
فوافق المجلس بالإجماع على الاقتراحين معا.
وأصدر مجلس الشيوخ احتجاجا بهذا المعنى بجلسة 25 يونيو سنة 1924. (2) تصريح الحكومة البريطانية عن السودان في مجلس اللوردات
وعلى أثر تصريحات سعد باشا في مجلس النواب بجلسة 23 يونيو قامت مناقشة بمجلس اللوردات عن السودان يوم 25 يونيو، وصرح اللورد بارمور نائب الحكومة في هذا المجلس قائلا: «إن الحكومة البريطانية لا تترك السودان بحال، وهي تقدر التعهدات الواجب تحملها والتي لا يمكن تركها من غير أن تصاب سمعة إنجلترا بخسارة عظمى، وأستطيع أن أقول من غير تردد إن نظام السودان لن يسمح بتغييره ولا أن ينفذ ذلك التغيير من غير موافقة البرلمان.»
فظهر من هذا التصريح أن وزارة العمال لا تختلف عن غيرها في سياستها الاستعمارية في السودان. وقد رد سعد على هذا التصريح في مجلس النواب (بجلسة 28 يونيو سنة 1924) ضمن خطبة قال فيها: «إني بالنيابة عن الشعب المصري جميعه وفي حضرتكم الموقرة أصرح بأن الأمة المصرية لا تتنازل عن السودان ما حييت وما عاشت (استحسان وتصفيق طويل)؛ فهي تسعى للتمسك بحقها ضد كل غاصب، ضد كل معتد. تتمسك بهذا الحق في كل فرصة وفي كل زمن. تسعى بكل طريق مشروع سلكه كل مهضوم الحق لأجل أن تحفظ هذا الحق وتصل إلى التمتع به، وإن كنا في حياتنا لا نصل إلى أن نتمتع بحقنا فإننا نوصي أبناءنا وذريتنا أن يتمسكوا به ولا يفرطوا فيه قيد شعرة، وهكذا يوصون هم أبناءهم وأبناء أبنائهم، ولا بد أن يأتي يوم يفوز فيه حقنا على باطل غيرنا. إن حقوق الأمم لا تضيع ولا تتأثر بمجرد أن يقول الغاصب إني أريد أن أتمتع بها دون أصحابها، كلا، ليست هذه طبيعة الوجود، بل كل حق يبقى حيا ولا يموت ما دام وراءه مطالب، ونحن ما دمنا مطالبين بهذا الحق، وما دمنا نوصي أبناءنا بالتمسك به، وما دام أبناؤنا يقتفون خطواتنا فلا بد أن نتمتع به نحن أو هم إن شاء الله تعالى (تصفيق).»
إلى أن قال: «أما فيما يتعلق بالمفاوضات؛ فقد جاء في هذه التصريحات: إنها ستكون على أساس تصريح 28 فبراير سنة 1922.» وقد صرحت غير مرة بأنني أستنكر هذا التصريح، استنكرته خارج الحكومة، استنكرته في البيان الوزاري، استنكرته في كل مناسبة، ولا أزال أستنكره إلى الآن، وأقول إنهم وإن قالوا إننا نتفاوض على قاعدة تصريح 28 فبراير سنة 1922، فوزارتنا لا تقبل بحال من الأحوال أن تتفاوض على أساس هذا التصريح. ولقد سبق أن قلت لكم إني إذا لم أجد طريقة للمفاوضة على غير هذا الأساس فإني لا أدخل في المفاوضات أصلا، وأنا عند قولي، وقلت لكم أيضا إني إذا لم أصل إلى هذا فإني أتخلى عن الحكم، وأنا مستعد لهذا التخلي (أصوات: أبدا، حاشا) هذا ما عزمت عليه والرأي لكم (تصفيق متواصل).»
وقد عقبت على خطبة سعد بخطبة قلت فيها: «أرى واجبا علي أن أبدأ كلمتي بتوجيه جزيل الشكر والثناء إلى دولة الرئيس الجليل على تصريحاته التي فاه بها اليوم؛ لأنه عبر بهذه التصريحات عن شعور الأمة، عبر تعبيرا صحيحا عن تمسكها كل التمسك بحقوقها كاملة. سادتي: نحن في صراع مع السياسة الإنجليزية، ولسنا منخدعين في تلك السياسة ولا معتقدين البتة أن هذا الصراع ينتهي في ساعة أو في يوم، وهذا الصراع سيطول وقد يطول طويلا، ولكننا ما دمنا متمسكين بالحق فإن هذا الصراع لا بد أن ينتهي بفوز الحق وخذلان الباطل (تصفيق). وما التصريحات السياسية التي تلقى في مجالس النواب إلا سهام يتراشق بها المتخاصمون كما يترامى المتقاتلون بالقنابل في ساحة القتال؛ فهذه التصريحات التي فاه بها الساسة الإنجليز أخيرا في مجلس اللوردات إنما هي سهام يقصد منها أن تثبط من عزائمنا، ولا غرض لرجال السياسة الإنجليزية سوى ذلك، ولقد لجئوا إلى هذه الطريقة في كل مناسبة قويت فيها الحركة الوطنية؛ فإنكم تذكرون أنه عندما قامت حركتنا في سنة 1919 سمعنا في مجلس العموم ومجلس اللوردات تصريحات خطيرة أشد من التصريحات الأخيرة، ومع ذلك لم تكن تلك التصريحات القديمة لتفل من عزمنا بل تخطيناها وسرنا إلى الأمام بعزيمة صادقة ولم نكترث لها ولم نعبأ بها.» إلى أن قلت: «والآن أقول لكم إنه إذا كان الإنجليز يعتقدون أننا ضعفاء أمامهم فإن لنا قوة معنوية لا تنكر، وإننا إذا كنا ضعفاء ماديا فنحن أقوياء معنويا، ولقد برهن التاريخ على أن القوة المعنوية للشعوب تستطيع أن تهدم كل قوة مادية تعترضها. ولنذكر جميعا أن المصري هو مادة العمران في السودان، فلا يمكن بقاء العمران هناك إذا انقبضت الأيدي المصرية عن العمل؛ فقد قال لي خبير في شئون السودان عاد منه أخيرا: إن الإنجليز لا يستطيعون أن يقيموا مشروعات الري في السودان إذا لم يستخدموا العمال المصريين والأيدي المصرية، وقد جربوا مرارا أن يستخدموا عمالا صوماليين أو هنودا أو يمانيين أو جنودا فلم يستطيعوا أن يقيموا هذه المشروعات ولا أن يستمروا في العمل، والتجئوا أخيرا إلى عمال مصر وجنود مصر. ففي يدنا قوة معنوية؛ في يدنا أن نعمل عملا سلبيا وهو ألا نساعدهم على أن يعملوا ضد مصلحتنا وضد مصلحة السودانيين في تلك البلاد، وفي هذه الحالة لا أظن الإنجليز يتجاهلون قوة مصر المعنوية. أنا لا أقول إننا نلجأ إلى طرق العنف والثورة، ولكن في يدنا قوة سلبية أمضى سلاحا من طرق العنف، وقد تكون هذه القوة هي السر في تلك الحقيقة التاريخية التي أجمع عليها المؤرخون وهي: «إن وادي النيل مقبرة الفاتحين من قديم الزمان» (تصفيق)، وإن هذه القوة هي مصداق الحديث الشريف: «مصر كنانة الله في أرضه فمن أرادها بسوء قصمه الله» (تصفيق).» (3) تلاحق الحوادث
على أثر إخفاق محادثات سعد-مكدونالد (سبتمبر-أكتوبر سنة 1924)، ثم استقالة سعد في 15 نوفمبر سنة 1924، فاسترداد استقالته، ثم مقتل السردار السير لي ستاك باشا في 19 نوفمبر؛ فالإنذارات البريطانية، فاستقالة سعد نهائيا، اجتمع مجلسا النواب والشيوخ في مساء 24 نوفمبر سنة 1924 في جو مضطرب مكفهر، وأعلن سعد في كلا المجلسين استقالة الوزارة واستعداده لتأييد كل وزارة تشتغل لمصلحة البلاد. وقرر مجلس النواب في تلك الجلسة الاحتجاج على تصرفات الحكومة البريطانية، وعهد بوضع صيغة الاحتجاج إلى لجنة ألفها المجلس من أربعة أعضاء وهم: الوكيلان حمد باشا الباسل وأحمد محمد خشبة بك «باشا»، والأستاذ مكرم عبيد «باشا»، وأنا، فوضعنا صيغة الاحتجاج، وأقره المجلس بالإجماع، وهذا نصه: «إزاء الاعتداءات الأخيرة التي وقعت من الحكومة البريطانية ضد حقوق الأمة المصرية وسيادتها ودستورها يعلن مجلس النواب: «أولا»: تمسكه بالاستقلال التام لمصر والسودان اللذين يكونان وطنا واحدا لا يقبل التجزئة. «ثانيا»: أنه بالرغم من استنكار الأمة ومليكها وحكومتها وبرلمانها للجرم الفظيع الذي ارتكب ضد المأسوف عليه السير لي ستاك باشا سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام، وبالرغم مما قدمته الحكومة من الترضية وما اتخذته من الوسائل الفعالة لتعقب الجناة وتقديمهم إلى العدالة؛ فإنه لمما يؤسف له كل الأسف أن الحكومة البريطانية رأت أن تستغل هذا الحادث المحزن لقضاء مطامعها الاستعمارية والاعتماد على قوتها المادية للانتقام من أمة بريئة تعتمد على قوة حقها وعدالة قضيتها، فلم تقتصر على مطالبها البالغة حد الإرهاق فيما يتعلق بالجريمة نفسها بل تعدت هذه الدائرة وذهبت إلى المطالبة بسحب الجيوش المصرية من السودان، وإلزام الوحدات السودانية من الجيش المصري بحلف يمين الولاء لحاكم السودان، والتصريح بزيادة مساحة الأطيان التي تستغلها الشركات الاستعمارية البريطانية في السودان من 300 ألف فدان إلى ما لا نهاية له، وعدول الحكومة المصرية عن كل معارضة لرغبات الحكومة البريطانية فيما تدعيه من حماية المصالح الأجنبية في مصر، إلى آخر ما جاء في التبليغات الإنجليزية، ثم نفذت فعلا ما توعدت به وزادت عليه احتلال جمارك الإسكندرية معلنة أنه أول التدابير التي تنوي اتخاذها. ولما كانت هذه التصرفات منافية لحقوق البلاد لما فيها من الاعتداء على استقلالها والتدخل في شئونها والعبث بدستورها وتهديد حياة البلاد الزراعية والاقتصادية فضلا عن أن هذه الاعتداءات ليس لها أي علاقة بالجريمة ولا نظير لها في التاريخ.
نامعلوم صفحہ