فعلينا أن نعالج الشعب في رفق وهوادة؛ فإن الشعب معذور، وهو سهل الرجوع إلى الحق، ولا ينقصه في ذلك إلا النصح والزمن الكافي، وصدق الإرشاد، واستمساك مرشديه بالمثل العليا واتباعهم الآية الكريمة:
فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر . فعلى من يتطوعون لإرشاده وقيادته أن يكونوا له دعاة للهدى وأن يظلوا له ناصحين مرشدين، لا طغاة مستبدين، ولا حكاما متجبرين.
وقفت على تفاصيل الحوادث الدامية التي وقعت بالمنصورة في يوم 18 مارس وما يليه، وعرفت أسماء الشهداء الذين قتلوا في تلك الأيام العصيبة، وأدركت أن أهلهم، على الرغم من الحزن الذي تملكهم لفقد أعز الناس لديهم، فإنهم قابلوا مصابهم بالصبر والجلد وبروح من الاعتزاز بأنهم ساهموا بأشخاص شهدائهم في التضحية في سبيل الوطن، فأكبرت فيهم هذه الروح العالية التي كانت مظهرا من مظاهر التبدل في الروح العامة للشعب.
زوجتي
هي «عائشة» بنت خالي محمد المعايرجي. تزوجت بها سنة 1920 في إبان الثورة، وكنت في الحادية والثلاثين من عمري، وكان لزواجي بها قصة ...
فقد كنت مترددا بين الزواج والعزوبة، هل أتزوج أم لا أتزوج؟ وأخيرا رجحت عندي فكرة الزواج لأنه الحالة الطبيعية العادية للإنسان في المجتمع. ولم أر ما يدعوني إلى أن أشذ عن هذه الحالة الطبيعية. ثم جاءت المرحلة الثانية، وهي التفكير في أي البيئات أختار منها زوجتي.
وكان لي صديق صدوق يخلص لي النصح، ويسدي إلي نصائحه بين آن وآخر. فقال لي يوما دون أن يعلم بتفكيري في الزواج: «لي رأي أود أن أبديه لك.» قلت: «وما هو؟» قال: «إنك في حاجة إلى نقطة ارتكاز في حياتك السياسية.» قلت: «وما هي؟» فقال على الفور: «زوجة غنية!» فصدمتني هذه النصيحة ولم تقبلها نفسي. وشعر صديقي أن تعبيره لم يكن رقيقا ولا موفقا، وأراد أن يعبر عن رأيه بصيغة أخرى مخففة ومفسرة. فأبيت أن أستمع إلى نصيحته ومضيت في سبيلي.
وكان حبي لأمي - وقد توفيت وأنا صغير السن وعشت بعدها يتيما من الأم (ومعذرة للغويين عن هذا التعبير) - قد مال بي مبدئيا إلى أقرب البيئات إليها.
فلما شبت ثورة سنة 1919 كنت في زياراتي لعائلات خئولتي ألاحظ على «عائشة» تطورا عجيبا في نفسيتها وتفكيرها وإحساساتها. كانت ثائرة، واشتركت في مظاهرة السيدات والآنسات (16 مارس سنة 1919)، وكانت تتدفق في أحاديث عن الحالة السياسية وعن تطور الأمة، وأعجبني منها ذكاؤها وجاذبيتها وإخلاصها وروحها الوطنية، فعقدت النية على الزواج بها. ولم أفاتحها في الأمر؛ لأن ذلك لم يكن مألوفا في هذا العصر، وخاصة في البيئات المحافظة، ولأني كنت واثقا من رضاها بأن تكون زوجتي، إلى أن تم عقد زواجي بها في 12 مارس سنة 1920.
ولما علم صديقي الصدوق بزواجي هنأني بحرارة، ثم سألني في تلطف وفي غير فضول: «هل بنت خالك غنية؟» فقلت له: «إن لها إيرادا يسيرا في وقف أستحق أنا أيضا فيه بنصيب يماثل نصيبها؛ أي إنها ليست غنية ولا ذات ثراء.» فكرر لي التهنئة ثم سكت ولم يتكلم. وقطعت سكوته بقولي: «وأنا أيضا لست غنيا ولا ذا ثراء، وهذا في نظري أدعى للانسجام بيننا . ثم إن الغنى مسألة نسبية لا عددية كما يتوهم كثير من الناس؛ فالأغنياء ماذا يصنعون بما يزيد عن مطالبهم المعقولة والمحتملة؟ لا شيء، وما دام الإنسان في غير حاجة إلى الناس فهو لا يقل غنى عن أغنى الأغنياء.»
نامعلوم صفحہ