وأذكر أن أول مقالة لي نشرت بالعدد الصادر في 9 مارس سنة 1908 تحت عنوان «تبدد الشعور الوطني وتجمعه» بإمضاء «حقوقي»، كتبتها بعد وفاة المرحوم مصطفى كامل بشهر، ووصفت فيها خواطري وآمالي في الجهاد، وكأنما رسمت لنفسي في هذه المقالة خطتي في الحياة؛ لذلك أود أن أنشر فقرات منها لأنها صورة من شعوري وتفكيري في مستهل حياتي السياسية، قلت: «للحوادث العظيمة على حياة الأمم تأثير كبير بما تحرك في القلوب من الشعور وتستفز فيها من العواطف؛ فلربما كانت حادثة مبدأ حياة أمة أو سببا في خلاصها من استبداد ظالم. وإذا عدت الحوادث الكبيرة التي لها يد في تكوين الشعور الوطني عندنا، لجعلنا في مقدمتها وفاة فقيدنا العظيم مصطفى كامل. فلقد كانت وفاته كشعلة من نار مست الشعور الوطني وأصابت منه موضع الإحساس والتأثر، فانفجر وظهر بمظهر لم يكن أحد منا يتنبأ به ولا يزال في نمو وازدياد.
هذا الشعور الشريف هو رأس مال الاستقلال، إذا تعهده الرجال العاملون منا زادوه قوة وشدة وحفظوه من دواعي الفتور والخمود، وساروا به في خطة منتظمة محددة، وانحصر في تيار يجري رأسا إلى غايتنا وهي التخلص من سلطة الاحتلال.
إن الشعور بالحاجة إذا لم يدفع المرء إلى العمل لنيل تلك الحاجة فلا فائدة منه البتة، فليس مجرد الشعور إلا معنى في النفس لا وجود له ما لم يظهر أثره في الخارج، الشعور قوة ولكن بشرط أن ينبعث في طريق واحد فيأمن شر التبدد والتلاشي.»
إلى أن قلت: «مات مصطفى كامل فهاج موته شعور الاستقلال في النفوس، وكان أول من أحس بوقع المصاب النابغون منا في العلم والفكر، فبكوه مع الباكين ورثوه مع الراثين، ولكن ما رأينا أحدا منهم دفعه الشعور إلى أن ينزل في ميدان الحياة الوطنية فيعمل مع العاملين في تعهد الشعور الوطني وإبلاغه الغاية التي ذكرناها. كل منا يعلم حاجتنا إلى رءوس مفكرة عاملة تنير لنا سبيل تلك النهضة، ولكنا نرى نابغينا في معزل عنها مع أنهم هم أبناء بجدتها، والشعور الصحيح هو الذي يدفع صاحبه إلى البدء في محاربة رأس مال الاحتلال أفرادا وجماعات، حتى يقوى الشعور العام في كافة الطبقات وترسخ عاطفة الحرية في القلوب، فلا يكون أمامنا سوى أمرين: الاستقلال أو الموت. حينذاك يقال: هذه أمة محال استعبادها حيث تؤثر الموت على الرضوخ، فخير لمن يريد منها نفعا أن يعاملها معاملة صديق مهاب.
ليس من الصعب علينا أن نصل بالشعور الوطني إلى هذه الدرجة ما دمنا نعمل على خطة منظمة؛ فالأساس الذي يبني عليه الاحتلال صرحه نحن مقيموه بأنفسنا؛ ألسنا راضين بأن نعيش في كنفه؟ هل يعقل أن إرادة الملايين من النفوس إذا قويت وتوجهت بصدق نحو غرض واحد، هل يعقل أن تصدها وتكبح جماحها إرادة أفراد معدودين؟! رأس مال الاحتلال في قلوبنا؛ إن شئنا استبقيناه، وإن شئنا نزعناه من بين جوانحنا، فلا يعود له مقام بين ظهرانينا؛ فصرح الاحتلال قائم على عمادين: حسن الظن به من جهة، والوهم من جهة أخرى. فبحسن الظن ترضى الملايين من البشر بتحكم الأجنبي فيهم فيثبتون سلطانه، وبالوهم يعطون له قوة لم يكن يحلم بها فيخافون من شيء هم خالقوه.
على هذين الأساسين أمكن لبضعة آلاف أن يسودوا على مئات الملايين في بقاع متباعدة؛ فلا عجب أن كانت سياسة الاستعمار الآن هي تخدير أعصاب الأمم باستجلاب حبهم من جهة وبإلقاء الهيبة والرعب من سطوتهم من جهة أخرى. فإذا نحن عملنا على هدم هذا الأساس من قلوبنا كنا مقيمين بعملنا بناء الاستقلال، وقد دلنا التاريخ على أن الأمة التي يشتد ألمها من الاستبداد وتتخلص من آثار الوهم من سلطانه تصبح على أبواب الحرية، ولم تستطع قوة ما الثبات إزاء سلطان عاطفة الاستقلال.
هذا هو الطريق الذي سلكه غيرنا فأفلحوا؛ إذا شعروا بحاجة قاموا ودفعهم الشعور إلى التكاتف سرا وعلانية على العمل لنيل ما يريدون، فوضعوا غايتهم أمامهم، ورسموا لها الخطة العملية، وأعدوا لها معداتها، فعملوا على النظام الذي وضعوه، وكانوا بذلك من الناجحين.»
الحياة العملية
(1) في المحاماة
نلت شهادة الليسانس في يونيو سنة 1908.
نامعلوم صفحہ