فلوس في كل مكان
كان المال ينهال على خزينة تياترو الأجبسيانة كالمطر الغزير وبشكل لم يكن أحد ينتظره أو يتصوره، وكلما ارتفعت أرقام الأرباح، ارتفعت معها عقائر الخصوم والحساد، وامتلأت أعمدة بعض الصحف بالطعن في كشكش من جميع النواحي. والظريف في الموضوع أن صاحب شخصية كشكش كان مجهولا من الناس طرا، فلم يكن يعرف شكله أحد، ولم يكن إنسان يدري أهو أبيض أم أسمر؟ فتى أم شيخ؟ مطربش أم معمم، ذلك لأنني كنت أظهر على المسرح بالجبة والقفطان وباللحية الطويلة الوقور، ولم أكن أكثر الظهور في الشوارع والطرقات، كذلك لم تكن الصحف الأسبوعية قد انتشرت، بل ولم تكن قد ظهرت وامتلأت صفحاتها بالصور كما هو الحال الآن، تلك الصور التي أوقفت القراء في أنحاء مصر وغيرها على «أشكال» الممثلين والممثلات، وقربتهم إلى الأذهان، بحيث أصبح من السهل الآن على كل امرئ أن يتعرف على أقل مخلوق أو مخلوقة من ممثلي المسرح وممثلاته.
ويحلو لي الآن في هذا الصدد أن أقول، بأن وفرة المال بين يدي كانت تنسيني في كثير من الأحوال المواضع التي كنت أحفظ فيها النقود، من ذلك أنني وضعت يوما في «القمطر»، وأرجو أن يسامحني القراء في استعمال هذا اللفظ، لأنني لم أسمع به إلا من صديق لي قال إن المجمع اللغوي وضعه بدل كلمة «الدولاب»، فأردت أن أنتهز الفرصة وأتفلسف على قرائي المحبوبين، أمال يعني حاتفلسف على مين غيرهم؟ ع المتفرجين؟ ... نهايته.
وضعت يوما في «قمطر» التواليت (لم يخبرني صديقي على الاسم الذي انتخبه المجمع بدل كلمة التواليت) وضعت فيه مبلغ ثلثمائة جنيه مصري، ثم نسيت هذا المبلغ بعد ذلك، ولم أعره أهمية، لأن الخير كثير، وستر المولى كان متوافرا للغاية. وبعد عشرين يوما من هذا الحادث تصادف أن كانت «لوسي» تنظف أدراج القمطر - يا سلام أنا داخله في مزاجي كلمة القمطر دي بشكل؟! - فعثرت على 300 جنيه، سلمتها لي بعد أن فركت أذني بأصابعها الجميلة وهي تقول : «خلي بالك من فلوسك يا نجيب أحسن ييجي يوم تحتاج لها» ....
كانت نصيحة ثمينة من «لوسي» ولكنني لم أعمل بها. وكم أتمنى من صميم الفؤاد أن تعود تلك الأيام بأموالها المغدقة أو المغرقة ... كي أعمل بنصيحة لوسي - والله العظيم - ولا أفرطش في القرش الأبيض علشان ينفع في اليوم الأسود!!
وفي يوم آخر كنا «بنعزل» - اعذروني إذ لم أجد كلمة لغوية تفيد معنى النقل من بيت لبيت غير دي - وفيما نحن نرفع بساط غرفة النوم وجدنا تحته ثمانين جنيها!!
أما قفاطين كشكش فلم تكن تخلو يوما من كبشة نقدية «مبعزقة» في جيوبها هنا وهنا!! فكانت لوسي - الله يمسيها بالخير - تتولى جمعها في كل مساء وتسلمها لي مقرونة بالنصيحة إياها!!
لعل واحدا يسأل: «ما علة هذا النسيان؟» وردا عليه أقول إنني كنت دائم التفكير في عملي، وفيما يجب أن تكون عليه الرواية الجديدة، وما هي العيوب الاجتماعية المتفشية في البلاد كي نعالجها فيما نقدمه للجمهور بين ثنايا ألحان الرواية وموضوعها؟ وقد كانت نتيجة هذا التفكير المتوالي السرحان ... المتوالي برضه!!
قلت إنني كنت أدير الفرقة لحسابي الخاص نظير حصة مقدارها 30٪ من الإيراد يتقاضاها المسيو ديمو كنجس صاحب التياترو. وقلت إن التياترو لم يكن مسقوفا، بل مغطى بالقماش وكانت الأرضية ترابا في تراب، ومع ذلك لم يكن الكبراء يأنفون ارتياده، أو ينقطعون عن زيارته، أحصى المسيو ديمو كنجس نصيبه في العام الأول فإذا به ثمانية آلاف وخمسمائة جنيه مصري!! وهذا المبلغ هو ثلاثون في المائة فقط من الإيراد! فكم يكون نصيبي أنا ... يا صاحب السبعين في المائة الباقية!! س - وسين تساوي ... حوالي عشرين ألف جنيه تقريبا!! فأخ ... أخ من زمان وفلوس زمان!
الأوبرا كوميك والأوبريت حمار وحلاوة
نامعلوم صفحہ