48 ساعة جوع!
لم يعد لي مجال في البيت بعد فصلي من شركة السكر، لأن والدتي كانت قد ضاقت بي، فأقفلت بابها دوني. وأنا رجل لم أعتد أن أطأطئ هامتي أمام أي خطب. فما العمل؟ وماذا أفعل لأحصل على القوت الضروري؟
أقسم أيها القراء الأعزاء أنني قضيت ثماني وأربعين ساعة لم أذق خلالها للأكل طعما. لا زهدا مني، ولا أسفا على شيء، ولكن لأنني لم أجد وسيلة أكتسب بها ثمن «لقمة العيش بلا أدام». ومع ذلك لم أحن رأسي ولم تذل نفسي، وبقيت أنا كما أنا ويفعل الله ما يشاء.
ولو كان أمري قاصرا على الجوع وحده لهان، ولكنني لم أجد كذلك مكانا آوي إليه كلما أدركني الليل، وذهب كل حي في المدينة يلتمس الراحة في فراشه. لذلك كنت أقضي الليالي وحيدا، أمكث في (قهوة الفن) إلى موعد التشطيب في الساعة الثانية من كل صباح، ثم أغادرها إلى كوبري قصر النيل، فأجوب تجاه الجزيرة سائرا على قدمي، حتى إذا أعياني الكد والنصب، استلقيت على الإفريز جانبا وتوسدت حجرا من أحجار الطريق مستريحا، إلى أن ترسل الغازلة أشعتها، فأستيقظ من نومي «الهنيء» وأعود أدراجي إلى المقر الرسمي (قهوة الفن).
كنز ثمين!
وإن نسيت فلن أنسى يوما قمت فيه من النوم، وتلفت فإذا تحت وسادتي «كنز»!! كنز ثمين يا سادتي لا يعرف قيمته إلا المفلسون!! هذا الكنز هو ... أتعرفون ما هو؟ «قرش تعريفة»!! وافرحتاه! خمسة مليمات ... حتة واحدة!! ما هذا الفتوح؟ وما هذه البشرى؟ حقا يا سادتي إذا كان المثل يقول «الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يشعر به إلا المرضى» ... إذا كان المثل يقول ذلك فإنني أخالفه، وأقول: القرش التعريفة كنز في جيوب الأغنياء لا يحس به إلا المفلسون.
وعنها وسعت على نفسي في الإفطار، وإن شا الله ما حد حوش ...! فقد أكلت طعاما دسما عماده الفول المدمس والسلطة والطعمية، والعيش كمان، لأن أيامها كانت الدنيا مبحبحة و«القرش التعريفة» ثروة!!
نقولا كارتر!
وفي إحدى الليالي، وبينما كنت أقطع الجزيرة كعادتي كل مساء بعد تشطيب قهوة الفن، كان الظلام حالكا وكنت أتلمس مكانا أستريح فيه، فتعثرت قدمي بشيء تحسسته فإذا هو إنسان!! وحين استيقظ، وجدت فيه صديقي العزيز الكاتب المعروف الأستاذ محمود صادق سيف!! يا للداهية ما الذي جاء بك إلى هنا يا محمود؟ فأجابني بصوته الأجش إياه: «هو الذي جاء بك أنت يا نجيب!!».
قلت: إذن كلانا يسكن «فندقا واحدا»، وانطلقت منا ضحكة عالية هتكت أسرار الليل! وقمنا نسير سويا، وكل منا يشكو حاله لزميله. فاتفقنا على أن نتلاقى معا بعد منتصف كل ليلة لنتسامر، ونقتل الوقت في الحديث قبل أن يقتلنا جوعا. وسارت الأيام معنا سيرها العادي، إلى أن جاءني الزميل صادق سيف يوما وهو مبتهج متهلل، وقال: «اسمع يا نجيب ... فيه فكره عال! يمكن ينصلح معها الحال». إيه هيه؟ أجاب صادق: «إن صاحب مكتبة المعارف كلفني أن أعرب عن الفرنسية أجزاء بوليسية من رواية اسمها «نقولا كارتر»، واتفق معي على أن أتناول منه نظير ذلك مائة وعشرين قرشا عن كل جزء، وبما أن هذه الأجزاء ستصدر أسبوعية، فسيكون هذا القسط من حقنا كل أسبوع ... وبما أنك تجيد الفرنسية كما أجيد أنا العربية فهيا بنا نشترك في العمل ونقتسم الثمن مناصفة!».
نامعلوم صفحہ