بعد أن قدم علي باشا شعراوي تقرير الوفد المصري إلى المندوب السامي البريطاني ببضعة أيام، حل موعد صدور الميزانية الجديدة للبلاد. ولم تكن هناك وزارة تصدرها، فأصدرها الماريشال في بلاغ بتاريخ أول أبريل 1919 وقد اعتبر المصريون هذا العمل تحديا لمشاعرهم واستخفافا بشأنهم، فانفجرت براكين الغضب من جديد. وأضرب التجار وبعض الموظفين الذين لم يكونوا قد أضربوا من قبل، وتمرد طلاب المدرسة الحربية ومدرسة البوليس، وخرجوا متظاهرين أمام قصر السلطان ودور السفارات. أما ثورة الأزهر الشريف فقد اشتدت لدرجة أن السلطة العسكرية لجأت إلى مخاطبة شيخ الأزهر في أمر إغلاقه نهائيا أو الاكتفاء بإغلاقه في غير أوقات الصلاة. وقد أبى شيخ الأزهر أن يفعل ذلك، وقال: إن الله ينهى المسلم عن إغلاق مساجد الله.
ولم يكن أمام اللورد اللنبي إلا أن يلعب بالورقة الأخيرة، فطلب من السلطان فؤاد أن يصدر منشورا ينصح فيه الأهالي بالخلود إلى السكنية، وقد فعل ذلك، وصدر المنشور السلطاني الذي نشر في الوقائع المصرية الصادر يوم الأحد 6 أبريل 1919.
ولكن هذه المحاولة لم تجد نفعا، فقد ظلت الثورة قائمة ومشتعلة وبعد أن رأى اللورد اللنبي أنه قد جرب كل وسيلة بلا جدوى، قرر أن يلجأ إلى الحل الذي طلبه المصريون. فقد استعرض الحوادث التي شبت خلال هذا الشهر، ورأى أن اعتقال سعد ورفاقه قد أثار أحداثا خطيرة، وأنه قد هبت على إثر ذلك أعظم ثورة في تاريخ مصر. ورأى أيضا أن زوجي علي باشا شعراوي باعتباره وكيل الوفد قد عالج هو وزملاؤه من رجال الوفد هذه المواقف بشجاعة مذهلة. وأنهم رغم تعرضهم لقسوة الإنجليز، فإنهم قد مضوا في طريقهم مثابرين، ضاربين أروع الأمثال في شجاعتهم ووطنيتهم وتفانيهم في خدمة البلاد والثبات على المبدأ.
وإزاء ذلك كله، أصدر اللورد اللنبي إعلانا بأن الحكومة البريطانية قد سمحت لأعضاء الوفد المصري بالسفر.
وكان هذا الإعلان تغيرا في السياسة الإنجليزية بعد أن وجدت إنجلترا أنه لا سبيل إلى الاستمرار في تلك السياسة التي نتج عنها قيام الثورة الخطيرة في البلاد.
وكان أن عدلت عنها، وأفرجت عن سعد ورفاقه يوم 7 أبريل 1919، ورتبت سفر باقي أعضاء الوفد المصري؛ بحيث يلتقون مع سعد زغلول باشا ورفاقه في المركب التي تحملهم إلى باريس.
وقد ابتهجت الأمة ابتهاجا شديدا بهذا النصر السياسي، وعمتها نشوة الفرح، وقامت مظاهرات الابتهاج بدلا من مظاهرات الغضب والثورة. ورغم كثرة المظاهرات في جميع أنحاء البلاد، فقد انعدمت حوادث السرقة والشغب. واشترك في هذه المظاهرات كبار القوم وصغارهم، وكلهم مستبشر بما أحرزته البلاد من فوز نتيجة الوحدة والائتلاف.
وبعد الإفراج عن الزعماء المنفيين وانضمام الأعضاء الآخرين إليهم، ذهبوا جميعا إلى باريس للاشتراك في مؤتمر السلام، وقدموا إليه طلبا فرفض طلبهم، وقوبلوا استقبالا غير مشجع، حتى إن رئيس الوفد سعد زغلول باشا - رغبة منه في توطيد العلاقة بينه وبين الوفود المشتركة في المؤتمر - زار مقر كل وفد وترك بطاقة تحية باسمه، فلم يفكر أحد في رد هذه المجاملة فيما عدا رئيس حكومة بريطانيا.
ورغم هذا التجاهل، قدم الوفد المصري إلى المؤتمر مذكرة بعدالة مطالب مصر. ومن ناحية أخرى، فإنه ردا على هذا التجاهل، نهج الوفد سبيلا آخر هو نشر الدعاية للقضية عن طريق الصحف والرأي العام، وقد استطاع أن يقوم بدور في هذا المجال، رغم أن الصحافة الفرنسية كانت خاضعة لأوامر الحكومة الفرنسية التي كانت بدورها واقعة تحت ضغط الحكومة البريطانية، وقد تمكن الوفد من القيام بدعاية واسعة النطاق كان من أثرها إلمام الأوساط السياسية والرأي العام بقضية مصر.
ومن المعروف أن وزارة حسين باشا رشدي كانت قد استقالت بسبب عدم السماح للوفد بالسفر لعرض القضية المصرية على مؤتمر الصلح، وقد ظلت البلاد بلا وزارة طوال هذه الفترة، فلما سمحت السلطات البريطانية للوفد بالسفر وسافر فعلا، عادت وزارة رشدي باشا إلى الحكم في 9 أبريل 1919، ولكنها لم تستطع الاستمرار في الحكم طويلا لعدم تمكنها من التوفيق بين مطالب المصريين وبين إرادة السلطات البريطانية وكان أن استقالت، وأعقبتها وزارة محمد سعيد باشا الذي صرح للصحف غداة تأليف الوزارة بأن وزارته لا تبت في شيء له مساس بمركز مصر السياسي، وأنها ليست لها صفة سياسية؛ لأن المسألة لم يبت فيها بعد في مؤتمر الصلح.
نامعلوم صفحہ