أما عن الأحداث الاجتماعية، فإنه قد ظهرت في ذلك الوقت بوادر نهضة أدبية بين السيدات الراقيات، إثر ما ذكرته عن تلك الوثبة التي صاحبت إلقاء المحاضرات في الجامعة، وقد شعرت إزاء ذلك بوجوب تأسيس ناد أدبي لهن يجتمعن فيه للبحث في الشئون الأدبية والاجتماعية، وعرضت هذه الفكرة على الأميرات، وطلبت رعايتهن لهذا المشروع، فقبلن بارتياح وحددن موعدا للاجتماع في منزلي للاتفاق على تفاصيل هذا المشروع.
ومن ناحية أخرى، فقد كنت على اتصال بالكاتبة الفرنسية الآنسة مرجريت كليمان التي كانت تكاتبني دائما، وكنت أطلعها في خطاباتي على أماني، وقد وعدتني إذا تحققت مشروعاتي أن تحضر خصيصا إلى مصر للاشتراك معنا وإلقاء محاضرات اجتماعية، وقد كتبت إليها أبشرها بقرب تحقيق أمنية من أماني الغالية وهي تأسيس ناد للسيدات، وطلبت إليها أن تحضر في الموعد المحدد لعقد أول اجتماع عندي، وكان أن جاءت، وعقد الاجتماع في منزلي برئاسة شرف الأميرة أمينة حليم وعضوية الأميرات المصريات والأجنبيات، وشكلت لجنة تحت اسم «جمعية الرقي الأدبي للسيدات».
وقد بدأت الآنسة «مرجريت كليمان» بإلقاء سلسلة محاضرات بمنزلي وبالجامعة المصرية، كذلك اشتركت الكاتبة المبدعة الآنسة «مي» في عضوية هذه اللجنة، وكانت لا تزال في بدء حياتها الأدبية. أما السيدة لبيبة هاشم صاحبة مجلة «فتاة الشرق» فقد عينت سكرتيرة عربية لهذه اللجنة.
وقد انهالت علي رسائل التهنئة والترحيب بهذا المشروع الذي صادف قبولا حسنا لدى النفوس المتعطشة إليه، وكان ذلك في أبريل 1914.
وكان علي بعد ذلك أن أقوم بالبحث عن منزل ليكون مقرا لهذا النادي الذي لم نكن نجرؤ على تسميته ناديا، نظرا لأن التقاليد كانت تستهجن مثل هذا العمل، ولا تسمح للمرأة بأن تتنفس أو تجد لنفسها منتدى تلقى فيه صديقاتها والعاملات معها في الحياة الاجتماعية، ثم جاء الصيف وسافر كثير من الأميرات والسيدات إلى أوروبا كعادتهن، على أن يستأنف العمل على تحقيق هذا المشروع الجديد عقب عودتهن إلى الوطن.
وفي غضون هذه المدة، اشتد مرض الحمى الشوكية على ابنة أخي الصغيرة، وكنت أحبها حبا كبيرا، وكنا نتحدث أمامها بأنها ستكون عروسا لابني محمد، فتشبع الطفلان بهذه الفكرة وتوثقت عرى المحبة بينهما، وكانت هي تقول إنني أحبه وسأتزوجه رغم كل شيء، أما هو فأذكر أنني قلت له يوما: «وهل تنتظرك وهي أكبر منك بسنة والبنات يتزوجن مبكرات؟» فأخذ يبكي بالدموع ويقول: «إذن بمن سأتزوج؟» وكأنما ليس في الحياة غيرها!
وزادت وطأة المرض على «هدى» الصغيرة، رغم كل ما بذله والدها من عناية، حتى إنه أحضر البروفيسور «روبين» خصيصا من باريس لعلاجها. ولكن كل هذه المحاولات لم تفلح ... وبعد أن قاست كثيرا من مرارة المرض، توفيت إلى رحمة الله، وأذكر أنني كتبت في مفكرتي يوم الاثنين 11 مايو 1915 أقول: «قصف المنون صباح اليوم زهرة في عنفوان صباها، بل في طفولتها، فوا حسرتاه.»
ولقد كان لوفاتها تأثير كبير على صحة والدها الذي كان يعزها ويحبها، وكان لذلك رجة كبيرة وهزة عنيفة في نفوسنا جميعا، وقد حزن عليها ولدي محمد حزنا شديدا رغم صغر سنه، وكان إذ ذاك مريضا وضعيف البنية، وكانت تعتريه حمى منخفضة لازمته باستمرار ولم ينفع فيها أي علاج.
ولما عجز الأطباء عن معرفة سبب هذه الحالة، نصحوا بالسفر إلى أوروبا لعرضه على الأخصائيين هناك وليستفيد من تغيير الهواء والإقامة في الجبال. وقد اضطررت للسفر تاركة والدتي على فراش المرض؛ حيث لم يسمح لها الطبيب بالسفر وإن كان قد طمأنها على صحتها ما دامت بعيدة عن المؤثرات وعن الصدمات النفسية والمتاعب الجسمانية، وكان سفرنا من الإسكندرية بعد ظهر يوم الأربعاء 14 يونيو 1914. وكانت هذه أول مرة أفارق فيها والدتي وأسافر بدونها، ورغم أن الطبيب طمأنني عليها، فقد كنت أحس في دخيلتي كأنني لن أراها ثانية، وقد حدثتني نفسي أن أرجع من الإسكندرية لولا الحالة التي كان عليها ولدي وخوفي مما قد يترتب على عدم العناية به.
الفصل الثاني عشر
نامعلوم صفحہ