وأعود إلى قصتي ... فأقول إن صديقتي حرم رشدي بك باشا كانت من الذين أثروا في للصلح مع زوجي الذي كان يسعى عند كل من يعرف أن له مكانة عندي ليطلب وساطته في ذلك، وكان أخي قد بلغ الثامنة عشرة من عمره، وأرادت والدتي أن تزوجه فخطبت له كريمة عباس باشا الدرة مللي وبقي زهاء سنتين خاطبا ممتنعا عن الزفاف، ولما كنت أعيب عليه هذا وأسأله عن السبب، كان يتهرب من الرد، إلى أن قال لي علوي باشا يوما: إن أخاك قد أقسم ألا يدخل بعروسه إلا إذا عدت لزوجك، وكان قد مضى على انفصالي عنه سبع سنين، فأدركت أن هذا فخ نصب لي، وأردت أن أمكر عليهم فقلت له: «إن كان هذا هو السبب، فإنني مستعدة للصلح»، وانتشر هذا الخبر، وقوبل بالارتياح من كل أفراد العائلة وبخاصة شقيقي الذي جاء ليشكرني، فقلت له لأجل خاطرك أقبل هذا الصلح بشروط كنت أظن أن زوجي يرفضها ... وطلبت منه مقابل ذلك أن يستعد للدخول بعروسه.
واستقر رأي أخي على القيام بالاستعدادات اللازمة. وكان يفضل أن يتم الزفاف دون طنطنة أو حفلات، وأن تعطى المبالغ التي ستصرف للفقراء والمعوزين. وقلت له: ما دام في إمكانك عمل هذا وذاك ففي الأمرين صدقة، لأنك بإقامة الأفراح ستحسن إلى الكثيرين من العمال المساكين كالفراشين والطهاة، وستطعم الفقراء، فتصدق وأقم أفراحا تتحدث بجمالها وروعتها الناس أعواما طويلة. فضحك لقولي هذا، ووعدني بتنفيذ رغباتي، وقد نفذها فعلا، وقد وصف ليالي الفرح صديقنا شاعر القطرين خليل بك مطران في افتتاحية العدد الثالث والعشرين من المجلة المصرية الصادر يوم أول مايو 1902.
وبعد أن تزوج شقيقي، ظننت أنني وفقت إلى لعب الدور الذي أردته، وأنه سيمكنني بعد ذلك أن أماطل حتى يسأم زوجي كثرة المماطلة ويكف عن المطالبة برجوعي إليه فيتركني وشأني، ولكني رأيت مع الأسف أن بقائي في المنزل سيكون سببا في شقاء أخي، لأنني لاحظت أن زوجته لم تكن تنظر بعين الرضا إلى كثرة زياراته لي وعطفه الكبير علي، فرأيت من الواجب علي أن أضحي بنفسي من أجل سعادة أخي وراحته، فقبلت الصلح مع زوجي الذي أظهر استعداده لتنفيذ ما طلبته وشملني بعطفه واحترامه الشخصي. وعشنا كذلك بضع سنوات رزقت خلالها بابنتي «بثنة» وابني «محمد» ... وكادت حياتي تكون هادئة، لولا أن ابنتي التي ولدت هزيلة اعتراها مرض في الشهر العاشر من عمرها بعد أن تحملت في سبيل تغذيتها وتقويتها أنواع العذاب، كنت قد عاهدت نفسي أن أغذيها بلبني لكي لا يشاركني في حبها أحد، ولكن للأسف لم يمكنني ذلك لشرود اللبن مني. وكانت تلك السنة شحيحة بالمرضعات فالتزمنا تغييرهن الواحدة بعد الأخرى. وكان أن ساءت صحة طفلتي وبخاصة بعد أن انتابتها حمى شديدة، وقد اختلف الأطباء حول حقيقة مرضها، وإن كانوا قد اتفقوا على ضرورة تغيير الهواء لها، ولكن والدها كان يكره التنقل لكثرة مشاغله، فاستحسن أن نأخذها إلى «الذهبية» التي كانت راسية بجانب الجزيرة الصغيرة. وبعد أن وصلنا وذهبت المرضعة بالطفلة إلى فراشها في آخر الذهبية، بينما كنت أتهيأ لخلع إزاري. إذا بنور شديد يملأ الأرجاء، وإذا بزوجي يندفع في اللحظة نفسها ممتقع الوجه قائلا: اخرجي حالا وألقي بنفسك في النيل وأنت تعرفين السباحة ... لأن الذهبية تلتهمها النيران. فلما سمعت ذلك، اندفعت إلى غرفة ابنتي وأخذتها وضممتها إلى صدري وجريت نحو الباب الخارجي، فرأيت النيران تلتهم «التندة»، فخرجت من تحتها منحنية على ابنتي حتى لا يمسها اللهب الذي كنت أشعر بحرارته فوق ظهري، إلى أن صعدت إلى أعلى الشاطئ. وتزاحم الناس حولنا وكان الشبان من أولاد الذوات يتغامزون علينا، وأعين السوقة على الحقيبة الصغيرة ظنا منهم أنها تحتوي مجوهرات أو أشياء ثمينة، فصرخت فيهم جميعا: «هل فقدت المروءة أنصارها حتى لا تسعفونا أو تقدموا لنا عربة؟ بئست مصر بأمثالكم» فقدم لنا أحدهم عربته، فحملت ابنتي والمرضعة إلى البيت، بينما بقيت أنا لأطمئن على زوجي.
أذكر هذا الحادث متألمة؛ لأن بعض شبابنا ما زال حتى اليوم لا يحركه شيء إلا ما كان لغرض شخصي. أما المشاعر الإنسانية فهي ضعيفة أو تكاد تكون معدومة لدى كثير منهم، وهذا أمر يؤسف له ولا سيما في زمن يجب أن يعيش فيه الفرد للمجموع والمجموع للفرد، تحقيقا للرابطة الأدبية والمعنوية التي تؤلف بين العواطف والمصالح العامة.
وعندما عدت إلى البيت. ولن أنسى تلك الليلة المفزعة الرهيبة التي قضيتها بجنب ابنتي الحبيبة بين اليأس والرجاء، إلى أن جاء الدكتور هيس في الصباح. وعندما رآها، ارتمى على الكرسي وهو يقول: الحمد لله ... إنها لا تزال على قيد الحياة.
وأذكر أن الدكتور هيس كان طيب القلب، كريم النفس، يحب الأطفال الذين خرجوا إلى نور الحياة على يديه محبة الوالد العطوف على أولاده. كذلك فإنني أذكر له بالشكر دائما خدماته الإنسانية كلما كنت أقصده في عيادته بعض الفقراء في بيوتهم وأكواخهم، فقد كان يلبي طلبي في أية ساعة من الليل أو النهار، وأكثر من ذلك أنه كثيرا ما كان يدفع من جيبه ثمن الأدوية إذا لمس فقرهم وعجزهم عن شرائها.
وقد ظلت ابنتي تعاني من ضعف شديد لعدة سنوات. وكانت كلما أصيبت بمرض شديد اشتدت وطأته عليها بسبب ضعفها. وفي كل مرة كان الأطباء يشيرون علي بضرورة سفرها إلى أوروبا لاعتقادهم بأن تغيير الهواء يفيدها وكان والدها يرفض رفضا باتا إلى أن ساءت حالة ابنتي ذات مرة وعيل صبري، فهددت زوجي بالافتراق عنه إذا تسبب عن رفضه هذا وفاة ابنتي دون أن نقضي على هذه المصيبة. وانتهى الأمر أن أذن لي بالسفر إلى الآستانة.
كانت هذه هي أولى أسفارنا للخارج. وقد سافر معنا الباشا لتوصيلنا على باخرة روسية صغيرة اسمها «تزاريستا» وقد بدأت صحة «بثنة» تتحسن منذ ثاني يوم لوجودنا على المركب، فأخذت تجري هنا وهناك ويلاطفها جميع الركاب.
وكنت أتوق لرؤية تركيا لما كنت أسمعه عن جمال الطبيعة ورفاهية الحياة فيها. وقد صادف وصولنا غروب الشمس وفي بوغاز استنابول الجميل كانت الشمس تلقي بأشعتها الجميلة الأخيرة على «قرن الذهب» فتنعكس تلك الأشعة على المآذن البيضاء وقباب المساجد الكبيرة فوق بساط سندسي من الخضرة.
وكان بشير آغا قد استأجر لنا منزلا على الطريق المرتفع اتقاء تأثير الرطوبة في صحة الطفلة وبناء على طلب الطبيب فقد ركبنا إليه عربة مغطاة بخيمة صغيرة من تلك التي يطلق عليها اسم عربات المهاجرين «مهاجر عربة س». ولم تستطع العربة أن تواصل بنا الطريق فصعدنا أكثر من نصفه على أقدامنا حتى وصلنا المرتفع «البقوش»؛ حيث كان البيت، وكنت أظن أنني سأجد فيه كل أسباب الراحة، ولذلك شد ما كان تأثري عندما وجدته بيتا له حديقة صغيرة وكدت أتركه في الحال لولا وجود ابنتي ووالدتي معي، ولذلك رأيت أن نقضي به الليلة وفي نيتي أن أغادره عند طلوع الشمس لأبحث بنفسي عن منزل آخر أفضل منه. ولكن ما إن بزغ الفجر حتى رأيت منظرا من أبدع المناظر الطبيعية التي رأتها عيناي فقد رأيت البوسفور ممتدا أمامي في شكل شريط تحده من الجانبين مرتفعات مكسوة بالخضرة وتتناثر عليها أكشاك صغيرة مغطاة بالجمالون الأحمر أو الأسود وتتخللها قصور بيضاء أعدت دورا للسفارات الأجنبية على شكل نصف دائرة تطل على المضيق الموصل للبحر الأسود. كذلك رأيت المنزل محوطا بحديقة لطيفة تحوي أشجارا مثمرة أو مزهرة، وقد ذكرتني شجرة منها محملة بالمشمش بتلك الشجرة التي كنت أحبها في منزل والدي، واقتلعوها بسبب زفافي! ...
نامعلوم صفحہ