وقد تألمت لحال هذه السيدة ورثيت لها ووعدتها بأن أعاملها معاملة الأخت لشقيقتها، ومن محاسن الصدف أنها جاءت في وقت كنت محتاجة فيه إلى شيء يحول اتجاه تفكيري في حالتي.
وكانت هذه السيدة ذات صفات طيبة ومخلصة وفية. وكانت تحبني حبا جما أشعرني بسعادة عظيمة: ولكن كثيرا ما كانت محبتها تدفعها إلى محاولة الاستئثار بي، وكان ذلك يحدث عندي شيئا من الثورة النفسية لأنني أكره كل ما يحد من حريتي واستقلالي، وإن كنت أشفق عليها لعلمي أنه لا ملجأ لها إلا بيتنا وبخاصة بعد أن توفي شقيقها الوحيد بعد وفاة أمها، وصارت وحيدة لا معين لها في الحياة.
كانت تميل إلى العزلة والأشغال اليدوية والبقاء في الغرفة التي تعودت الوجود فيها وتكره كل شيء يحدث الضوضاء، ولذلك كانت تضيق بعزفي الموسيقي رغم أنني كنت قد وصلت في العزف على البيانو إلى درجة لا بأس بها، وكنت مرغمة على الإقلال من هذه الهواية مراعاة لخاطرها.
وقد فكرت في وسيلة تشغلها عني قليلا، فعرضت عليها أن تأخذ معي دروسا في الرسم، وأن تشاركني أيضا في دروس اللغة العربية واللغة الفرنسية، فقبلت، ولكنها لم تستمر إلا في الرسم لميلها الشديد للأشغال اليدوية. وقد أتقنت هذا الفن لدرجة كبيرة.
عاشت هذه السيدة بجانبي خمس سنوات حتى صرنا خلالها كأختين تفرح الواحدة لفرح الأخرى وتحزن لحزنها. وفي هذه الفترة تعرفت بسيدة أخرى أحببتها حبا صادقا، وكانت هي الوحيدة التي لا تغار منها صديقتي وتعترف بأنها جديرة بحبي وإخلاصي، تلك هي الزوجة الأولى للمرحوم حسين رشدي باشا، وكانت فرنسية الجنسية.
عرفتها في حفل زفاف حسين بك رياض، وكنت مع صديقة لي بغرفة الزفاف عندما دخلت هذه السيدة وعليها سيماء الوقار وملامح الذكاء، فاسترعت انتباهي. وأظن أنني أيضا كنت موضع اهتمامها رغم صغر سني في ذلك الوقت. قدمتني إليها شقيقة رشدي باشا، وأمضيت بجانبها معظم السهرة مغتبطة بجانبها؛ إذ وجدتها في أفكارها وحديثها تختلف عن غيرها من السيدات المثقفات المغرورات، وقد زادنا ارتباطا يوم أمضيناه بباخرة على النيل ذهبت بنا إلى القناطر الخيرية ومعنا سيدات أخريات من الإفرنجيات، وقد مكننا الوقت الطويل الذي أمضيناه معا من حسن التعارف وربطنا بأواصر المودة الأدبية والروحية، وقد صارحتني أنها سمعت عني كثيرا ولكن على غير الحقيقة التي لمستها من معاشرتها لي ... فسألتها عما وصل إليها عني، فقالت سمعت بعض الناس يقولون إنك تركت زوجك لأنك تريدين الزواج من غيره من الشبان، وأنه تعس لفراقك وعدم انقيادك له، وقد امتحناك دون أن تشعري، فظهر لنا خلاف ما سمعنا. فلما أظهرت لها دهشتي من امتحانها الذي لم أشعر به ... قالت دخلت عندي إحدى صديقاتي يوم استقبالي، وكنت أنت عندي وقتئذ، فقدمتك إليها، وبعد خروجك تحدثنا، وأكثرت من الثناء عليك وتحدثنا عن السيدات المصريات عامة. فقالت هذه السيدة، كم من خفايا يخبئها البرقع! ... فقلت لها: ماذا تعنين بهذا القول؟ قالت: كل هؤلاء السيدات يسلكن تحت شعار براقعهن أسوأ المسالك. أما نحن معشر الفرنجيات فإننا نخرج سافرات ... وكل واحد يعرفنا ولذلك لا يمكننا أن نطرق مكانا مشتبها فيه، قلت لها: إن هذا الكلام لا ينطبق على صديقاتي وخاصة صديقتي الصغيرة، قالت لي: هل تسمحين لي أن أمتحنها، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. فقلت لها: افعلي ما تشائين، فإني على ثقة تامة بصديقتي.
عندئذ سألتها عن تلك السيدة، ولما عرفتها، تذكرت أنها كانت تتردد علينا حتى بلغت من نفسي مكانة طيبة، وفي صباح يوم كنا نتحدث عن التحف والآثار القديمة، فقالت: إنها تعرف أحد الحوانيت وفيه مما أحب الأشياء كثيرة، وحببت إلي مرافقتها إلى ذلك الحانوت لأرى لوحات الرسم والتحف الموجودة به، فوافقت وخرجنا معا في عربتها، وبعد أن تفرجنا، دعتني بإلحاح لتناول الشاي معها في أحد محلات الحلوى، فرفضت؛ لأن ذلك لا يليق بي شخصيا فضلا عن خروجه عن التقاليد ... وكررت رجاءها وإلحاحها، وكررت الرفض بدوري. ولما لم توفق إلى إقناعي، ظنت أنني ربما أقبل هذه الدعوة إذا كانت في محل آخر بعيد عن المدينة، فعرضت علي الذهاب إلى مقهى بجهة الجزيرة لا يؤمه أحد من معارفنا، فرفضت أيضا رفضا باتا، وقد دهشت السيدة لهذا الرفض من شابة مثلي إزاء سيدة مثلها، فلم أعبأ بدهشتها، ورجوتها في شيء من الخشونة والاستياء أن تعيدني إلى منزلي. ولما فهمت مني أن رفضي يرجع إلى أن الاختلاط يتنافى مع تقاليدنا، قالت لي: إن كثيرا من السيدات المسلمات يحضرن عندي الحفلات، ويمكثن داخل حجرة مظلمة يمكنهن من خلالها مشاهدة الحفلة من وراء ستار دون أن يراهن أحد، ولكنني أقنعتها أن هؤلاء السيدات يذهبن مع أزواجهن أو إخوتهن أو آبائهن، وأن حالتي تختلف عنهن.
وكنت قد حدثت صديقتي حرم رشدي بك في أمر هذه الصديقة بعد أن كثر إلحاحها علي، فقالت لي: إن خير ما تقدمينه لها دليلا على إخلاصك وحبك هو ألا تطلبي منها زيارتك أو حضور أية حفلة عندك.
وكان هذا يزيد في تقديري وإخلاصي لصديقتي حرم رشدي باشا، فهي لم تكن تعني بظروفي وحالتي واسمي فقط، وإنما كانت أيضا تجتهد في تثقيفي في اللغة الفرنسية، وكانت ترشدني إلى أثمن الكتب وأنفعها ... وكانت تناقشني فيما قرأت وتفسر لي ما يصعب علي فهمه، وكانت تغذي عقلي وروحي بكل أنواع الجمال والكمال.
ثم إنها كانت تحتم علي أن أحضر عندها كل يوم سبت من كل أسبوع، وهو يوم استقبالها ... في الموعد المحدد للسيدات ... قائلة لي: «أنت زهرة صالوني»، وفي الأيام التي لم أكن أتمكن فيها من زيارتها، كنت أرسل لها باقات الزهور، فكانت تشكرني برسالة رقيقة تقول فيها: إن هذه الزهور الجميلة التي أرسلتها إلي لا يمكن أن تملأ الفراغ الذي أوجده غياب زهرتي المحبوبة، فحاولي التقليل من تلك الباقات حتى لا تنقصي بغيابك من بهجة صالوني.
نامعلوم صفحہ