وعندما سمعت ذلك، هللت فرحا وصفقت بيدي، فدهشت والدتي لهذا المنظر وسألتني إن كنت أمثل هذا الدور لإخفاء الحقيقة مرة أخرى، فأقسمت لها إن هذه أول مرة أسمع فيها هذا النبأ، وأكدت لها فرحتي واغتباطي لأنني كنت في غاية التعاسة، وبدأت أروي لها أول مرة بعض ما كنت أعانيه في حياتي تلك، ولم أكن من قبل أجرؤ على أن أفعل ذلك، وما هي إلا فترة قصيرة، حتى سمعت زوجي يصفق كعادته عند قدومه من الدهليز لينبهني إلى مجيئه. فأسرعت نحوه لأهنئه بقرب قدوم المولود، وتمنيت أن يكون ولدا ليحقق أمنيته ويطلق عليه اسم والده «حسن» فظهرت عليه علامات الارتباك دون أن ينطق، وعندئذ أوليته ظهري، وذهبت إلى غرفة أعدت لي في الجناح الذي كانت تسكنه والدتي، ولم يكن قد مضى على زواجنا إذ ذاك أكثر من خمسة عشر شهرا.
وإنني أفضل أن أتحدث باختصار عن هذه المسألة، فأقول إنه قد بدا لي من مجريات الحوادث ما كنت أجهله، فقد عرفت من تلك الوثيقة التي ظلت تحت يدي مدة طويلة دون أن أعرف مضمونها، أنهم لإتمام زواجي من ابن عمتي كانوا قد اتفقوا معه على أن أكون الزوجة الوحيدة، وقد تم زواجي منه بعد أن نفذ التزامه، ولكن عندما رأت والدتي أنه عاد إلى حياته الأولى مع أم بناته وتأكدت من ذلك بحدوث الحمل قررت انفصالي عنه.
ولقد حاول زوجي بعد مضي فترة من الزمن إصلاح ذات البين، ولكن والدتي كانت في حالة ثورة وغضب عليه نظرا لموقفه الذي أثر في نفسيتها، وإن كان قد تبين لنا فيما بعد خلاف ذلك، فقد اتضح أن مفهوم الإقرار هو أنني الزوجة الوحيدة، وأنه إن راجع أم أولاده تكون طالقا بينما التبس الأمر علينا وقصرناه على أساس وقوع الطلاق بالنسبة لي أنا.
وبقيت منفصلة عنه سبع سنوات، كونت نفسي خلالها تكوينا علميا لا بأس به، فطلبت من معلمة اللغة الفرنسية أن تستأنف دروسي معها، وكذلك مدرسة البيانو، ولميلي الشديد للغة العربية طلبت من زوج خالتي أن يبحث لي عن شيخ أزهري طاعن في السن حتى يسمح له بدخول الحريم في منزلنا المحافظ، وأحضر لي يوما رجلا يدعى الشيخ موسى له هذه المواصفات، ومع ذلك فقد كان يجد صعوبات كثيرة في الوصول إلي كل مرة، ولما طال به هذا الحال تركني قبل أن أتم علوم القواعد والأدب، فاضطررت أن أدرس بنفسي.
وكان تعلقي بالموسيقى وحبي للألحان الإفرنجية يدفعني إلى قضاء أغلب سهراتي وأنا أعزف على البيانو، كنت أنتهي من العشاء، وأقصد غرفة البيانو وأظل أعزف حتى ساعة متأخرة من الليل. وكان يساعدني على إتقان العزف كثرة ترددي على دار الأوبرا؛ حيث كنت أشترك مع صديقتي «عديلة هانم النبراوي» في تأجير مقصورة.
كانت صديقتي هذه رشيقة القوام، جميلة الوجه طيبة القلب، رقيقة الحاشية، تربت في فرنسا ونهلت من الثقافة الفرنسية؛ حيث كان والدها يوسف باشا النبراوي يعيش هناك بحكم عمله في السلك الدبلوماسي. وقد تزوج من فرنسية بعد وفاة والدتها.
وقبيل وفاة والدها نصحت له زوجته بإرسال ابنته إلى مصر لتتعود على معيشة بلادها وتتعلم لغتها. وقد تزوجت من ابن عمها صبحي النبراوي ولما لم ترزق منه أولادا وكانت تتوق لأن يكون لها ابنة، فقد وهبتها كريمة عمتها ابنتها زينب «سيزا نبراوي» التي كانت في الثالثة من عمرها، فتبنتها وأحسنت تربيتها وثقافتها. وكانت عديلة هانم سبب معرفتي بسيزا وتعلقي بها. وقد أوصتني بها خيرا قبل وفاتها؛ إذ كانت تحبها حبا عظيما.
وكم كانت الصدمة شديدة على سيزا المسكينة التي كانت تجهل حتى ذلك الوقت أن لها أما غيرها، وكانت سيزا في ذلك الوقت في السادسة عشرة من عمرها.
قلت إنني كنت أميل إلى العزف على البيانو، ومن حسن حظي أن جاءت من أوروبا فتاة في مثل عمري تقريبا، وكانت ابنة أحد جيراننا وهو فرنسي الجنسية ويعمل موظفا كبيرا في وزارة الحربية، وقد ربطت بيني وبين هذه الفتاة صداقة متينة لتوافق أفكارنا وتقارب عمرينا وتشابه ميولنا وكانت ذا خلق وثقافة كبيرة، كانت تزورني في كل يوم تقريبا، نقضي معظم أوقاتنا في قراءة القصص والأدب والشعر الفرنسي أو العزف على البيانو، وكان ذلك سببا في تمكني من اللغة الفرنسية وتقدمي في فن الموسيقى.
وكانت هذه الفتاة يتيمة الأم وقد تزوج والدها بعد ذلك ورزق من زوجته أولادا، وكانت تعيش معهم عمتاها. وكانتا لا تتفقان مع زوجة أبيها، ولذلك فقد كانت دائما موضع غضب أحد الجانبين، فضلا عن أن والدها كان رجلا غريب الأطوار لا يريد أن يسمع لأحد شكوى، فكانت تجد في وجودها معي ترفيها عنها.
نامعلوم صفحہ