كنت في الخامسة من عمري عندما وقع هذا الحدث الجسيم، فقد توفي والدي المرحوم محمد سلطان باشا يوم 14 أغسطس 1884 في مدينة جراتس بالنمسا، كان قد سافر إلى سويسرا للاستشفاء، ثم ذهب إلى جراتس بعد ذلك، وكان يعاني من صدمتين عنيفتين أثرتا في حالته الصحية إلى حد بعيد؛ لدرجة أن الأطباء لم يجدوا دواء لدائه إلا أن يسافر بحثا عن العلاج، وكانت الصدمة الأولى هي وفاة أخي إسماعيل الذي كان يعقد عليه أبي كل آماله في المستقبل، فقد كان ذكيا يبدو أكبر من عمره في كل شيء، في الوقت الذي كان فيه شقيقي «عمر» ضعيف البنية والأمل في حياته ضئيل جدا ... أما الصدمة الثانية فكانت تلك المأساة التي أودت باستقلال البلاد إثر الحوادث العرابية، وما ظهر من سوء نية الإنجليز بعد دخولهم مصر؛ حيث بدا واضحا أنهم لن يفكروا في الجلاء عنها! ...
ولقد كان بودي أن أتحدث طويلا وتفصيليا عن حياة أبي وأعماله، ولكن للأسف عندما فكرت في كتابة مذكراتي، كان كثيرون من الذين عاشوا هذا التاريخ وعرفوا أبي عن قرب قد فارقوا الحياة، ولم يكن أمامي إلا فهمي باشا الذي لازم أبي خلال سنواته الأخيرة.
ولقد عرف عن أبي أنه كان يميل إلى مجالس الأدب والعلم، وقد تغنى كثير من الأدباء والشعراء بصفاته الطيبة وأخلاقه الحميدة، وكان من أبرز شيمه: الكرم والوفاء والترفع والتمسك بشعائر الدين، وتميز بالإخلاص والصراحة والشجاعة في إبداء الرأي والنزاهة والتجرد عن الغايات. كذلك فقد كان بارا بأهله في حياته وبعد مماته؛ حيث أوقف عليهم جانبا كبيرا من ممتلكاته، كما فعل الشيء نفسه بالنسبة للفقراء، حتى لا يجد واحد من الذين كان يعولهم مشقة في الحياة من بعده، وقد أوقف على الحرمين الشريفين والأزهر الشريف والمساجد والمدارس جانبا من أوقافه.
وإذا كانت هذه هي شخصية أبي في حياته الخاصة، فقد كان له مثل هذا الدور في الحياة العامة. وإذا أردنا أن نتناول الجانب الاجتماعي في هذا الدور، فسوف نجد أنه كان وراء إلغاء نظام السخرة والكرباج؛ حيث قدم اقتراحا بذلك إلى نوبار باشا رئيس مجلس النظار، وانتهى الأمر بإلغاء هذا النظام الذي كان يعتبر وصمة في جبين مصر في ذلك الوقت. كذلك فقد قدم اقتراحا بإلغاء جميع الضرائب الإضافية التي كانت ترهق كاهل الفلاحين.
وقد بعثني إلى فضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعه، أسأله عن ذكرياته حول والدي ؛ حيث إنه كان في ذلك الوقت لا يغادر منزله بسبب شيخوخته فقال: إنه في ليلة سفره إلى أوروبا للاستشفاء، وهي الرحلة التي صاحبه فيها، كان يجلس في مجتمع من الأصدقاء، وفي هذا المجلس تلا أبياتا من شعره يقول فيها:
أتذكر مصر إنني منذ نشأتي
أدافع عن أبنائها وأذود
وأمنع من رام اهتضام حقوقهم
ولو خفقت فوق الرءوس بنود
وفي تلك الليلة، تحدث عن ابنه الراحل «إسماعيل»، وتلا أبياتا من قصيدة كان قد كتبها في رثائه. وفيها يقول:
نامعلوم صفحہ