الأربعاء 1 جانفي 1930
الخميس 2 جانفي 1930
الجمعة 3 جانفي 1930
السبت 4 جانفي 1930
الأحد 5 جانفي 1930
الاثنين 6 جانفي 1930
الثلاثاء 7 جانفي 1930
الأربعاء 8 جانفي 1930
الخميس 9 جانفي 1930
الأحد 12 جانفي 1930
الاثنين 13 جانفي 1930
الثلاثاء 14 جانفي 1930
الخميس 16 جانفي 1930
السبت 18 جانفي 1930
الاثنين 20 جانفي 1930
الثلاثاء 21 جانفي 1930
السبت 25 جانفي 1930
الأحد 26 جانفي 1930
الاثنين 27 جانفي 1930
الثلاثاء 28 جانفي 1830
الأربعاء 5 فيفري 1930
الخميس 6 فيفري 1930
الأربعاء 1 جانفي 1930
الخميس 2 جانفي 1930
الجمعة 3 جانفي 1930
السبت 4 جانفي 1930
الأحد 5 جانفي 1930
الاثنين 6 جانفي 1930
الثلاثاء 7 جانفي 1930
الأربعاء 8 جانفي 1930
الخميس 9 جانفي 1930
الأحد 12 جانفي 1930
الاثنين 13 جانفي 1930
الثلاثاء 14 جانفي 1930
الخميس 16 جانفي 1930
السبت 18 جانفي 1930
الاثنين 20 جانفي 1930
الثلاثاء 21 جانفي 1930
السبت 25 جانفي 1930
الأحد 26 جانفي 1930
الاثنين 27 جانفي 1930
الثلاثاء 28 جانفي 1830
الأربعاء 5 فيفري 1930
الخميس 6 فيفري 1930
مذكرات
مذكرات
تأليف
أبو القاسم الشابي
الأربعاء 1 جانفي 1930
في سكون الليل، ها أنا جالس وحدي، في هاته الغرفة الصامتة إلى مكتبي الحزين، أفكر بأيامي الماضية التي كفنتها الدموع والأحزان ... وأستعرض رسوم الحياة الخالية التي تناثرت من شريط ليالي وأيامي، وذهبت بها صروف الوجود إلى أودية النسيان البعيدة النائية.
أنا جالس وحدي في سكون الليل، أستعرض رسوم الحياة، وأفتكر بأيامي الجميلة الضائعة، وأستثير أرواح الموتى من رموس الدهور.
ها أنا أنظر إلى غيابات الماضي، وأحدق بظلمات الأبد الغامض الرهيب.
ها أنا أنظر، فأرى صورا كثيرة تعاقبت على نفسي كغيوم الربيع، وتحركت حوالي كأنسام الصباح، وتعانقت حول قلبي كأوراد الجبل ... ثم أنظر فإذا رسوم غامضة مضطربة متقلبة كأمواج البحار، وأطياف ملونة كقوس قزح، جميلة كقلب الربيع تمر أمامي ثم تختفي، وتتراقص حوالي ثم تبتعد، ثم تتوارى في أعماق الظلام الدامسة. وأرى أحلاما صغيرة ناشئة تغرد كطيور الغابات، وتنمو نمو الأعشاب، وتتفتح تفتح الورود، ثم تجف وتذبل وتتناثر فتذروها الرياح، ثم تضمحل وتتلاشى في سكون المنون.
ها أنا أنظر، فإذا أصحابي المتوفون يعودون إلى الحياة ثانية كأجل وأجمل ما عرفتهم أول مرة، وإذا بنفسي تمثل معهم فصول الحياة الغابرة التي مثلناها بالأمس وطوتها الدهور، وتنسى متاعب العيش وأحزان الحياة، وتحسب أنها ما زالت تلك النفس التي عرفتها بالأمس مضحاكة فرحة كقبرة الحقول، وتنسى أنها قد أصبحت غريبة بين أشباح لا يفهمونها، وحيدة بين أنصاب جامدة تحركهم بواعث المادة وشهوات الجسد، بعيدة جدا عن ذلك الملأ السعيد الذي عرفته في عهدها الماضي والذي ضربت بينها وبينه صروف الحياة فاندفع في سبيل الخلود، فظلت ههنا وحدها تندبهم وترثيهم ...
ها هم أصدقاء طفولتي الحالمة الذين عرفتهم في بلاد كثيرة ... ها هم يتراكضون بين المروج الخضراء ويجمعون باقات الشقيق والأقحوان، ثم يتسلقون الجبال متتبعين أعشاش الطيور الصيفية ومترنمين بتلك الأغاني البريئة الطاهرة، ثم ها هم جالسون على ضفاف الأنهار الجميلة الهادرة يبنون من الرمال بيوتا مسقوفة بأعشاب الحقول، ثم ها هم ينقسمون إلى فريقين يطارد أحدهما الآخر، وهم يمثلون رواية الحياة الكبرى التي تمثلها الليالي دواما وهم لا يشعرون.
ثم ها هي تلك الريحانة الجميلة التي أنبتتها في سبيلي أنامل الحياة، ها هي تنظر إلي بعينيها الجميلتين الحالمتين بأحلام الملائكة، ثم تشير إلي براحتها الجميلة الساحرة وبأناملها الدقيقة الوردية، ثم ها هي تطبع على ثغري قبلة حلوة ساحرة بشفتيها المعسولتين برحيق الحياة.
ثم ها هو أبي ينظر إلي بوجهه الباسم الضحوك، ومن عينيه تفيض عواطف الأبوة الراحمة الحنون، وها هو يحادثني بصوته الهادئ الرزين، ثم ها هو يماشيني في ضواحي «زغوان»، ويصعد في سبل الجبل المحفوفة بأشجار الصنوبر ذي العطر الأريج. ثم ها هو يشير بيده إلى تلك السهول المخضرة المترامية، ومن بينها تتناثر كثير من الأكواخ الجميلة والقصور الكثيرة الأنيقة التي تشابه حمامات بيضاء واقفة بين المروج.
ثم ها أنا أنظر فلا أجد شيئا مما رأيت. لقد ذهبوا كلهم إلى عالم الموت البعيد ... وتفرقوا شيعا في أودية المنون الصامتة، فما عدت أراهم حتى الأبد في مسالك هذا الوجود، وما عدت ألقاهم حتى الموت في صحراء هذه الحياة. لقد احتجبوا عني حتى الأبد، وبقيت وحدي في هذا العالم، أناديهم من وراء الوجود. ولكن عبثا أدعو؛ فإنهم بعيدون عني لا يسمعون نداء روحي، ولا صرخات قلبي الغريب ... لقد ذهبوا كلهم، وبقيت ههنا وحدي أنا في وحدتي وانفرادي، في سكون الظلام.
الخميس 2 جانفي 1930
هي صورة سخيفة من رسوم الحياة. وهل في الحياة غير السخف. ولكن حتى في سخافات الحياة ما يحزن ويقبض على القلب.
عرفته صديقا، أبي النفس، عزيزا، رصين الأخلاق، رزين الصوت، فصيح اللسان، يحب الأدب ولكنه لا يتخذه صناعة، ويحفظ الشعر ولكنه لا يقرضه. وغبت عن الحاضرة حينا من الدهر، فسمعت أن الرجل قد جن واختلط في عقله. فأسفت أسفا - الله أدرى بمداه - ثم رجعت إلى الحاضرة، فإذا الرجل قد شفي وعاد إليه صوابه. فكنت أجتمع به وكان يحادثني ولا يطيل الحديث. فإذا جر الحديث إلى عهد جنونه ذكره في شيء من الأسى والمرارة. وأصبح كثير الصمت إلا قليلا تتعبه المحاورة، وطول الحديث. ثم سمعت أنه عاد إليه جنونه منذ أيام بصورة أعنف من قبل. ومرت أيام لم أره خلالها.
وفي صبيحة اليوم بينما كنت نائما، وإذا بالباب يطرق، فصحت من الطارق؟
فأجاب صوت أجش لم أعرف صاحبه: «أن افتح».
ولما فتحت الباب سمعت صوتا خشنا لا عهد لأذني به يقول: السلام عليكم.
وعلى إثره دخل صديقي المجنون، وكان وجهه أصفر شاحبا يدل على آلام مبرحة في أعصابه، وعيناه لا تستقران على حاجة لحظة واحدة: مرة على السقف، وأخرى على الباب، وأخرى على المنضدة التي صفت فوقها كتب مختلفة، وطورا على النافذة، وحينا على خزانة الكتب الصغيرة.
بادرته بالتحية فلم يأبه لها، كأنما لم يسمع. تناول كتابا من على المنضدة وأخذ يتلو ما فيه من الشعر بصوت غنائي غليظ، ثم يبدو له فيقذف به على الفراش ويتناول غيره ويفتحه ويأخذ في قراءة ما يجد نثرا كان أو شعرا بذلك الصوت الغنائي الذي بدأ به الشعر أول مرة. ثم يسأم الكتاب فيرمي به إلى ناحية من النواحي، ويأخذ في حديث مسترسل مستمر لا ينقطع إلا ريثما يتنفس. ثم يعود متحدثا بتلك النغمة الغنائية التي بدأ بها تلاوة الشعر أول ما دخل. فكأنما قد تدفق عليه تيار غنائي لا يستطيع دفعه. ولذلك فهو يتخذه قالبا لكل ما تتحرك به شفتاه من شعر ونثر وحديث ...
أما حديث صاحبنا فهو مزيج من قصص مختلفة تعاقبت عليه في أدوار الحياة، وآهات وزفرات وابتسامات، وقهقهة ونشيد وصفير، وسخرية، ورحمة وشدة، وقساوة. فربما أخذ يحدثك عن قصة مضت عليها عشرون عاما، فما يبلغ منتصفها حتى يأخذ في حديث آخر لا عهد لك به ولا ذكر، أو في قصة أخرى لم يمض على وقوعها إلا ساعات أو أيام.
وذكريات صاحبنا كثيرة مشوشة تزدحم كلها على ذهنه، فيخرجها لسانه مبلبلة مضطربة مشوشة يمتزج فيها الأول بالآخر، ويلتحم فيها القديم بالجديد. وما تصرمت عليه السنون وعلى ما لم تمض عليه إلا ساعات. فكأنما قد كانت ذكرياته سفرا ثمينا أنيق السفر جميل الورق. يطالع صفحاته من حين لآخر، فتمزق السفر واختلطت الأوراق ولعبت بها رياح عاصفة ... فهو ينتقل بك في سرعة البرق من أدهم باشا ومصطفى كمال إلى أشعة رونتجن، ومن أن التجديد يجب أن يشمل كل شيء حتى اللغة العادية إلى أنه قد ملك مفاتيح الحياة. وكثيرا ما كنت أسمعه يقول: «يجب أن نصبر لما أراده الله» و«أنا نبي العالم» و«أنا فوق القدر» و«أنا كلمة الله التي تعرف كيف ترشدهم وتهديهم، والتي لا تصدها الحجب». وكثيرا ما سمعته يلفظ «أشعة رونتجن» هي عند صاحبنا كل شيء، فهو يستعملها تارة بمعنى القوة المدبرة لكل شيء، وتارة بمعنى الذكاء والعبقرية، وتارة بمعنى سر الحياة.
وبينما يكون صاحبنا جادا في حديثه يحدثك عن نفسه وأوجاعها: «آه.! كبير يا رب أن نعيش مثل هذا العذاب ست سنوات كاملة منذ أن كنت ابن عشر سنين، وأن أتحمل عذاب النفس. وتلاعب الناس وأحقاد الأقربين ...
لقد حاول أخواي أن يقتلاني ويستحوذا على أموالي.»
إذا به يقهقه قهقهة عالية! «ها. ها. ها! إن أشعة رونتجن التي ترتفع بالعبقري مثلي فوق مستوى البشر ... عليك يا صديقي بأشعة رونتجن حتى تكون عصريا، وإياك أن تجهل منزلتي ومقامي. لا. إنك تفهمني حق الفهم، أو بعضه. لا أدري. لا بأس. فالكل سواء، إن يد الله الكريم ترحمنا يا صاحبي.» ثم ينظر إلى الباب فيرى طالبا مارا فيخاطبه: «ها ها هي، تعال يا ڤدع كده. ها. ها. ها. هكذا تكون الحياة ... ولكن لا.»
ثم يسكت قليلا ويغمض عينيه بعد أن يوجههما إلى السقف ويفركهما بأنامله القصيرة، ثم يقول لك وهو ما زال مغمض العينين: «هات ذلك الكتاب يا ولد.»
فتناوله الكتاب. فيفتحه، ثم يقرأ قليلا بلهجته الغنائية الخشنة، ثم يقذف بالكتاب قذفة كبرى على الفراش.
ويندفع مسرعا إلى جماعة الطلبة وهم يتباحثون في مرض الطاعون وأكثرهم خائف. وبعضهم عازم على السفر، فيصيح بهم قائلا: «أنا ريكاردوس قلب الأسد وأنت صلاح الدين. لتقم بدورك لا بد.» إن صلاح الدين وقلب الأسد، في آن واحد يصرخ بصوت تمثيلي قوي: «إن لم أصن بمهندي ويميني ... إلخ.»
ثم يلتفت إليهم قائلا: «أنا وأنتم» و«القطاطس» أحرار. أجل، كلنا أحرار، لأن أشعة رونتجن علمتني كيف أتكلم العربية الفصحى.
الجمعة 3 جانفي 1930
أستعرض حوادث هذا اليوم لعلي أجد فيها ما يستحق الذكر والتعليق، فلا أجد شيئا يلفت النظر. وإنما هي حوادث سخيفة عادية، لا تقف عندها النفس ولا تثير الوجدان.
انتبهت الساعة العاشرة صباحا. وقد كنت على اتفاق مع صديق على زيارة صديق لي في بعض المصطافات الجميلة بضواحي الحاضرة. ولكن الصديق أخلف وعده، وتركني أنتظر حتى انقضى على الأجل المضروب ساعة ونصف، وليس يهمني أكان صادقا في عذره عن إخلافه الوعد وإخلاله بكرامة الصدق أم كان كاذبا فيما انتحله من عذر، وحسبي أنه أخلف وكفى.
ولما كانت الثالثة والنصف بالتدقيق تطلعت إلى الأفق لأرى الجو وأعرف حال الغيوم التي كانت تغشيه؛ إذ قام بنفسي أن أقضي الأمسية في ذلك المنتزه الجميل الحبيب إلى نفسي «البلفدير» بعد أن عدلت عن زيارة صديقي خارج الحاضرة. فكرت فيما ينبغي لي أن أحمله معي من الكتب في نزهتي الجميلة. وتلك عادة من عادات نفسي لا أستطيع أن أذهب إلى البرية أو إلى بعض النزهات دون أن أستصحب كتابا، وسواء علي بعد ذلك قرأته أو لم أقرأ منه سطرا، فبدا لي أن أحمل معي ديوان العقاد ثم «تاييس»، ثم التفت فرأيت على المنضدة كتاب «الآراء والمعتقدات لغوستاف لوبون» فعدلت عن الاثنين واتخذته سميري. وغادرت المدرسة بعد أن تطلعت إلى السماء ثانية، فرأيت الغيوم متفرقة ممزقة تبدو من خلالها زرقة السماء الجميلة. وأخذت سمتي إلى باب البحر لأركب عربة الترامواي. وقد كان أحب إلي الذهاب على الأقدام، ولكني أشفقت أن ينصرم الوقت في المسير فما أصل المنتزه إلا وعلى الكون نقاب من شعاع الأصيل. وجددت في السير مخافة أن تذهب علي الساعات بدادا، فأقضي الوقت في المدينة التي كرهتها ومللت ضجتها الخاوية ... ولكن عبثا كنت أدأب على المسير، فإني ما وصلت إلى محطة الترامواي حتى رأيت الجو يكفهر ويربد، ورأيت الغيوم السود تراكض من أقاصي الأفق.
أعوذ بالله من السخط والنقمة! إلى أين أنا ذاهب وهذه الطبيعة تريد أن تسكب جام غضبها على العالم في هذه العشية.
أنا ما أردت الذهاب إلى البلفيدير إلا لأمتع نفسي بتلك الطبيعة الجميلة الساحرة، وبأسراب الغواني المتخطرات بين الغصون الوارفة وخلال الخمائل تنمقها أوراد الأشجار البنفسجية، ولكي أجلو عن نفسي ما ران عليها من أقذاء الاجتماع وما علق بها من أباطيل الناس وأوهامهم وظلال الجدران الكئيبة العابسة.
وأين أجد هذا، وهذا الجو المكفهر لا ينجلي إلا عن عاصفة هوجاء أو وابل هتان.
إن منظر العاصفة - تتأوه بين الغصون وتهز جذوع الأشجار - جميل رائع، ومرأى المطر - يتساقط فوق الأعشاب ويقبل أوراق الورود - بهيج أنيق. ولكنه ليس بهيجا ولا محببا لفتى يعتقد أنه إن شاهد هذا المشهد فلا يرجع إلا مهشم الرأس أو بليل الثياب كالطائر الطريق.
لا تغامر يا شابي وارجع إلى عشك، واستخلف الله في هذا التعب الضائع والخيبة المرة.
وهكذا رجعت إلى غرفتي الصامتة، وجلست إلى المنضدة وأنا ناقم أشد النقمة ساخط كل السخط. وذهبت أفكر أفكارا كثيرة مضطربة، ولكن عبث الطبيعة لم يقف عند هذا الحد. فإنني ما جلست إلى المنضدة أفكر حتى رأيت خيطا من أشعة الشمس ينحدر إلي من النافذة فيلقي على المكتب رواء جميلا، ويغمر البيت كله بضياء بهيج.
لقد كانت آخر ابتسامة من بسمات الحياة الساخرة. وهكذا راق للقدر أن يعبث بي مرات ثلاثة، ما فرغت من واحدة حتى تلقتني الأخرى بدون إنذار.
وبعد حين توارت الشمس وراء السحب الكثيفة المتراكمة. وكذلك غادرني ذلك الشعاع الجميل بعد أن سخر بي سخرية شيطانية قاسية، وتركني أكاد أتميز من الغيظ. «حينما أخذت أكتب لم أحسب أن الكتابة ستكون طويلة بهذا المقدار، وإنما هي المعاني والصور قد كانت تتابع نفسي آخذة برقاب بعضها».
السبت 4 جانفي 1930
النهار صحو جميل كأيام الربيع، والشمس مشرقة سافرة، والسماء مجلوة صقيلة تغمرها أشعة الشمس، فتنعش النفس وتستهوي المشاعر. وفي النفس شوق إلى مناظر البرية الساحرة، فما الذي يصدك عن الذهاب إليها وأنت بها المغرم المفتون؟
هكذا حدثتني النفس، وكانت الساعة الحادية عشرة، فاستشرت رفيقا لي في اصطحابه لهاته النزهة الخلوية الجميلة، فأجابني أنه يؤثر لو ذهبنا بعد تناول الغداء. فلبثت أنتظره، ولما أنهينا ما بقينا لأجله أخذت برنسي بيميني، وأوصدت باب غرفتي، وذهبت إليه - وكانت الساعة الواحدة بعد الزوال - أستعجله لنزهة الظهيرة بين المروج. ولكن اعتذر بأنه لا يستطيع أن يرافقني لهذا المكان البعيد حيث إنه ضرب موعدا على الساعة الثانية، وساعة واحدة لا تكفي للنزهة وموافاة صاحبه عند الوعد. فلم أزده كلمة وغادرته، وبي من السخرية به أكثر مما بي من الغضب منه؛ لأنني علمت أنه لا وعد ولا صديق، وإنما هي وسيلة اتخذها ليتخلص بها من جمال المروج، حيث إن صاحبنا لم يكن يشغف بما أشغف به، ولا يستخفه من مناحي الحياة ما يستخف نفسي ويهز أوتارها. ولا أطيل فقد غادرته صامتا، وأنا أسرع الخطى إلى حيث أجد المروج الخضراء والروابي الجميلة تموج بالعشب الجميل وتعبق بها الرياحين البرية.
ذهبت ولما أصبحت بعيدا عن المدينة، وعن لاغية السابلة، وقرقعة العربات، تراءت لي البرية الساحرة الجميلة والحقول الخضراء الفاتنة. ولما اقتربت كانت المروج ساكنة هادئة تحلم بأحلام الربيع. وكان الفضاء ساجيا وادعا يشابه بحيرة هادئة تصغي لنجوى النسيم في ليلة مقمرة.
وفي وسط ذلك السكون الشامل المحفوف بالأحلام تنبعث إلى سمعك من حين لآخر أنشودة طائر أنيق يغرد فوق فرع من فروع الزعتر ذي العطر الأريج، أو تغريدة مفردة ترسلها قبرة ذاهبة في ذلك الأفق المسحور.
وكانت أزهار المروج المتناثرة بين المزارع غريرة باسمة تشعشعها الشمس وتحركها النسمات. وكانت تطرز حواشي الأفق المنير غمامات صغيرة متناثرة هنا وهناك ...
في هذا الوسط الشعري البديع جلست منفردا على ربوة صغيرة تتصل بتلال كثيرة، أفكر بأحلام الحياة، وأتملى جمال الوجود، وطافت بنفسي ذكريات كثيرة متتالية كأسراب الطيور، وغصت في عالم الذكرى البعيد.
إلى هاته الربى الجميلة، والتلال الساحرة، منذ ست سنوات، قد كنت آتي منفردا بنفسي، متتبعا هاتيك السبل الصغيرة بين المزارع، ومحاذرا أن أدوس زهرة يانعة، أو أكسر غصنا يداعبه النسيم. فقد كنت أشعر في أعماق قلبي أنني أرتكب جناية كبرى حينما أقطف زهرة ناضرة أو غصنا رطيبا.
ألست أرى تيار الحياة يتسلسل في أعماقها على مهل، وأراها ترمق الأفق الجميل؟
ألست أراها ترتعش بين أحضان النسيم ارتعاشة الغانية على صدر عاشقها السعيد؟
ألست أرى وريقاتها الصغيرة تتحرك حركة من يهم بالكلام، كأنما تحاول أن ترتل أغنية الحب والجمال؟
بلى! فكيف إذا تطاوعني نفسي على أن أقتطفها فتذوي وتموت. وأرى بعيني رفيف الحياة يغيض في أوراقها، وسحر الشباب يتلاشى من ثغرها الجميل، ووريقاتها الصغيرة الفاتنة تتناثر مضمحلة في أكف الرياح.
أجل! فقد أرى أنني أقترف جريمة تألم لها نفسي باقتطافي وردة يانعة، وأحسب أنني قتلت نفسا بريئة، وأزهقت روحا طاهرة، وقضيت على آمال فتية تحلم بفجر الربيع!
ليكن ذلك جنونا أو فليكن هوسا. لا يهمني أي شيء، يجب أن تسمى به تلك الحالة النفسية التي سيطرت على نفسي تلك الأيام. وإنما الذي أريد أن أقول هو أنني لبثت على مثل هاته الحال سنة كاملة، لا أجسر خلالها على إزهاق أرواح الورود، بل حسبي من كل ذلك أن تسر نفسي بمرآها الأنيق، وأن أمتع نفسي بما تسبغه عليها من حياة.
فقد كنت أحس بروح علوية تجعلني أحس بوحدة الحياة في هذا الوجود، وأشعر بأننا في هذه الدنيا - سواء في ذلك الزهرة الناضرة، أو الموجة الزاخرة، أو الغادة اللعوب - لسنا سوى آلات وترية تحركها يد واحدة، فتحدث أنغاما مختلفة الرنات، ولكنها متحدة المعاني، أو بعبارة أخرى أننا وحدة عالمية تجيش بأمواج الحياة وإن اختلفت فينا قوالب هذا الوجود.
وذلك هو ما كان يجعلني أعطف على الزهرة الناضرة عطف الإنسان على الإنسان. ليكن ذلك جنونا أو هوسا كما قلت، ولكن ليت هذا القدر الأصم يصاب بمثل هذا الهوس الذي يشفق على وردة تحلم بفجر الربيع، إذا لكان العالم سعيدا بهذا الهوس والجنون، وكانت الحياة أخف احتمالا ...
كانت تضطرب في نفسي هاته الذكريات، وتعج في قلبي هاته الأفكار والصور، وأنا جالس بين تلك التلال الخرساء الناطقة في صمتها بأبلغ معاني الحياة. ولما فرغت من تأملاتي قطفت ثلاثة فروع من الزعتر ذي العطر البري الأريج، لا زالت على المنضدة أمامي تنقحني بعطر المروج، وتعيد إلى نفسي جمال تلك الحقول، وصور ذلك الماضي البعيد.
الأحد 5 جانفي 1930
أمسية جميلة هي التي قضيتها هذا النهار، جميلة بنوع خاص؛ لأنها كانت في نزهة خلوية إلى البلفيدير. جميلة بوجه أخص؛ لأنها لم تصرف في تلك الأحاديث السخيفة المبتذلة، وإنما صرفت في حوار، إن لم يكن فنيا كله، فإن فيه كثيرا من طابع الفن وميسمه.
كانت النزهة مشيا على الأقدام، صحبة رفيقين من رفقائي في السنة الثانية من مدرسة الحقوق التونسية. وفي ذلك الشارع الرحب الذي غرست على حافتيه أشجار النخيل، قد كان أحد رفيقي يحدثني حديثا هادئا رضيا عن الاحتفال المئوي باحتلال الجزائر الذي ستقيمه فرنسا قريبا هناك، والذي خصصت له نفقات ضخمة طائلة. وقد كان صاحبي وهو يحدثني عن ذلك يبدي سخطه العنيف على كل من يذهب إلى الجزائر من التونسيين في مدة الاحتفال. ويذهب إلى أن ذلك فقط يكفي في نظره لاعتبار فاعله خائنا ومن أسقط الناس. وفي شيء من المضض والازدراء حدثني رفيقي عن هاته الفرق التمثيلية التونسية التي تتسابق إلى تقديم رغباتها للمشاركة في عيد المظالم الاستعمارية. وقد ارتفعت قيمة صاحبي في نظري عما كانت عليه لما حدثني بمثل تلك اللهجة الصادقة مع أنه من طائفة المتوظفين التي لم نعرف عنها إلا أنها أشباح خشبية في موكب الاستعمار العظيم.
وفي لهجة ملؤها السخرية أخذ يحدثني صاحبي عن طائفة أخرى من الناس، وهي هاته الطائفة التي تدعي لنفسها الأدب، وتزعم أنها خلقت لقيادة الأفكار. ثم هي مع ذلك تتخذ من مواهبها بخورا تحرقه أمام العاهرات.
قال: «كنت ذاهبا يوما في بعض شوارع العاصمة لغرض نسيته، وإذا بواحد من هاته الطائفة يقبل علي مصافحا.» ثم أخذ يماشيني، وما هي إلا خطوات حتى قال لي: هل تسمع؟
قلت: ماذا؟
قال: خطبة جميلة.
ثم أخرج من جيبه ورقة كبيرة من ذلك النوع الفخم الأنيق وأخذ يتلو علي في صوت تعبث به غنة الطرب والإعجاب، ورأسه يترنح ذات اليمين وذات الشمال، ووجهه يطفح بشرا، وعيناه ضاحكتان: إلى إلهة الفن، وربة النبوغ، إلى ذلك العصفور المغرد فوق أفنان العبقرية، إلخ ... من تلك الكلمات المرقشة التي تجعل من الفن أغصانا وأشجارا، بل وروضة كاملة، وتجعل من مومسته عصفورا يتغرد فوق أفنانها.
وبعد تلك المقدمة الطويلة التي لا تنتهي من روضة إلا إلى غصن، ولا من شجرة إلا إلى طائر، قال: «إلى ...
نتقدم بمجهود سنة كاملة، وثمرات قريحة مخلصة دائبة ... نتقدم بمجموعة رواياتنا التي ترجمناها وأعددناها لسنتنا المقبلة.»
وبعد أن أتم صاحبي خطابه، طواه بعناية ووضعه في محفظة أنيقة أعدت لذلك، ثم رفع إلي وجهه وقال: ما رأيك؟
فقلت: تسألني عن رأيي؟
قال: نعم.
قلت: إنك بعملك هذا تهين كرامتك ويراعك وقريحتك، وتجعلها تنظر إليك كما تنظر إلى مهرج معتوه، حسبها أن تلقي عليه نظرة راضية من وراء أهداب علقت بها شهوات كثيرة، حتى تستعيده إليها راضيا بكل ما تأمر.
ثم إنك بهذا لا تطمئن إلى رضاها ولا تأمن غدرها؛ لأنك تعلم أنها أمة الدرهم والدينار. فلو عرض عليها غيركم مقدارا أوفر مما تعرضونه عليها لاتبعته، ولسخرت بكل خطبكم المنسقة ومجهوداتكم الفائقة . وبذلك تكونون قد خسرتم كرامتكم وكل ما لديكم، ولم تظفروا بشيء.
وقد هالت صاحبي كل هاته الصراحة، فلم يجب إلا بهزة من كتفه وبابتسامة ذاوية متصنعة أردفها بقوله: «لقد غلوت كثيرا، فإنها لا تتسفل لمثل هاته الوهاد ...»
فلم أجد فائدة في محادثته مرة واحدة. وسكت ساخرا، ثم أردت أن أصافحه مودعا، فأبى علي ذلك، وتمسك بي متشبثا وأقسم أن أرافقه إلى أين هو ذاهب.
فرافقته مرغما. وبعد يسير وصلنا منزل المومس، فتقدم إلى الباب وضغط على الزر ولبث ينتظر. وظللت أنظر إلى الناس وهم غادون رائحون في الشارع الرحب الفسيح. وبعد ساعة انفتح الباب، وظهرت من خلفه أخت المومس. فما كان من صاحبي إلا أن انحنى حتى كاد يلامس الأرض. ثم تناول طرف ردائها وقبله بخشوع كما يقبل الناسك المتبتل ستار المعبد المقدس. فألقت عليه نظرة ساخرة وابتسامة ماكرة، يمتزج فيها الخبث بالمكر والازدراء. ثم تقدمت إلي مرحبة. وتقدمتنا إلى الطابق الثاني ثم أدخلتنا إلى غرفة نوم المومس. ولما دخلنا إلى مخدع «آلهة الفن» كما يريد أن يقول صاحبي في خطابه، ألفيناها مضطجعة فوق سريرها بين المساند الحريرية واللحف المزركشة. فتقدم إليها صاحبي، وفي نصف ركوع مد إليها يده مصافحا. ولما أبصرتني حاولت أن تنهض لتصافحني. فابتدرها صديقي الأديب قائلا: لا تتعبي نفسك ولا تكلفيها النهوض، فإنه صديقي كنفسي. فلما لم تستطع اعتذرت إلي فأجبتها بما حضرني ...
حديث سخيف لا طائل تحته. وقف صديقي إزاء السرير ورأسه لا يكاد يتجاوز حشية السرير. وأخذ يتلو خطبة في صوت حاول أن يجعله رصينا رنانا واضح المقاطع قوي النبرات. ولما أتم خطابه قدمه إليها في شيء من الاحترام والإجلال ... ولا تسأل عن سرور صاحبنا حينما قالت له: «أحسنت» ووضعت خطابه بين نهديها كناية عن الرضاء.
لا تسأل عن فرحته فإنني ما حسبت إلا أن المقعد سيثب به أو يطير. وهكذا تمت تلك المهزلة البشرية. هاته المهزلة التي تضحك وتبكي في آن واحد، هاته المهزلة التي كان بطلها واحد من فئة تدعي لنفسها الزعامة الفكرية في هاته البلاد، واحد من طائفة أدباء البلاد التونسية ...!
إلى هنا ختم صاحبي قصته، وقال لي: ماذا ترى في هذا الأديب؟ فقلت: أرى فيه أنه لا يملك شيئا من كرامة النفس الإنسانية، ولا عزتها العريقة، هاته الكرامة والعزة التي هي ذخر الإنسانية الثمين، والتي يحتاج إليها الأديب والفنان أكثر من كل إنسان؛ لأنها هي التي تخلق في نفسه تلك العزيمة الاستقلالية المنتجة. تلك النزعة التي تجعله أكثر شعورا بنفسه واعتزازا بها مما عداه. وبذلك تكتسب شخصيته الوضوح والجلاء في آثاره، وتتخذ لها مسلكا خاصا بين المسالك، ومذهبا لها بين مذاهب الحياة.
والتماس هاته الحقيقة لا يكلفنا عناء البحث. فإن أكبر الشخصيات في عالم الأدب والفنون إنما هي تلك الرؤوس المفكرة التي تعتز بما لها من مواهب، وبما عندها من شعور، والتي تشعر أن لها كيانا مستقلا لا يمكن أن يندمج في سواه، وأن لها عزة لا ينبغي أن تهان، في حين أن أحقرها هي تلك التي يضعف شعورها بنفسها وبما لها من عزة وكرامة فتزج بنفسها في سبيل المهانة والذل والتقليد، ولا تشق لنفسها سبيلا بكرا للمجد والحياة.
فالمتنبي قد كان عزيز النفس شاعرا بعزته وكرامته رغم امتداحه الملوك، وبذلك تخطى أعناق الدهور إلى سماء الخلود. والمعري قد كان أكثر شعورا بعزته وكرامته، وبذلك ابتكر مذهبا جديدا في الفكر، ومدرسة حديثة في تفهم الحياة.
قد بقيت أحاديث أدبية كثيرة حال دون كتابتها هنا امتلاء الصحيفة.
الاثنين 6 جانفي 1930
كنا جلوسا بقاعة المطالعة بجمعية قدماء الصادقية، وكان الحديث يدور حول سي يوسف المحجوب، وإخلاله بالوعد الذي ضربه للناس في أنه سيلقي مسامرته بالنادي الأدبي. وتركه الناس ينتظرونه بدون طائل، ثم افتياته على رئيس القدماء ورئيس الخلدونية ونشره بالجرائد أن سيلقي مسامرته عن: «فرجسون أو الروح والجسد» تحت إشراف القدماء بقاعة الخلدونية. وقد كان أكثر الحاضرين لائما عليه فيما عمل، والبعض منهم ناقم ساخط، والبعض الآخر صامت لا يبدي رأيا.
وما هي إلا ساعة حتى دخل أمين مال القدماء فشارك الناس فيما هم فيه، ثم تطور الحديث وأخذ مجرى آخر غير ما كان عليه. طلب رئيس القدماء من السيد بوسن أمين مال القدماء أن يدفع فرنكات 150 في مقابل تلقي ابنه دروسه بالخلدونية ستة أشهر، وأن يبقيها أمانة عند رئيس القدماء إلى أن يقتطع باسمه وصلا، فما كان منه إلا أن أدخل يده في جيبه وسلم المقدار إلى رئيس القدماء. وإذ ذاك صاح رئيس الخلدونية ضاحكا: سترى اسمك في الجرائد معلنا عنه أنه تبرع على الخلدونية بمائة وخمسين فرنكا لأن الخلدونية تعطي دروسها مجانا. وعندها قال رئيس القدماء: بل أحتجزها للقدماء كشيء متبرع به عليها من أمين مالها.
فكانت مشادة بين الأخوين الرئيسين فيها كثير من الدعابة والجد؛ كل يدعي أن جمعيته جديرة به. ولم يحسم الخلاف إلا بكلمة من سي بوسن بأنه يتبرع على كل من الجمعيتين بهذا المقدار. وهنا كان هتاف ودعوات وبسمات، انهالت على رأس أمين المال قبل الرئيسين الحاضرين ممزوجة بشيء من اللهو البريء. وإذ ذاك قام الأخ زين العابدين السنوسي معلنا للجماعة نبأ جديدا عن سي حمودة بوسن كما يقول الأخ بتعبيره. هذا النبأ هو أن «سي حمودة» تبرع بمبلغ قدره ثلاثة آلاف فرنك لتكون جائزة تخصص لبحث أدبي يتسابق فيه الأدباء التونسيون، وزاد على ذلك مخاطبا أمين المال: «إنني يا سي حمودة العزيز، ويا نوبل تونس الكريم، سأخصص لك ولجائزتك صحيفة من «العالم» تحلى برسمك ويجعل عنوانها هكذا: «جائزة بوسن». كما يستعمل الغربيون «جائزة نوبل»، من دون تحلية ولا زيادة.»
ولقد هزتني أريحية هذا الرجل الفاضل النبيل الطيب القلب بصورة لم أستطع طبع عواطفي، فنهضت من مكاني وجلست إزاءه أشكره على مبراته. وبعد ذلك أخذنا في تعداد أسماء الأفراد الذين يستحسن أن تتكون منهم لجنة التحكيم. فعددنا أفرادا كان من بينهم الأخ زين العابدين السنوسي بطلب منه وإلحاح في ذلك، وإثر ذلك قال الأخ زين العابدين السنوسي: «سأحدثكم بنبأ جائزة أخرى أدبية، ولكنها دون هذه في المنزلة، هي جائزة مالية تبرع بها فاضل آخر لتنشيط الأدب، وإن كان في استطاعة هذا الفاضل أن ينشطه بأكثر مما نشطته به؛ إذ إنه مثر وفي الدرجة الأولى من الثراء.» ثم قال موجها خطابه لحضرة أمين المال: «ولكن الله لم يرزقه ثراء في قلبه على نسبة ثراء جيبه. أما أنت يا سي حمودة الغالي، فقد أعطاك الله ثروة في القلب، وأخرى مثلها في الجيب». فقال له ذلك الرجل الطيب القلب: «عدي عن ذا يا سي الزين». ثم قال الأخ زين العابدين: وفي عزمي أن أفتح اكتتابا حتى تصير الجائزة ثلاثة آلاف فرنك أخصصها لمسابقة روائية تونسية، وتكون الجائزة جائزة «العالم». وفي ذلك الوقت تذكر أنه قد نبهه قيم القدماء إلى أن رجلا يريد مقابلته، فذهب.
ولما خرج التفت إلي سي حمودة بوسن وقال: «إن سي زين العابدين يقول كثيرا وأنا أخاف من المكثرين». فقلت له: إن سي الزين يقول كثيرا ولا يعمل. ثم ندمت على تسرعي بمثل تلك الجملة؛ لأن الأخ زين العابدين نشيط كالنملة، حريص كالأرض، ولا يصبح قوالا غير عامل إلا إذا لم يجد مجالا للعمل. فإنه يندفع في القول الكثير وكأنه يعلل بذلك نفسه الظامئة، وآماله الفساح.
ولما عاد الأخ زين العابدين كان مبتهجا ضاحكا. وصاح بقيم القدماء: «هات أربع كاسات طرنجية والدفع علي». ولما شربناها خرجنا، وأنا مبتهج أعظم الابتهاج؛ إذ رأيت الناس في تونس قد أخذوا يشفقون على الأدب، ويعملون على تشجيعه والنهوض به إلى مستواه بمختلف الوسائل. ثم افترقنا ونفسي تفكر بالأوساط التونسية، فإذا بي ما ألتفت إلى ناحية من نواحي الحياة التونسية إلا وأجد فيها نشاطا وحركة ونهوضا مما يبشر بأننا الآن في عصر انتقال وتطور ستشمل حركته كل ضروب الحياة في تونس. حقق الله الأمل، فقد طال هذا الظلام!
الثلاثاء 7 جانفي 1930
أشعر الآن أني غريب في هذا الوجود، وأنني ما أزداد يوما في هذا العالم إلا وأزداد غربة بين أبناء الحياة وشعورا بمعاني هاته الغربة الأليمة.
غربة من يطوف مجاهل الأرض، ويجوب أقاصي المجهول، ثم يأتي يتحدث إلى قومه عن رحلاته البعيدة، فلا يجد واحدا منهم يفهم من لغة نفسه شيئا.
غربة الشاعر الذي استيقظ قلبه في أسحار الحياة حينما تضطجع قلوب البشر على أسرة النوم الناعمة، فإذا جاء الصباح وحدثهم عن مخاوف الليل وأهوال الظلام، وحدثهم في أناشيده عن خلجات النجوم ورفرفة الأحلام الراقصة بين التلال، لم يجد من يفهم لغة قلبه ولا من يفقه أغاني روحه.
الآن أدركت أنني غريب بين أبناء بلادي. وليت شعري هل يأتي ذلك اليوم الذي تعانق فيه أحلامي قلوب البشر، فترتل أغاني أرواح الشباب المستيقظة، وتدرك حنين قلبي وأشواقه أدمغة مفكرة سيخلقها المستقبل البعيد ...
أما الآن فقد يئست. إنني طائر غريب بين قوم لا يفهمون كلمة واحدة من لغة نفسه الجميلة، ولا يفقهون صورة واحدة من صور الحياة الكثيرة التي تتدفق بها موسيقى الوجود في أناشيده. الآن أيقنت أنني بلبل سماوي قذفت به يد الإلوهية في جحيم الحياة، فهو يبكي وينتحب بين أنصاب جامدة لا تدرك أشواق روحه، ولا تسمع أنات قلبه الغريب ... وتلك هي مأساة قلبي الدامية ...
يقولون حدثنا عن الحقيقة، وخلنا من خطرفة الخيال ... وهل حدثهم قلبي عن غير الحقيقة منذ علمته الحياة الكلام؟ ولكنني حينما تحدثت عن الحقيقة لم أتحدث عنها بتلك الأحاديث التافهة التي ألفوا أن يسمعوها عن جداتهم في سكون الليل، وهم بين تهويم النوم ومناجاة الأحلام ...
ويقولون: صف لنا الحياة. وهل وصفت لهم غير الحياة منذ غنيت لهم أناشيدي، ولكني حين وصفت لهم الحياة لم أصفها لهم من نواحيها القريبة الواضحة، وإنما وصفتها من نواحيها البعيدة الغامضة المحجبة بالضباب.
ويقولون: ما لك لا تفكر في شعرك؟ وإن لك في أسلوبك جمالا ما نجده عند سواك! وليت شعري! ما هو التفكير إن لم أكن مفكرا في أغاني ...! لست أدري حين يقولون ذلك هل أنا الشاعر المجنون الذي يترنم منشدا بين القبور؟! أم هم الأغبياء الذين لا يفهمون أشواق الحياة ...؟!
اجتمعت صباح هذا اليوم بأديبين أعرفهما كثيرا، ولا أريد أن أسميهما: أحدهما ملحد متجاهر بإلحاده، وثانيهما ملحد يكتم إلحاده إلا عن الخاصة من خلصائه الذين لا يخشى لهم مغبة. وما إن استقر بي المجلس حتى قال ثانيهما يخاطبني: «إن أدبك يا صديقي فن غريب لا أظنه يعيش في تونس، فأنت في شعرك من الشعراء الذين يدينون بالمذهب الرمزي: «سانبوليزم»، وإنني لعلى يقين من أن أدبك لا يفهمه في تونس إلا أفراد قلائل لا يتجاوزون الأربعة أو الخمسة على الأكثر.
فعارضه الأديب الأول قائلا: أراك غلوت كثيرا في حكمك، وجاوزت حد الإنصاف، وما أدراك أن أدب صديقنا لا يفهمه إلا مثل هذا العدد النزر اليسير. ولأبدأ بنفسي، فإنني أفهم شعر صديقنا حق الفهم، وأدرك مراميه البعيدة، وأشعر حين أقرأه بخيالات تجول في نفسي، وبعواطف تتحرك في قلبي، وبآفاق تنفسح أمامي وتمتد. ولكني رغم كل ذلك ورغم إعجابي بأدب صديقنا وإكباره، فإنني أود لو لم يقصر مواهبه على هذا اللون الوحيد من الأدب، ولو خاض معترك الحياة وعاد لنا بمثل عنه وصور وميزات.
فأجابه الآخر قائلا: إنني لا أزال مصرا على رأيي وأجزم به، فإن أمير الشعراء مثلا لا يفهم من شعر أبي القاسم الشابي شيئا. أقول لك هذا وأنا على يقين مما أقول. إن هذا الفن من الأدب الذي يتخذ من الطبيعة رموزا لمعاني النفوس جميل جد جميل، ولكنه سام جدا، وغامض في سموه، بحيث إنه لا يفهمه إلا نفوس قليلة نادرة، حتى إنني لا أفهم من فن أبي القاسم ومراميه إلا قليلا حينما تكون ليس لها من الغموض والرمز حظ كبير. وقصاراي فيما عدا ذلك أنني أحس بقوة غريبة تستحوذ علي حين أتلوه لا أستطيع لها فهما. فأعجب به وأقول: لا بد أن وراء هذا الرنين حياة، ولا بد أن خلف هاته الغيوم آفاقا فسيحة.»
ولما انتهى صاحبي من كلمته، أحسست باليأس والقنوط يستحوذان علي، وقلت في نفسي كما قال يوليوس قيصر حين لعبت به السيوف: «حتى أنت يا أنطونيوس». أجل! فقد كنت أحسب أنه خير من فهمني، وأدرك أشواق قلبي وأفراحه، وأصغى لأغاني روحي، وأغانيها في ظلمة القفر البعيد ... فإذا به شر من جهل لغة نفسي، ولم يفهم منها إلا الساذج البسيط. وظللت صامتا لا أتكلم، وأنا أقول في نفسي: «لست والله غير طائر غريب يترنم بين قوم لا يفهمون أغاني الطيور، ولكن هل يحفل الطائر بالوجود حين يترنم؟ هل يسأل الناس أيكم يفهم أغاني الطيور؟ كلا! يا قلبي! كلا ... سر في سبيلك يا قلبي، ولا تحفل بصفير الأبالسة، فإن وراءك أرواحا تتبع خطاك.»
الأربعاء 8 جانفي 1930
لم أغادر المدرسة سحابة هذا اليوم، فقد كان النهار كثيبا متجهما تلبد في سمائه غيوم كثيرة. وكان العملة يعملون لتكليس غرفة الطلبة، وكانت أدباش الطلبة وخريثهم مكردسة هنا وهناك، وكانت آلات العمل مبعثرة بالبيوت وأمام الجدران. وبالجملة، فقد كان منظر المدرسة على غاية من التشويش وسوء النظام، ولكنني مع ذلك اخترت المكوث بالمدرسة كامل هذا اليوم على أن أغادرها، فقضيت قسما من الصباح في دراسة قانونية صحبة بعض رفاقي من طلبة الحقوق، زارنا في أثنائها ضيف ثقيل، كاد أن يكدر علينا ما اجتمعنا لأجله، وأن ينغص علينا الحياة.
وقد كان زائرنا هو ناظر العملة الذين يعملون بالمدرسة. وهو رجل أشقر اللون، ممتلئ الجسد، تمتزج في نظرته غباوة الضبع بخبث الثعلب. وقد كان صاحبنا مهذارا لا يكاد يكف عن التحدث والتساؤل، حتى لقد همس إلي بعض رفاقي ضاحكا: «ما أجدره بصناعة حلاق، ولكن القدر ظلمه حين وضعه في وظيفة مراقب العملة.»
دخل علينا صاحبنا وحيا، ثم جلس على مقعد والتفت إلى الشباك فرآه مفتوحا، فأراد أن يلقي علينا نصيحة غالية.
فقال: «ما كان من حقكم أن تفتحوا الشباك في حين أنه مواجه لباب البيت، ألا ترون أنه يحدث تيارات هوائية بالبيت ربما أضرت بكم وأضرت بالجالسين.»
فقال له رب البيت: «لقد فتحناه قصد إحداث هذا التيار لجرف رائحة النوم وتصفية هواء البيت.»
فلم يسكت وقال: «ولكن هواء البيت قد أصبح نقيا صافيا، ولذا فالواجب غلق الشباك أليس كذلك؟»
فقال له صاحبي وكان أوسعنا صبرا: «لقد فتحناه عن إرادة وقصد، وغايتنا أن الهواء متجدد على الدوام، خصوصا ونحن بعيدون عن منطقة الخطر، إذ إن مجلسنا بعيد عن مصب التيار الهوائي.»
فلم يقتنع صاحبنا الثقيل، وأراد أن يطيل الحوار. ولكننا أغضينا عنه ولم نعره التفاتا. وأخذت أسرد، وكأن صاحبنا لم يفهم. فزاد في حديثه الجميل، ثم التفت إلى أحدنا وكان يدخن قائلا: «أليس حراما عليك أن تدخن، وأنت تدرس العلم، وكتب العلم أمامك مفتوحة؟»
فابتسمنا جميعا، وأجابه المدخن: حقا، ولكن هاته كتب قانونية ليس إلا؟ ثم أعقب الرفيق كلمته بابتسامة فيها من السخرية شيء كثير.
ولكن صاحبنا الثقيل لم يفهمها أو لم يرد أن يفهمها، بل قال ضاحكا: «إذا فناولني سكارة» فلما ناوله قال: «بارك الله فيك» وما كان أغنى صاحبي عن دعواته. ثم أردف قائلا: «حقا إن التدخين جميل يدفع عن النفس ما يثقل عليها» وأتبع كلمته الذهبية بابتسامة بغيضة مستثقلة.
وانتهزت فرصة سكوته وتناولت الكتاب وأخذت أتلو، ولكن صاحبنا أخذ يتحدث من جديد مع بعض الرفقاء، فوضعت الكتاب ولبثت صامتا أصغي لحديثه الممل، وأعجب لروحه الثقيلة التي لا تفهم أنها نقمة سلطها الله علينا. ودخل في حديث طويل عن الوظيفة والمتوظفين، وعما نقرأ من دروس، وما لنا من مستقبل. ثم تساءل عن الرئيس الذي سيخلف رئيس الجمعية المتوفى. فأجابه أحدنا: «بأنه يشاع أنه سيكون فلانا. فأخذ يحاوره، ثم أخذ يسأل عن سكنى فلان، في أي شارع هو؟ وعن الشارع في أي قسم من العاصمة هو؟ وما عدد المنزل؟ وما هي صفاته؟ ولم يبق له إلا أن يسأل عن عرضه؟ وطوله؟ وكم فيه من طابق؟ وكم فيه من لبنة؟».
وهنا كان قد ضاق ذرعي به، ونفد كل ما معي من الصبر. فأخذت الكتاب بعنف وأخذت أتلو السطور والصفحات، وكأن صاحبنا قد شعر بأن مركز الثقل النوعي قد كان كامنا فيه، فتحرك وتحفز وأخذ ينظر، ولما رأى أنه لم يقسم عليه أحد ليطيل الجلوس نهض واقفا ثم ودع وانصرف.
ولما خرج شعرت كأن ثقلا قد أزيح عن عاتقي، وأخذت أتنفس بملء رئتي من ذلك الهواء الذي كان ينفحنا به الشباك المفتوح، رغم أنف صاحبنا الثقيل. ثم قلت: الحمد لله على رحمته بعد نقمته، ونعمته بعد عذابه.
وأما المساء فقد قضيته بين التنقل من بيت إلى بيت، ومن الوقوف مع هذا الطالب الذي يخاصم العامل ويتهمه بأنه غشه ولم يخلص في عمله، ويهدده بأنه سيأتي بأمين يقدر ما في عمله من نقص وغش، إلى الوقوف أمام صاحبنا الثقيل والاستماع إلى حكمه الثمينة الغالية، وقصصه الجميلة الفكهة التي تغشى على النفس وتكاد تقضي عليها، إلى دراسة قانونية مع رفاقي من طلبة الحقوق. وهكذا تصرم العشي وانقضى.
ولما تفرق جمع العملة وانقضى العمل، وذهب كل في سبيله وانتهى عملنا القانوني، جلست إلى المنضدة وأخذت أتلهى بتنظيم الكتب والعبث بالأوراق. وما هي إلا ساعة حتى أقبل صديق أديب وبيده السياسة الأسبوعية، فتناولتها منه وأخذت أقرأ بعض فصول فيها، فوقع نظري فيها على فصل موجه إلى الدكتور هيكل أذكرني بفكرة انتقادية وجهتها علي مقدمة هيكل التي كتبها لكتابه «تراجم مصرية وغربية» التي اختصر فيها تاريخ مصر وذكر فيها آراء غريبة وطرقا شاذة في التاريخ ودراسته، فصارحت صديقي بفكرتي، فألح علي في أن أكتبها وأنشرها على صفحات «العالم» فوعدته، ولكنني لم أكتبها لحد الآن، ولا أدري هل أنا كاتبها أم لا؟ إن فكرة المقال جاهزة مهيأة لا تحتاج إلا لإجراء القلم، فإذا المقال حاضر، ولكنني أشعر بتثاقل عن كتابة الفكرة لا أعلم مأتاه.
الخميس 9 جانفي 1930
عرفته أديبا له حظ موفور من بعد النظر ورجاحة التفكير وجمال الأسلوب. وعرفته شاعرا له روح حساسة شاعرة، وأحلام غريبة رائعة، وخيال قوي وثاب.
وكنت إذا جلست إلى الناس واستمعت أحاديثهم شعرت بالحاجة إلى ما يثير عواطفي، ويحرك وجداني، ويؤجج في داخلي نيران الحياة؛ لأنني أرى الخمول يدب في مشاعري ويستحوذ على نفسي كأنها انقلبت قبضة من رماد خابية. أما بجواره فإنني أحس بعواطفي وإحساساتي تتقد وتتوهج وتندفع وتجيش كعاصفة من نار، وأشعر بأنني شعلة حية نامية تضطرم في موقد هذا الوجود؛ لأنه كان يحمل بين جنبيه عاصفة نارية مشبوبة تدوي بتيارات الحياة، ولم يكن يحمل بركة آسنة تعكس على صفحاتها النائمة أشباح الجبال وظلال الغيوم. ولأنني كنت أجد في صدره تلك النفس الحساسة الطموح الجياشة بشتى المعاني والصور، وذلك القلب الشاعر الملتهب الذي يطبع كل ما يلامسه بطابع من نار.
نعم عرفته، ولكنني في الحقيقة لم أعرفه، فإنني لم أكتشف مناجم قلبه الذهبية، ولم أطلع على ما في روحه الشجية من كنوز غربية قبل اليوم.
كان الوقت أصيلا والشمس تلقي على أشجار البلفيدير حلة ذهبية ساحرة، وفي السماء غيوم ملونة زاهية، وأنا ورفيق لي جالسان إلى مقعد من مقاعد البلفيدير، وأمامنا سرب من عذارى الإفرنج يلعبن لعبة «التنس» في رشاقة وخفة كالعصافير، وفي يميني كتاب «رافائيل» الذي رسم فيه لامارتين صورا من شبابه الزاخر بالعواطف والأحلام، ورفيقي يطالع «تاييس»، وأنا أجيل بصري مرة في جمال السماء التي توشحها الغيوم، وأخرى في رقة الشمس الذائبة على ذوائب الأشجار، وطورا في فن الحياة الماثل في هؤلاء الغواني اللواتي ترنح أعطافهن حميا الشباب.
وأقبل صاحبنا الشاعر، وأنا أطالع صفحة من «رافائيل» ورفيقي غارق في «تاييس» إلى أذنيه. فقال بعد التحية يخاطبني وهو يجلس بيننا على المقعد: «عجبت ألا يصرفك جمال الوجود وفتنة هؤلاء العذارى اللاعبات عن أوراق الكتب؟! وقد عهدتك من عباد الطبيعة والجمال. أولا توافقني على أن الكتب رغم ما فيها أحيانا من غذاء شهي للفكر والعاطفة، كثيرا ما ظللت الناس وأركبتهم متن الشطط في أحكامهم؟ وإن خيرا لهم لو أخذوا دروسهم رأسا عن هذا الكون العجيب.
فأجبته: «لو كان كل الناس يستقون من منبع واحد هو هذا العالم الرائع لكان الناس أسعد حالا مما هم عليه الآن، ولاستراحوا من كثير من الأضاليل والأوهام التي تثقل عقولهم وتنوء بها أرواحهم في أودية الزمان، ولكن الله - لشقاء البشر - لم يطبع الناس على غرار واحد في المواهب والملكات حتى يمكنهم كلهم أن يتلقوا دروس الحكمة عن هذا العالم الكبير. أما استصحاب الكتب فقد أصبحت عادة لي كلما ذهبت إلى منتزه أطالعها حينا ، وأطالع الكون أحيانا، وأسترسل مع نفسي آونة في عالم كله أطياف وأحلام».
فالتفت إلي صاحبي، وكان قد رجع إلى الانكباب على «تاييس» وقال له: «وأنت ماذا تطالع يا صديقي؟ فإني أرى كتابك قد فتنك عن نفسك وملك عليك كل مشاعرك».
فقال وهو يبتسم: «تاييس».
فقال: «إن هذه القصة الفلسفية جميلة رائعة، ولكنها لا تعدو - كآثار كل أولئك الذين ندعوهم فلاسفة وشعراء ومفكرين - أن تكون ثرثرة نفس معذبة تحترق في جحيم الحياة».
فقلت: وكيف ذلك؟
قال: «لقد كتب هؤلاء الفلاسفة والشعراء والمفكرون كثيرا، بل أكثر مما يتصور العقل، ولكن الإنسان ما زال في صميمه هو ذلك الإنسان الأول الذي يقضي أيامه باحثا عن طريدته بين الأدغال والأودية، وفي شعاب الجبال وأحشاء الكهوف، وما زالت الطبيعة كعهدها منذ الأزل تلك الغابة الآبدة المرهبة التي يمشي في ظلماتها ركب الإنسانية التائهة بأقدام مهزولة وأجفان مطبقة ...».
فقال له صاحبي - وهو يعابث صفحات الكتاب -: «فما لك تنظم الشعر إذا يا صديقي؟»
فأجابه في لهجة ملؤها المرارة والألم: «لأنني لم أجد دورا أسخف من هذا أمثله في رواية الحياة السخيفة».
فابتسمنا حائرين، ثم صمتنا واجمين، ثم أطرقنا مكتئبين، وأخرج صاحبنا سيقارة أشعلها وانطلق يدخن صامتا. ثم وضع رجلا على رجل وولانا ظهره، وراح يغني أغنية رقيقة هادئة كثيرا ما يغنيها حينما تكون نفسه هائمة، وأفكاره مضطربة ثائرة. ومرت فترة من الزمن مثقلة بالحيرة والتشاؤم، وكان هو أثناءها يتغنى بصوت خفيف كأنما يناجي نفسه أو يخاطب روحا هائمة، ثم نهض واقفا وهو يقول: «لقد مللت هذا المكان. فهل لكم في غيره.»
فقلت له: «وكيف تمل يا صديقي وحولك هذا المشهد الطبيعي الجميل، وأمامك هؤلاء الصبايا اللواتي لم تخلقهن الحياة إلا ليحركن في الناس عبادة الحب والجمال.»
فقال متضجرا: «الحب والجمال»، «دعونا يا عبيد الحياة من هذه الكلمات الجوفاء ذات الرنين، فما الأفراح واللذات والأحلام والشهوات سوى أشراك ذهبية لامعة تنصبها لنا الحياة لتقودنا بها عبيدا مسخرين إلى غاياتها البعيدة الغامضة».
فقلت: «وهل تدعونا أنت إلى التحرر من عبودية الحياة؟»
قال: «كلا! فأنا لا أدعو إلى هذا لأن الانطلاق من عبودية الحياة معناه الموت، بل الموت نفسه ليس إلا لونا آخر من ألوان هاته العبودية الخالدة، ولكنني أكبر من العبد الأسير أن لا يحسب القيد حلية فيستقبله مهللا شاديا محتفلا، بل يتلقاه وهو عالم أنه ليس إلا قيدا براقا وغلا مموها بالذهب ...»
فقلت له: «وما جدوى هذا؟ أليس هذا مما يجعل الحياة شديدة لا تطاق؟»
قال: «ما الجدوى وما الفائدة؟ تريدون لكل شيء فائدة، ولكنكم لا تسألون عن الفائدة من خلقكم في هذا الوجود ... ما الفائدة؟ حتى الحقائق تريدون لها قيمة ذهبية ...! تالله ما أسخفكم يا عبيد الحياة، الفائدة هي أننا عرفنا الحقيقة ولو كانت مرة، ولم نكن مخدوعين بشعوذة الحياة ...، ولكنكم تفرون من الحقيقة المرة مؤثرين عليها حلاوة الأوهام.»
ومر بنا صبي صغير يقتاد قردا وهو يعرضه على النظارة ليمثل أدوارا علمته إياها العادة والمران، فأشرت إليه في شيء من السخرية والجفاء والمرارة قائلا: «يا للشقاء والخيبة على مثل هؤلاء تشيد الأمم صروح الأمل؟». فتأفف قليلا، ثم قال ثائرا وهو ينفث الدخان من فمه: «السخرية! الجفاء! الكلام! ذلك ما علمتنا الأيام، أما الحقائق فهي تبكي وحدها في ظلام الأسى ... ثم رماني بنظرة عطف وقال: «لا تسخر يا صديقي! فإن كل واحد من أبناء الإنسان يجر من نفسه قردا أو قردة في مسالك الحياة الوعرة ...، فواحد من سخافاته وادعاءاته، وواحد من غروره وكبريائه، وواحد من دناءة الطبع وخساسة النفس، وواحد من إقفار الذمة وخراب الضمير، إلى كثير غير ذلك من أنواع القردة المعنوية التي يجرها الناس وهم لا يشعرون ...»
الأحد 12 جانفي 1930
ليس لدي ما أكتبه اليوم عن نهاري هذا. ولعل خيرا لي أن أذهب إلى فراشي وأنام، لأنسى في عالم الأحلام مشاهد هذا الوجود السخيف وآلام القلب المرة الموجعة.
ولكنني أدري أنني لا أنام إلا وبأجفاني خيالات الدموع وأشباح الأسى، سآوي إلى فراشي وستتجاذبني الأحلام المخيفة المزعجة والذكريات الأليمة الدامية، ذكريات الأمل الضائع والقلب الصديع، وسأرى أبي. آه نعم ! ذلك الأب الذي قد شق له الناس لحده، وسووا عليه التراب، وبقيت بعده في الحياة آلم وألذ، وأسر وأحزن. أجل سأراه كما قد رأيته في ليالي الكثيرة الخالية حينما ينطفئ السراج ويشمل الغرفة ظلام الدجى ... أراه وهو في حالة ساكنة هادئة، يحادثني في شؤون كثيرة بصوت هادي مطمئن، وأراه وقد اشتدت عليه وطأة الداء، وأصبح يعالج ألم الموت ونزاع الحياة، والطبيب يفحصه ويحقنه بأدوية كثيرة. ثم يخرج يائسا مخفيا يأسه عني أنا المسكين الصغير ...
وأراه وقد شمله الموت براحته، فأصبح ساكن الطائر، متزن النفس، تخاله في حلم النائم المطمئن، والنساء يبكين في قلب الليل ويملأن فجاج الأفق برنات النياحة، وأنا كالطائر الذبيح أكاد أجن من الحزن والنحيب، طورا أقف عند رأسه، وأخرى عند رجليه، وأخرى أجلس عن يمينه، وأخرى عن شماله، وبيميني هاته أجرعه من حين لآخر جرعا من الماء يكاد يمازجها دمعي المنهل، وتكاد تريقها هزات تسبيحي. ثم رأيته التفت إلي وأوقف مقلتيه، فحسبته يرنو إلي فاقتربت منه قائلا: أبي! أبي! ماذا تريد ...؟ ولكن آه يا قلبي لقد كانت تلك نظرة الموت، حسبتها نظرات الحياة تدعوني. ثم لوى عنقه وشخص ببصره وارتجفت شفتاه بالشهادة التي لم يفتر عن تردادها، ولفظ النفس الأخير.
لقد مات أبي أيها القلب! فماذا لك بعد في هذا العالم. مات أبي وظللت أنتحب وأنوح وأبكي بكاء النساء، ثم طبعت على جبينه البارد قبلة كانت آخر عهدي به. فسلام عليه يوم ولد، ويوم مات، ويوم يبعث حيا، ورحم الله روحه بين الأرواح الطاهرة الكريمة.
كلما آويت إلى فراشي طافت بي هاته الأشباح والرسوم. فلا أنام إلا وفي قلبي لذعة الذكريات، وفي أجفاني عبرات الأسى. وها أنا ذاهب لأنام، وأنا أعلم أنني لن أنام إلا باكيا كئيبا.
الاثنين 13 جانفي 1930
ذهبت أنا والأخ زين العابدين والأخ مصطفى خريف مساء اليوم إلى النادي الأدبي لإلقاء محاضرتي عن كتاب «الأدب العربي في المغرب الأقصى» الذي طلب مني النادي الأدبي أن أبسط لهم رأيي فيه. ولكننا لم نجد أحدا هناك ، فجلسنا وأخذ الأخ زين العابدين يتلو علينا أقصوصة الحبيبة أو أحدوثة الحبيبة كما يريد أن يسميها الأخ عثمان الكعاك؛ لأنه يرى كلمة أحدوثة أدق ترجمة لكلمة «نوفيل» الفرنسية.
وأحدوثة الحبيبة هاته قصة صغرى كتبها الأخ زين العابدين بمشاركة شخص أبى أن يسميه، وأعدها للعدد الثاني من مجلة «العالم»، وهي قصة تونسية حاول أن يمثل فيها بعض العادات التونسية، وصور فيها بعض الأوهام الخرافية التي تستحوذ على عقول العذارى الشابات. واستعمل فيها طائفة من التعابير التونسية الخالصة التي لم تألفها العربية ولكنها لا تأباها قواعدها. وفي أثناء تلاوة الأحدوثة أقبل الأخ المهيدي ورفيق له، وبعدهما أقبل الأديب أبو الحسن بن شعبان. وكانت الأحدوثة موشكة على الانتهاء، وظل الأخ زين العابدين يتلوها إلى أن انتهت في هاته الجملة: وظلت أمي حلومة تشمر عن ساعديها وتضحك إلى أذنيها.
وعلى إثرها دار الحديث حول الروايات الشعبية والأدب المحلي، وكان مؤجج هذا الحديث هو الأخ زين العابدين الذي كان يقول: «إن الروايات الشعبية والأدب المحلي - كما أنها يجب أن تمثل حياة الشعب بما فيها من عادات وطباع وأخلاق ومميزات - فإنها يجب أن تشتمل على كثير من تعابيره الفنية الدقيقة، وتراكيبه ومعانيه التي يستعملها في مخاطباته؛ لأن هاته أهم ناحية حية من نواحي الحياة الشعبية، ففيها تبدو صور صادقة من نفسية الشعب التي تنم عنها فلتات قوله والتفاتات ذهنه.»
فقلت: إني أقرك على رأيك هذا، ولكن على شرط أن يتسفل الأديب «للتحصيل على هاته الغاية» إلى أن يمزج أسلوبه العربي بالأسلوب العامي المحرف، كما يفعل بعض المصريين اليوم، فإن مثل هاته الطريقة السيئة لقاضية على الأدب العربي الجميل، وماسخته إلى نوع من الأدب هجين، لا هو بالعربي البليغ ولا هو بالعامي الصميم، وإنما هو مسخ بين الاثنين. وإنما على الأديب الشعبي الذي يريد أن يكون موفقا أن يخضع اللغة العربية وأساليبها لاحتمال المعاني الشعبية التي تحمل طابع الشعب وميسمه. وبذلك تكون اللغة قد اكتسبت ثروة معنوية طارفة تضيفها إلى ما لها من كنز تليد، أو أن يدخل تعابير شعبية في اللغة العربية، على شرط أن لا تخل بروح العربية، ولا بقواعدها الأصلية. وبذلك يكون الأديب مخلصا للغة العربية، ومخلصا لفنه النزيه.
فقال الأخ الزين: نعم إنها لفكرة قيمة، وهذا ما حاولت أن أتباعه في أحدوثة «الحبيبة»، فإن كلمة «ضحكت لأذنيها» كلمة محلية محضة لا تعرفها العربية من قبل، ولكنها مع ذلك لا تنافي شيئا من ضوابط اللغة، زيادة عما فيها من دقة التصوير لمعنى الضحك والإغراق فيه، ولا أعرف في العربية تعبيرا يضاهي هذا في دقة التصوير لمعنى الإغراب في الضحك، إلا أنني أعرف في الفرنسية تعبيرا قريبا من تعبيرنا في هاته الدقة إلا أنه دونه، وهو قولهم: «ضحك حتى أفطس أنفه».
فقال الأخ إبراهيم بورقعة: «إن العرب يقولون: ضحك ملء شدقيه» وهو تعبير غير ظاهر المعنى؛ لأن الضاحك لا يمتلئ شدقاه.
فأجابه أبو الحسن بن شعبان بأن كيفية الضحك تختلف باختلاف الوجوه والأشكال. وظاهرته أنا على ذلك.
والذي يبدو لي الآن أن العرب لا يعنون بامتلاء الشدقين «انتفاخهما» وإنما يريدون امتلاء الفم بصوت القهقهة كناية عن قوة الضحك، ثم قلت لهم: إن العرب يقولون: «ضحك حتى بدت نواجذه»، وهو تعبير قريب المعنى من تعبيرنا؛ لأن النواجذ قريبة من الآذان. وإذا انتفخ الفم من الضحك حتى بدت النواجذ فقد قرب من الآذان.
ثم انتقل الحديث إلى الأدب العامي، فقال زين العابدين: «إن في أدبنا العامي دقة في التعبير، وجمالا في التصوير، وسعة في الخيال، بصورة توجب الإعجاب الكبير. أذكر أنني طالعت مرة أنا وأبو القاسم قطعة من هذا الفن، يصف فيها صاحبها البرق، فأعجبنا بها إعجابا كبيرا؛ إذ إنه قد عبر بها عنه بأبرع مما عبرت عنه ألفاظ شاعر، وأبدع مما صورته نفس فنان».
فقال أبو رقعة: إنني أعتقد أن الأدب العامي بتونس أبلغ من الأدب العربي بها؛ وذلك لأن أدباء العربية بها تقيدهم كثير من التقاليد اللغوية والأغلال الشعرية التي توجب عليهم احتذاء من تقدمهم من الشعراء، زيادة عن أنهم يكتبون بلغة ليست لغتهم، بخلاف ما كانوا من قادة الأدب العامي، فإنهم بعيدون عن مثل ما يتقيد به الأديب العربي بتونس. ولذلك يكون من الفرق بين أدب هذا وذاك ما بين أدب الطبع وأدب التقليد.
وأنا أعرف واحدا من هؤلاء الذين يتملأون بروح الشعب ولغته من يعمد إلى القطعة من الأدب العامي ينقدها نقدا فنيا صحيحا دقيقا لو كسي الأسلوب العربي لكان خير أمثلة النقد الأدبي، إذ فيه تتجلى سلامة الطبع، ودقة الحاسة الفنية.
الثلاثاء 14 جانفي 1930
أشعر اليوم بفتور في بدني، وبتوعك في مزاجي، ولا أدري مأتاه. وأحس بكآبة عميقة تستحوذ على مشاعري وتقبض على قلبي وتجعلني أكره الكتب والأسفار والمحابر والأقلام.
لا أريد أن أزيد أكثر مما ذكرت، لأنني أرى النوم يغالبني والإعياء يدفعني للنعاس.
الخميس 16 جانفي 1930
اعتزمت الذهاب إلى حديقة البلفيدير صحبة رفيق لي، فبريت القلم وأعددت القرطاس وتأبطت كتابا لما عسى أن تحدثني به النفس من أفكار، أو يفيض به القلب من عواطف؛ لأنني لا أعلم متى تطغى علي الخواطر، وتزدحم علي الذكر، وتنهال علي الأفكار انهيالا.
فرب نظرة بريئة من رعبوبة فاتنة أهاجت بقلبي ألف فكر، وابتعثت فيه ألف ادكار غطى عليه الزمن.
ورب ابتسامة حالمة زوقت لعيني مشاهد العيش، وأرتني جمال الحياة ...
ورب مرأى من مرائي هذا الوجود أضرم في قلبي نيران الشعور وأسكر نفسي برحيق الخيال، فأصبحت شعلة نارية تتقد بين البشر.
ولما صح العزم اصطحبت رفيقي وسرنا، وقبل أن نتجاوز المدرسة التقينا ببعض الرفاق وخرجنا جميعا وظللنا نسير سوية، ولما وصلنا مفترق الطرق سألونا إلى أين نذهب؟ فقلنا: إلى البلفيدير. فعزموا علينا أن نرافقهم إلى أين هم ذاهبون، فقلنا: وما هي الغاية؟ فقال أحدهم: إنها مقهاة بعيدة عن صخب المدينة وضوضائها قريبة من البرية، مكتنفة بالأشجار الجميلة والمشاهد المستحبة، فاستهواني الوصف ورافقتهم، وما هي إلا ساعة حتى كنا نسير في المزارع التي تداعب الشمس أعشابها.
وكانت مشاهد كثيرة متباينة، ههنا صبية يلعبون بين الحقول، وهناك طائفة من الشباب الزيتوني والمدرسي يتريضون في الهواء الطلق والسهل الجميل، ومن لي بأن أكون مثلهم! ولكن أنى لي ذلك والطبيب يحظر علي ذلك، إن بقلبي ضعفا.
آه يا قلبي! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني، وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية.
السبت 18 جانفي 1930
في هذا اليوم قد بدأت حياة جديدة، ودخلت في طور من عمري جديد، طور المتاعب والمشاغل والمادة الصماء التي لا تعي ولا تسمع، ولا تفقه غير لغة المال.
جرت عادة العدلية مع تلامذة السنة الثانية من دروس الحقوق أن يدخلوهم إلى دوائر العدلية بصفة معينين للكتبة لكي يستفيدوا من ذلك المران دروسا تطبيقية مفيدة تكون عتادا لهم في مقتبل أعمارهم حين يصبحون حكاما.
ويا لله، كم تشرئب لمثل هذا المنصب نفوس، وتتحرق له قلوب مسكينة. ويا لله، ما أبغضه إلي وأكرهه!
وكان يومنا هذا هو يوم توزيعنا على الدوائر المختلفة. وفي الساعة التاسعة والنصف كنا أمام بيت أستاذنا محمد المالقي. وما هو إلا قليل حتى خرج الأستاذ. وبعد التحية سار بنا في منعرجات العدلية، وصعد بنا في طباقها إلى أن وصل بنا إلى مكتب أحد أساتذتنا الفرنسيين ليقدم إليه أسماءنا. وبعد قليل كنا راجعين أدراجنا وراءه إلى أن وصلنا أين كنا جالسين. فدخل الأستاذ إلى مكتبه ليستخرج الورقة التي نظمت فيها كيفية توزيعنا. وبعد يسير خرج الأستاذ يحمل في يده ورقة، واستند إلى الحائط وأخذ يتلو على التلامذة المحيطين به أسماءهم، وكيفية ترتيبهم. فكنت ورفاقا لي ثلاثة بالدائرة المدنية. ولا تسل عن غضب هذا، واشمئزاز ذاك، وتألم ذلك، لأنه لم يحرز على المركز الذي كان يرجوه، إما لقلة العمل فيه، أو لغزارة فائدته، أو لغير ذلك من الأسباب التي كانت تملأ أدمغة كثيرة. وأحسب أن مركزنا كان مغبوطا من أكثر رفاقنا، قد اضطر أن يعقب ذلك التصريح بقوله: «إنني أعلم أن كثيرا منكم سيغضب لأنني لم أرشحه في الدائرة المدنية، ولكن من المعقول أن تعلموا أن هاته الدائرة لا تسع جميعكم. على أنني أقول لكم: إنه لا بد أن يقع تبادلكم المراكز كلما يمر عليكم حين من الدهر ، لتكون الفائدة أشمل، والانتفاع أكمل.»
ولكن هذا لم يكفكف مما في أنفس البعض.
ولما أتم الأستاذ سرد الأسماء أخذ يحمل كل طائفة ليقدمها إلى رئيس الدائرة التي ستتعاطى العمل فيها. وكم كنت مشفقا على هذا الأستاذ الكريم من كل ذلك النصب الذي يجشم به نفسه. فمن دائرة العدلية، إلى دوائر الدريبة، ومن هذه إلى تلك، وهو يذرع منعرجات المعابر ويقطع درج الإدارة بسرعة تكاد تكون عدوا. حتى لقد صارحت رفيقا من رفقائي بإشفاقي على الأستاذ.
وبدأ الأستاذ عمل التقدمة بالطائفة التي أنا منها، ودخلنا إلى الرئيس الذي سيكون إليه مرجع نظرنا، فقدم إليه واحدا إثر واحد مكتفيا بقوله أقدم لك فلانا أو بزيادة ابن فلان. ولما وصل الدور إلي قال: «أقدم لك أبا القاسم الشابي المؤلف الشهير. ولا إخالكم إلا قد سمعتم باسمه». فأخجلني جدا، فلم أستطع أن أجيبه إلا بالتبرؤ من مثل هذا الوصف.
وفي الحقيقة فإن هذا الأستاذ الكريم قد أصبح لي من ذلك اليوم الذي أهديت له فيه كتابي نصيرا. فإنه كثيرا ما نوه باسمي في دروسه بين رفقائي، وكثيرا ما كال لي أوصاف المدح والإطراء حتى أخجلني.
ولما تمت تقدمتنا انفردت أنا وصديق لي ببيت خاص نعمل فيه وحدنا. فابتهجت كثيرا؛ إذ إن أبغض شيء إلي هو أن أبقى إلى جانب الرئيس الذي ربما لا تلائم نفسه نفسي، ولا توافق أخلاقه طباعي، ربما كان متكبرا يحب السيطرة والعنف، وأنا رجل عصبي لا أحتمل الذل، ولا أستطيع أن أخمد غضبي، فتنجلي الثورة عن شيء جميل جدا ...! الله أدرى بنتائجه ...!
ولقد أخذت اليوم أتمرن على هاته الأعمال الثقيلة، أخذت ألخص أوراق الملف، فإذا الورقة الأولى منه مكتوبة بخط من أردأ ما رأيت، ومحررة بأسلوب لا أدري ماذا أسميه، ومرسومة رسما لا أعلم أي شيطان نزل به على قلب كاتبه. ولا أريد أن أطيل، فحسبي أن أقول: إنه أراد أن يقول: «فطلب منها أداء منابها» فكتب: «فطلب منها أداء من بها» ...!
وعلى مثل هذا يستفتح المرء عمله. فماذا هو صانع؟ أتراه يسخر. أم يكفر؟
الاثنين 20 جانفي 1930
... وبعد أن أنهيت أعمالي الإدارية نحو الساعة الخامسة، ذهبت أنا والأخ المهيدي إلى مطبعة الأخ زين العابدين، فألفيناه يصفف حروف «العالم» مع المصففين، وألفينا الأخ مصطفى خريف واقفا بجواره، يطالع بعض الشيء. وبعد حديث مختلف أراني الأخ زين العابدين مقالتي «الشعر، ماذا يجب أن يفهم منه وما هو مقياسه الصحيح؟». ثم لاحظ لي أنه يخالفني في بعض ما ورد بالمقال من الآراء، وأنه كان يود لو قابلني قبل طبعه ليعرض علي رأيه، عسى أن يدخل به تعديل على المقال. ثم قال: «ولكن وجود بعض ما يخالف آرائي لا يمنعني من نشره، إذ إن مسؤولية ما فيه من الأفكار محمولة عليك وحدك.» فأجبته بالإيجاب. ثم أبنت له أن ما يلاحظه على المقال، ويود وجوده في المقال، هو موجود فيه، وأردت أن أريه إياه، فلم أتمكن من ذلك لكثرة أعماله ووفرة حركاته. ثم قال لي: إنك تريد أن تبعث المذهب الرمزي «سانبوليز» من مرقده، وهو مذهب قضى عليه الزمن، ولم يتبعه في فرنسا إلا شاعران أو ثلاثة. فقلت له: «لك أن تسمي طريقي بأي الأسماء التي تشاء. فأنا لا أعرف كيف أسمي، ولا يهمني معرفة أسمائها. وسواء علي أكانت تسميتها كما قلت أم خلافا له. وإنما الذي يهمني والذي أود أن تعرفه، هو أن أدعو إلى الطريقة التي تسكن إليها نفسي، ويرتضيها ضميري ما استطعت إلى الدعوة سبيلا.»
وبعد ذلك أطلعني على مقال للسيد التجاني بن سالم عنوانه: «التجدد الأدبي عندنا». وهو مقال قيم مفيد أعجبت به، وإن كنت لم آخذ منه إلا صورة مجملة. وبعد قليل اصطحبت الأخ المهيدي والأخ خريف بعد أن اعتذر الأخ الزين عن الذهاب معنا إلى النادي الأدبي بتراكم الأعمال عليه.
ولما وصلنا إليه ألفيناه مغلقا، مع أن موعد الاجتماع قد مر عليه نحو العشرة دقائق. وبعد أن قرعت الباب قرعا عنيفا بدون جدوى، رجعنا وفي أنفسنا حسرة وأسى على المشاريع التونسية المسكينة التي لا تجد من أبناء تونس من يخلص لها حتى النهاية.
فقد حاولنا في العام المنصرم أن ننظم سيره ببرنامج معين عيناه رغم المعارضة الكبيرة من أنصار الأساليب القديمة، فأنتج نتاجا حسنا كان فوق ما يؤمل منه. ثم قامت ضجة «الأب سلام» إثر مسامرة امرئ القيس التي أنكر فيها الأخ المهيدي وجود امرئ القيس، «ومسامرة الخيال الشعري عند العرب» التي جاهرت فيها بآراء لم تسغها أفكار بعض أدعياء الأدب، وعدوها ثورة على الآداب العربية وجحودا لمزايا العرب. وتطورت هاته الفكرة في نفس الناس، والتفت حولها الأراجيف والإشاعات الكاذبة، حتى عدها بعض الجهلة زندقة وكفرا!
قامت تلك الضجة حول المسامرات الثلاثة وحول مسامرة «سلام» بالأخص، فاهتبلها بعض المغرضين فرصة لتشويه سمعة النادي ورميه بالزيغ والإلحاد ... إلى آخر تلك السهام التي تعلم المفسدون تسديدها إلى كل عمل راموا إحباطه في البلاد الإسلامية. فكانت تلك الحملات الكبيرة المنظمة قاضية على حركات النادي قضاء ما كنت أتصوره. فقد فتت تلك الحملات في أعضاد الأكثرية من أعضائه، ورمت في قلوبهم الرعب والهلع والجبن، فانقطعوا عن المجيء إليه إلا واحدا أو اثنين كانت لهما عزيمة صادقة، وشجاعة أدبية تحتقر صيحات الحروب وتهزأ بسهام المغرضين، ولكنهما أعرضا عن الذهاب إليه. وما الفائدة منهما وكل أعضائه غائبون؟!
وهكذا كانت خاتمة العام الماضي محزنة كابية. ثم جاءت السنة الحالية فاقترح الأخ عثمان الكعاك أن تكون طريقة النادي إنما هي إثارة المواضيع لدراستها، ومن كانت له دراسة عرضها على النادي لتلقى مسامرة عامة أيام الجمع. وقررت الأغلبية هذا ولكن يمضي على الاتفاق شهر ونصف قام خلالها كل مني والأخ عثمان الكعاك بمحاضرة: واحدة منهما تعرضت لنقد كتاب «الأدب العربي في المغرب الأقصى»، والأخرى تعرضت لطريقة البحث في الثقافة الشرقية عند المشرقيين وعند المسلمين في الوقت الحاضر. وقد أغضبت كل منهما طائفة من الناس.
أقول لم يمض على فتح النادي شهر ونصف حتى أخذت علائم الهرم تدب فيه. وبدأ الانحلال يأخذ منه. وتلك هي مصيبة المشاريع التونسية، يندفع القائمون بها في العمل اندفاعا كله شغف وشوق وإخلاص ، ولكنه لا يدوم. فإنه لا يلبث إلا قليلا حتى يخبو أواره، وتركد ريحه، وينصدع شمل الجميع. تلك هي مصيبة المشاريع التونسية.
الثلاثاء 21 جانفي 1930
ألقى إلي البريد البارحة تنبيها باستلام رسالة. وفي الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم ذهبت واستلمتها بعد أن دفعت عليها معلوما خاصا؛ لأنها كانت أثقل مما ينبغي أن تكون. تناولت الرسالة من آنسة البريد، فإذا هي مكتوبة بخط صديقي الأديب النابغ الأستاذ محمد الحليوي. فسارعت بحلها لعلمي أنها لا بد أن تحتوي على شيء بهيج؛ لأنني أعجب بكتابة هذا الصديق الأديب التي لا تخلو من فكرة ناضجة وأسلوب حي وإن كنت لا أعجب بشعره.
وتلوتها فإذا هي رسالة منه كلها لطف ومودة ودماثة أخلاق، ربما بلغت غايتها القصوى. وقد أرفقها بمقال كتبه في انتقاد بعض الآراء التي وردت في كتابي «الخيال الشعري عند العرب». ولكن لطفه ومودته أبيا عليه إلا أن يوجه بانتقاده إلي، وأن يفوض إلي النظر في نشره أو إهماله. كل ذلك حرصا على مودة يشفق أن تذروها عواطف النقد. كأنه يحسب - سامحه الله - أن انتقاده علي ربما يثير حفيظتي، ويحرك في نفسي عوامل الغضب. مع أنني لست من هاته الطائفة التي لا تفهم من النقد إلا عداء وسبابا، ولا ترفع قلمها إلا لغاية سافلة وغرض دنيء. لست - والحمد لله - من هاته الطائفة، ولكنني ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يسرون بكل انتقاد لا تكون غايته غير الحقيقة، ولا مصدره غير الإخلاص، كانتقاد صديقي الأعز، يقول في رسالته التي صاحبها برسالة النقد على كتابي بعد التحية: ... وعلى كل فها أنا فوضت أمرها إليك. فما شئت فعلت بها.
لو تدري يا أخي كم تنازعت مع نفسي في شأن هذا الانتقاد لعذرتني عن التأخير والتواني في إتمامه حتى اليوم. فقد كنت حريصا جد الحرص على صداقتك، ضنينا بها ضن البخيل بالدينار. وكنت أخاف أن تبدو مني كلمة أو رأي يكون سببا في سوء التفاهم بيننا. ذلك لأن «شيطان النقد» لا وظيفة له في الدنيا إلا زرع بذور الشقاق بين الأحباء. وأنا من الذين يحرمون هذا النوع من النقد بين الأصدقاء المتحابين.
فبربك دعني «أيها الأخ» أتمتع بصداقتك وأتبادل ودك، ودعني أعجب بأدبك عن بعد، دون أن ندخل جمهور القراء فيما بيننا. واقنع مني بأني شريكك في جل آرائك، ولا تلمني إذا رأيتني أعدل في آخر وقت عن الكلمة الثانية التي وعدت بها في آخر المقال ...
يريد بها وعده في مقاله بأنه سينشر كلمة أخرى في بعض مآخذه على الكتاب من جهات أخرى.
أتحسب يا صديقي إذا أن «شيطان الانتقاد» ما خلق إلا لزرع بذور الشقاق بين الأحباء؟ أو تخال أنني بانتقادك على بعض آرائي ربما أبت أسباب المودة التي بيننا؟ لتسمح لي يا صديقي أن أخالفك.
فإن رأيي في الانتقاد أنه ليس «شيطانا» يبث بذور الشقاق وإنما هو ملاك يحمل سراج الحقيقة في سبيل الإنسان. وإن رأيي في الصداقة أنها ليست بمعنى عبودية الفكر، ولكنها حرية «النفس». فإنني حينما أجلس إلى صديق أحس بإشعاع الحياة في نفسي، وحينما أجلس إلى عدو أحس بضيق الحياة فيها. وهاته الحرية التي تحس بها النفس بجوار الصديق ليس معناها عبودية الفكر وتكبيل الضمير؛ لأن الحرية لا تنتج الاستبعاد، ولأن صديقي الذي يحترم نفسه ويقدر عقله الذي وهبته الحياة إياه هو الرجل الذي يكون جديرا بمحبتي واحترامي. أما الرجل الذي أحبه وأستعبده بحيث يصبح ظلا لكل أفكاري وخواطري، فإنني أشفق عليه أكثر مما أحبه، وأرثي له أكثر مما أحترمه.
وبعد ذلك، فقد رأيت رسالته الانتقادية. وهي رسالة قيمة قد لخصت الأدوار الأدبية التي مرت بها الآداب الفرنسية من عهد النهضة «الرينيسانس» إلى عهد الأدب الواقعي بصورة لم أر من كتب بمثلها في دقة تصوير الحالة، وبراعة التحليل، رغم إيجازها. وقد وددت لو أعطيتها إلى الأخ زين العابدين يوم التاريخ لينشرها في «العالم»، ولكن ليس في الإمكان أن يتسلمها اليوم. وإذا فإلى الغد وسأبذلن جهدي حتى تنشر في العدد الوشيك الظهور.
السبت 25 جانفي 1930
خرجت اليوم من إدارة العدلية قبل الوقت الذي ألفت أن أخرج فيه، وذلك لكي أذهب إلى الأخ زين العابدين، وأسلمه مقال الأخ الحليوي الذي ضمنه نقدا على بعض آرائي الواردة في «الخيال الشعري عند العرب».
دخلت المطبعة فإذا به يصحح بعض مسودات «مجلة العالم» وبإزائه الأخ مصطفى خريف يتصفح مجموعة السياسة الأسبوعية. وقلت: السلام عليكم. فقالا: وعليكم السلام. وعلى إثرها ابتدرني الأخ زين العابدين وعلى ثغره تلك الابتسامة التي لا تفهم قائلا: «لقد كنا نغتابك». فأجبته قائلا: «عجيب! حسن! بارك الله فيكما». وإن كنت إلى الآن لا أدري ماذا يعني بالاغتياب، لأنه تارة يستعمله بمعناه العربي الصحيح، وأخرى بمعنى المدح والإطراء، ولكن هذا لا يهم، وعلى كل فهي دعابة صديق.
وتقدمت منهما، وناولته رسالة الحليوي، وسألته أن تنشر في هذا العدد من «العالم». فقال: «لقد سلمنا لصاحبك تسليما أعمى، رغم أننا لا نعرفه، وعلى كل فسننشرها رغم طولها لأنها تتعلق بكتابك. ثم عقب على ذلك باسما: ولا تحسب أن كونها في كتابك هو الذي جعلني أغتفر ما فيها من طول، ولكن الذي جعلني أتسامح فيها هذا التسامح، هو كونها كتابة عن كتاب تونسي حديث»، فضحكنا جميعا، ثم أخذنا في حديث مختلف الألوان والمطاعم، وفارقتهما مسرعا.
وانقضى نصف النهار الأخير بين أعمال إدارية غثة باردة متراكمة كالجبال، ومحادثة مع بعض الرفاق خلال ذلك، واستماع لدرس قانوني تتخلله قصص ممتعة ودعابات مستحبة من دعابات الأستاذ «لاموت»، ومطالعة قانونية مع بعض رفقائي يتوسطها جدال وحوار، يلين حينا ويشتد أحيانا، ويعتدل آونة ويعنف أخرى، حتى ليخالنا الأجنبي سنثب إلى بعضنا لطما ولكما وركلا وصفعا، وما هي من ذلك في شيء. وفي مثل هاته الأشياء انقضى نصف النهار الأخير.
الأحد 26 جانفي 1930
«إن لك من معارف أبيك، وسمعته الحسنة، وصيته البعيد، وشهرة اسمك، ضمانا لاسترجاع منصب أبيك إليك لو تسعى ...»
هاته هي الكلمة التي كثيرا ما أسمعها من أقاربي وأنسبائي ومن يمتون إلي من الصداقة بسبب متين. يقولون ذلك دائما بلهجة من يغبطني على مثل هاته الأمور وتجمعها لدي، ويعنفني في شيء من العنف على تضييعي لمثل هاته الأسباب التي لو وجدها غيري لصعد منها بسلم إلى سماء المناصب، كأنهم يحسبون أن المناصب هي كل شيء في هذا العالم، وأن منصب القضاء هو سيدها. ولو علموا ما الذي يبغض إلي المناصب على اختلافها، ويبغض إلي المناصب الشرعية بالأخص لعذروني.
إنني شاعر، وللشاعر مذاهب في الحياة تخالف قليلا أو كثيرا مذاهب الناس فيها. وفي نفسي شيء من الشذوذ والغرابة أحس أنا به حين أكون بين الناس ... يجعلني أتبع سننا ورسوما تحبها نفسي، وربما لا يحبها الناس. وأفعل أفعالا قد لا يراها الناس شيئا محبوبا، وألبس ألبسة ربما يعدها الناس شاذة عن مألوفاتهم.
أنا شاعر. والشاعر عبد نفسه، وعبد ما توحي إليه الحياة، لا ما يوحي إليه البشر.
وفي المناصب الشرعية بالأخص قيود، وطقوس، وسنن متعارفة، اصطلح عليها الناس، وألفوها، فأصبحت مقدسة عندهم لا يمكن أن تمس بسوء. وأنا أعلم أن نفسي تأباها وتنكرها ولا تخضع إليها.
أنا شاعر، والشاعر يحب أن يكون حرا كالطائر في الغاب، والزهرة في الحقل، والموجة في البحار، وفي المناصب «والشرعية بالأخص» خنق لروح النفس، وقضاء على أغاني القلب، وإجهاز على راحة الضمير.
كيف يمكن لشاعر يحب أن يحس بالحياة إحساسا كاملا، وأن يتحدث إلى الناس بأصوات قلبه الكثيرة، أن يسكن إلى حياة «الوظيف»، تلك الحياة الخاملة الآسنة التي تشابه غدران الفلاة، والتي تقضي على صاحبها أن يحيا كما يحب الناس لا كما يحب هو أن يعيش؟ «إنك لو أردت أنت منصب أبيك، فإن لك من أصدقاء أبيك، وشهرته الطائرة، وخدماته الطاهرة، ومعارفك وصيتك، ما يحقق لك هاته الأمنية في أسرع من لمح البصر.»
هاته الكلمة التي كثيرا ما سمعتها من معارفي وبعض إخواني، والتي كنت لا أجيب عليها إلا بالصمت الطويل، لأني أعلم أنني إن أجبتهم بما تحدثني نفسي هزأوا بي وعدوني صغير العقل سخيفا ... هاته الكلمة قد رددها على سمعي نسيب لي حينما كنا ذاهبين لزيارة الوزير الأكبر في شأن خاص بي، فلم أجبه إلا بذلك السكوت، وبتلك الابتسامة التي كثيرا ما أجبت بها مثل هؤلاء.
وذهبنا إلى الوزير الأكبر فنبأونا أنه مع بعض الناس في مفاهمة لغرض خاص. وبعد قليل رجعنا فألفيناه واقفا جوار بستانيه، يوصيه بالعناية بنخلة عينها له، وهو في ثياب عربية بسيطة جدا يلبسها عادة متوسطو الحال. وبعد التحية صعد بنا إلى مقعده وجلسنا.
فأخذ يحدثنا عن الوالد المنعم بصوت ملؤه الأسى والحزن. وقال: «رحم الله أباك. لقد كان أخا لي منذ عهد الدراسة. فقد قرأنا كثيرا من الدروس سوية. ولكن من قرأت معهم قد ماتوا. وكان آخرهم أباك رحمه الله. لقد كان أبي يعتقد أن التلاميذ إخوان لنا وأبناء له، بل كان كثيرا ما يؤثرهم علينا، وإذا زاروه في محله فذلك هو اليوم السعيد. إنه ينسى بذلك الحوار العلمي الذي يثيرونه كل شيء، ينسى غذاءه ولا يكاد يذكره. وبذلك قد جعل لنا إخوانا روحيين منتشرين بالبلاد التونسية.»
ثم لامني على أنني لم أزره بمجرد وفاة والدي المنعم قائلا: «أنا أبوك، وأنت ابن أخي، إنني لائم عليك إذ لم تزرني إلا الآن ولم تأتني من قبل ...»، فاعتذرت بما حضرني إذ ذاك.
وبعد حديث طويل، تناول كثيرا من الشؤون من بينها سوء سيرة أهل هذا الزمان، وكيف أنهم لا يحبون إلا المظالم والدناءة. وتعرض إلى ما قاساه والدي من مظالمهم جزاء وقوفه عند حدود العدالة، وتصلبه في وجوه العتاة المتجبرين.
الاثنين 27 جانفي 1930
ذهبت عشية اليوم إلى النادي الأدبي بجمعية قدماء الصادقية؛ إذ كان اليوم يوم الإثنين، وهو موعد اجتماع النادي، ولكن وجدته مقفلا رغم أن الساعة كانت إذ ذاك الخامسة وخمسة وأربعين دقيقة، مع أن الموعد الخامسة والنصف. ورغم صفعة الأسبوع الماضي التي تلقتنا بها أبواب النادي المقفلة، فقد عدت مرة ثانية بعد ربع ساعة، فوجدت «قيم» القدماء يدير بعض الشؤون هناك. وسألته هل جاء أحد؟ فأجابني بالنفي. فدخلت وجلست بقاعة المطالعة. ولما أردت إنارتها بالكهرباء أعلمني أن التيار منقطع، فانتظرت قليلا. ولما لم يأت أحد رجعت أسوان آسفا.
لست أدري والله أي لعنة حلت على النادي هذا العام فأوهت قواه وحلت عصبته وشتتت شمله. فإنني أراه ما ازداد يوما إلا ازداد تأخرا وانحطاطا، وهرما وخمودا، بدل أن يزداد فتوة وشبابا وتوقدا ونشاطا. وما تراخى عليه الزمن إلا وضربت عليه الذلة، والمسكنة، وخيمت عليه كآبة الوحشة وجمود الانفراد.
إنني أراه يهرم ويشيخ، ولست أدري هل تعود إلى الشيخ قواه.
لقد أصبحت يائسا من المشاريع التونسية، ناقما على التونسيين، لأنني أراهم يقولون كثيرا ولا يعملون إلا قليلا، وإنني أراهم نبغاء في بسط آرائهم ونظرياتهم. والتحمس لها يدفعك إلى أن تؤمل الآمال الكبار، وتعتد أنك تخاطب روحا متجسدة في فكرة تلتهب، حتى إذا جاء دور العمل تمزقت تلك البراقع، وخمدت تلك النزوات، وتكشف البرقع البراق عن وجه الحقيقة الأربد، وانجاب طلاء الشباب ونضارة الفتوة المستعارة عن تجعدات الشيخوخة وقبور الخمول.
إن التونسيين الآن ذوو نظريات فسيحة واسعة، ولكنهم يدورون في منطقة ضيقة من الأعمال لا تكاد تنتج شيئا.
حدث من شئت من الشباب التونسي فلا تلفي إلا حماسا وعزما وأفكارا ومشاريع، ولكن ثق أنك حين تدعوه للعمل فلا تجد إلا عزائم خابية وشبابا هرما يغط في سبات الأحلام اللذيذة!!
الثلاثاء 28 جانفي 1830
مسكينة هاته النفوس ما أصغرها وأحقرها وأضيق آفاقها! كنا اليوم بدروس الأستاذ «مسيو لاموت» الذي ندرس عليه دروس «العقود المسماة». ولما جاء الأستاذ، وأراد الشروع في درسه، أراد أن يحدثنا عن «العقل الباطن» و«العقل الواعي» اللذين طالما حدثنا عنهما. وفتح جريدة «السياسة الأسبوعية» ودعا أجهرنا صوتا لتلاوة فصل بها يتعلق بالموضوع وبسطه. وما إن أخذ التلميذ في تلاوة الفصل، وأخذ الأستاذ في تبيينه حتى رأيت بسمات هازئة ووجوها سائمة وملامح متضجرة؛ ذلك لأنها نفوس ألفت أن تعيش في منطقة ضيقة من مناطق الحياة والتفكير، لا تستطيع أن تحيا في سواها أو تعدوها. لم تألف غير علوم «جامع الزيتونة» وأساليبه. ولم تقرأ من غير ذلك إلا دروس الحقوق. مسكينة هاته النفوس مسكينة ...!
وبعد أن أتم الأستاذ درسه. خرجت صحبة رفيقين أحدهما مدرسي مثقف ثقافة عربية طيبة، والآخر زيتوني. وأخذنا نتحدث عن أعمال العقل الباطن في الحلم.
فقال صاحبي: إنه حل مسألة هندسية غامضة في نومه، مع أنه لم يستطيع حلها في يقظته، رغما عن تفكيره فيها أسبوعا كاملا. فحدثته أنا عن نظمي الشعر في المنام، وقصصت عليه أنني نمت مرة فرأيت منظرا غاية في الروعة والبهاء وسحر الجمال، دفعني إلى أن أقول الشعر فيه.
رأيت أولا أن في الأفق قطعا من الغيوم منثورة، ويحيط بكل قطعة إطار من نور كلون الشفق، ثم تلاشى هذا المنظر، فإذا بي في قصر منفرد وبجانبي غادة رعبوب مرخاة الذوائب، وعلى السماء حجاب من غمامة كثيفة بيضاء. ثم انهل المطر من السماء وفاض من الأرض، ولكن بكيفية غريبة لم أشاهدها ولن أشاهدها. ذلك أن السماء لم تكن تمطر مطرا عاديا، ولكنه مطر يشابه رغوة الموج في بياضه، وكانت الأرض تفيض بمثل تلك الأمواج التي تخالط ما تنزله السماء، فكان من اختلاطهما منظر عجيب رائع لا أستطيع أن أصفه ولا أن أنساه.
وقال صديقي: إنه كثيرا ما شاهد النجوم قد تألفت وتراكبت وتألف منها كلام مسطور يخيل إليه أنه يحتوي سر العالم.
فقلت له يا صديقي: «إنني لا أظن الأحلام إلا ضربا من تعلات الحياة التي تكون لنا في يقظتنا آمالا وفي سناتنا أحلاما، فالعقل الباطن الذي تختزن فيه صورة من صور الآمال البعيدة، لا بد أن يحتال على إظهارها كشيء حقيقي، ولو في عالم الأحلام. فالنجوم والتفكير المتواصل فيها، ومسألة نفسك عن سر العالم، هو الذي جعلك تشاهد في أحلامك ذلك المشهد الغريب. وشغفي بجمال الطبيعة وأهوالها هو الذي أعطاني في الحلم تلك الصورة الغريبة وذلك المرأى البهيج.»
ثم انتقل بنا الحديث إلى «السدم» وأقسامها، وجاذبيات النجوم، ثم إلى فلسفة أنشتاين الفيلسوف الألماني الكبير، هاته الفلسفة التي تحاول أن تقلب ما اطمأنت إليه أدمغة الفلاسفة والطبيعيين رأسا على عقب، هاته الفلسفة التي مثلها في الفلسفة المادية مثل الفلسفة «اللا أدرية» في مذاهب الفلسفة الأخرى.
الأربعاء 5 فيفري 1930
ذهبت إلى القدماء صحبة بعض الرفاق الأدباء، فوجدت هناك طائفة من الإخوان. وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث عن تلك المعركة التي حمي وطيسها ليلة الأمس. وحدثنا الأخ عثمان الكعاك عن المواضيع التي عينتها كلية الآداب بفرنسا لمن يريدون الإحراز على شهادة التبريز «اقريقاسيون» في الآداب العربية ومن بينها: (1)
الشعر الغرامي في الأدب الجاهلي. وما هي ميزاته وخصائصه؟ (2)
خصومة القدماء والمحدثين في القرن الثالث ه. (3)
أنواع الحيوانات الوحشية التي وردت في الشعر الجاهلي. (4)
كثير عزة. (5)
مؤرخو الإسلام ومذاهبهم في التاريخ ومواردها.
وقال: «لو كنت اطلعت على هذه المواضيع قبل رمضان لكنت اقترحت أن تكون من بين مسامراتنا» ثم قال: «وما رأيكم لو توزعنا هذه الأبحاث فيما بيننا، على أن نلقيها في مسامرات بعد رمضان». فوافق الجماعة على ذلك.
فأخذ الأخ محمد الصالح المهيدي الخصومة الأدبية بين القدماء والمحدثين في القرن الثالث الهجري.
وأخذ الأخ عثمان الكعاك ...
واقترحوا علي أن أتحدث عن الشعر الغرامي في الآداب الجاهلية. وما هي ميزاته وخصائصه؟
فأخذته بعد ممانعة وإلحاح. ولا أدري هل أبر بوعدي فيه أم لا؟ لأن الأشغال الكثيرة المختلفة التي تملك كل وقتي في هذا العام لا أحسبها تترك لي فرصة البحث والدرس، وتكوين فكرة جازمة في هذا الموضوع الكبير.
وطلب إلي الأخ عثمان الكعاك أن أكتب إعلانين إلى جريدتي «الزهرة» و«النهضة» عن مسامرته التي اعتزم إلقاءها يوم الجمعة على الساعة الثامنة والنصف، والتي عنوانها «المجتمع التونسي على عهد دولة بني خراسان»، والتي هي المسامرة الثانية من المسامرات التي اعتزم النادي الأدبي أن يقوم بإلقائها في شهر رمضان. فكتبت الإعلانين، وانصرفت صحبة رفيقي اللذين صحبتهما إلى القدماء. وإلى هنا ينتهي الثلث الأول من سهرة الليلة.
أما الثلث الثاني، فقد صرفناه في جمعية «التمثيل العربي» أين يتمرن الممثلون بهاته الفرقة على استظهار أدوارهم وإتقان تمثيلها. ذهبنا إليهم عن وعد سابق، صدر مني بالذهاب إليهم بعد إلحاح كبير منهم، فقاموا ببعض الأدوار التمثيلية من رواية «على المائدة الخضراء» التي ينوون القيام بها قريبا. وقمت ورفيقي بدور المرشد الذي يقوم ما اعوج من كلماتهم، ويثقف ما انحرف من ألسنتهم. وكانوا يتقبلون إرشادنا بكل مسرة وشوق وامتنان، وربما شجر فيما بينهم خلاف في كيفية النطق ببعض الكلمات، فإذا جئنا عرضوا علينا، وما قلنا لهم أخذوه بلا ممانعة. ولقد رأيت فيهم من الشوق واللهف لمجالسنا ما قلب فكري في تمثيلنا رأسا على عقب، فإنني ما كنت أحسبهم بتلك الصفة من الشغف بالعربية والمحبة لمن يقوم ألسنتهم ويصلح خطأهم.
وبعد أن أتموا أدوارهم انصرفوا، ولم يبق إلا المدير الفني للفرقة واثنان من ممثليها. وحاولنا أن ننصرف فتشبثوا بنا ورغبوا إلينا أن نؤانسهم قليلا، فلبثنا وأخذنا نتحدث أحاديث كثيرة. وقد كان هذا المجلس مغيرا لرأيي في الممثلين التونسيين من ناحية أخرى. لقد أخذ يتحدث معنا المدير الفني لهاته الفرقة أحاديث كثيرة في مختلف الشؤون الاجتماعية والسياسية، فأبان عن رأي لا بأس به، ما كنت أحسب أن له مثله. وإلى هنا ينتهي الثلث الثاني من سهرة الليلة.
ثم غادرنا المحل إلى منتدى آخر ألفنا أن نجتمع به ببعض رفاقنا الأدباء، وأن نقضي فيه شطرا من الليل في حديث أدبي واجتماعي وسياسي وعلمي، من كل لون وطبق. ودخلنا المكان فإذا صنف آخر من الناس، ولون آخر من الأفكار والخلائق تفهم الأدب أفهاما معكوسة إلا الأقل منهم، وتحسب أن ما جاء به من سبقنا ليس بمستطاع لأهل هذا الزمن. وكان أكثرهم جمودا وغباوة وحدة كهل يلمع الوضح في وجهه ويديه. فقد كان صاحبنا يعتقد أن «قبادو» أشعر الشعراء جميعا، وأنه أوتي الشعر لصلاحه، وأنه لم يجد في العصر الحاضر من يستطيع أن يأتي ببعض ما أتى به الأسبقون من التواشيح. ولا يطرب للشعر إلا إذا كان جناسا أو تورية وما على ذلك من كلف البديع.
ولقد أضجرني هذا الرجل بحديثه السمج المستثقل. فتآمرت وصديقا من إخواني على العبث، فتجاذبنا حديث الخطابة والاجتماع الذي عقدناه لأجلها، واستشاره أحدنا في رأيه في هذا المشروع. فقابله ببرود، فاندفعت مبينا فائدة هذا المشروع، منددا على خطباء المساجد الذين أضاعوا لهجة الخطابة ومغزاها. وصاحبنا من هؤلاء - ولا تسأل عن غضب الرجل وانفعاله حينما أنحيت باللائمة على هاته الطائفة، وجردتها من كل مزية وفضل. فقد أخذ يدافع عنها جهده، محملا وزر ذلك الحكومة والأمة.
وقد تعمدت إهاجته، فأخذت أفند كل رأي يقوله، وكل كلمة يلفظها. حتى لقد غضب غضبا أصبح معه لا يبين كلاما. ثم حلف على أن لا يجادلنا بعدها، ويتناول كتابا يتشاغل به عنا. فنأبى إلا الإغراق في النقد، فلا يستطيع سكوتا، فتثور ثائرته ويرمينا ببعض كلمات، ثم يأخذ الاعتذار عنها. وقد استحالت قلوبنا عليه حديدا لا تشفق ولا ترحم. فدخلنا في مواضيع أخرى كلها نقد وشدة. ومن بينها مسألة الزوايا و«البندير»، فقد تشددنا في هاته المسألة وهجمنا عليها هجوما عنيفا، ثم خرجنا وتركناه يغلي كالمرجل.
ولما خرجنا حدثني صديق أن صاحبنا رئيس عصابة من عصابات «الشطح والردح والبندير».
الخميس 6 فيفري 1930
صور كثيرة متباينة في هذا اليوم وليلته. «... ولكن أين هو الفكر الذي يستطيع استحضارها؟ فإنني ما شرعت أكتب، وكلفت ابن عمي الصغير أن يسخن سحورنا على البابور حتى اضطربت حركاته، وتلعثم لسانه، فلم يستطع أن يبين».
فقلت له: «ماذا؟»
فقال: «لم أجد البابور».
فقلت: «أنسيته خارج البيت؟»
فقال: «كلا بل أدخلته». - وكيف فقد إذا؟ أسرقته الشياطين؟ إنك نسيته خارجا يا مجنون. - كلا بل أدخلته. - لا تقل أدخلته يا كلب. وهل سرقته الجنة لو كنت صادقا؟ اذهب وابحث عنه خارجا علك تلفيه.
فخرج الصبي، وقد أعمى النوم والخوف بصره، فلم يجده وعاد، والخيبة تغشى وجهه، فسألته: هل وجدته؟
فقال بانكسار: «كلا. ولكنني أدخلته والله». - اسكت يا كذاب!
وظل صامتا وظللت أفكر. ثم اندفعت عليه ضربا وشتما في ثورة الغضب العنيف. ثم أفاق أخو الخطيبة، فأعطيته حقه من الشتم والتقريع، ثم سكت سكوت الغاب إثر العاصفة وظللت كذلك حينا. ثم التفت إلى أخي الخطيبة، وأمرته أن يذهب إلى فلان ليأتي ببابوره. فما خرج حتى ولى قائلا: ولماذا أستعير من الناس وهذا بابورنا. فقلت: هل وجدته؟
قال: نعم.
فالتفت إلى الآخر قائلا: أيها الأعمى! أرأيت كيف أنك أدخلت البابور وأخرجته الشياطين إلى الخارج؟
فلم يجب بحرف.
وهكذا شاء الشيطان أن يهزأ بنا قليلا، فهزأ ما شاء له الهزء: «أنسى الصبي إدخال البابور، ثم أعماه أن يراه لما ذهب للتفتيش عنه، ثم أبداه لما يئسنا، واعتمدنا على سواه».
والآن وقد فرغت من هذا الحادث العارض الذي أوقفني عن متابعة الكتابة في مذكرة اليوم ورسم ما فيه من رسوم، فلآخذ فيما جلست لكتبه:
بعد أن غادرت الإدارة، وودعت ابن عمتي، رجعت وجلست على المنضدة وأخذت أكتب ... وجاء الأخ زين العابدين «وأنا أكتب» فحياه أخي، واقتحم البيت، ولما رآني أكتب وقف في الباب يتأملني. ولكنني لم أنتبه له رغم وقوفه وتحية أخي إليه. ولم أشعر إلا وصوت يقول: «لا أراك إلا تكتب أدبا أليس كذلك؟»
فالتفت، فإذا به الأخ زين العابدين.
فقلت له: لا أكتب أدبا الآن، ولكنني أكتب مذكرات.
فقال: وهل تجد الوقت الكافي لكتابتها؟
فقلت: أجده يوما، ولا أجد آخر.
ثم جلسنا وتحدثنا أحاديث شتى. وكان من بين ما حدثني به «أن المحدث» و«يعني به نفسه» قد شرع في قصتين رائعتين: إحداهما تتوقف على زورة إلى نابل حتى يرى الشخص أو ينظر العذارى اللواتي يسنين الماء في البساتين. والأخرى تتعلق بفكرة الزواج، والمرأة التي كثيرا ما كانت سلعة تباع في سوق المطامع والشهوات، وخلاصتها.
نامعلوم صفحہ