المحب أراد به نفسه، والكناية في أبردها لنار الهوى، وكأن هذا البيت علة في سؤاله الحاديين الوقوف بالمحبوبة.
يقول: إن في فؤادي نارًا من هواي إياها، والجحيم في جنبها أبردها، يعني أن أبرد نار الهوى مثل أحر نار الجحيم؛ وقصد بذلك تعظيم الهوى، وقد ورد الخبر بأن نار جهنم تزيد على نار الدنيا بسبعين درجة، فإذا كان أبرد هذه النار تزيد على أحر تلك، فلا مبالغة فوقه.
شاب من الهجر فرق لمته ... فصار مثل الدمقس أسودها
الفرق: موضع الفرق هاهنا، وفرق الرأس: وسطه، واللمة: ما ألم بالمنكب من الشعر، التي هي أفعل من كذا، وهو الأشد سوادًا، وإنما أراد به الاسم أي مسودها، يعني اللمة.
يقول: شاب شعر رأسي من ألم الفراق! لا من الكبر في السن، حتى إن الشعر الأسود صار كالحرير الأبيض. وإنما خص موضع الفرق؛ لأن ذلك في قمدم الرأس، والعرب تزعم أن ابتداء الشيب إذا كان منه كان فيه دلالة الكرم، وإذا كان من جهة القفا كان فيه دلالة اللؤم، وهذا البيت مثل قول الآخر:
وما شاب رأسي من سنين تتابعت ... علي ولكن شيبتني الوقائع
والأصل فيه قوله تعالى: " يومًا يجعل الولدان شيبًا ".
بانوا بخرعوبةٍ لها كفلٌ ... يكاد عند القيام يقعدها
الضمير في قوله: بانوا لأصحاب العير، أو الحداة، والخزعوبة: الجارية الناعمة الجسم، اللينة العصب، الطويلة.
يقول: بانوا بجارية خرعوبة عظيمة العجز، حتى إنها من كبر كفلها يقرب كفلها عند القيام من أن يقعدها ويلقيها. ومثله لأبي العتاهية قوله:
بدت بين حورٍ قصار الخطا ... تجاهد بالمشي أكفالها
ربحلةٌٍ أسمرٍ مقبلها ... سبحلةٌٍ أبيضٌٍ مجردها
الربحلة: الضخمة الحسنة الخلق، والسبحلة: الطويلة العظيمة. وقيل: السمينة اللحيمة. ومقبلها: أراد به شفتها، لأنها موضع القبلة في الغالب، ويستحسن فيها السمرة، وقيل: أراد وجهها وسوالفها، لأن ذلك مما يقصد بالقبلة كالشفة، ويكون وصف ذلك بالسمرة تنبيهًا على أنها عربية؛ لأنها الغالبة على العرب، وهي أحب ألوان النساء عندهم، والمجرد: قيل أراد به سائر بدنها، والمستحسن فيه البياض. وقيل: أراد به ما جرت العادة بتجريد في الغالب: كالوجه، والعنق واليد والرجل. فيكون قد وصف جملة البشرة بالبياض، والغرض وصف المرأة بأنواع الحسن، ليعذر في حبه لها وشغفه بها.
ويجوز في سبحلة وربحلة الجر عطفًا على خرعوبة والرفع على أنه خبر ابتداء محذوف فكأنه قال: هي ربحلةٌ وهي سبحلةٌ.
يا عاذل العاشقين دع فئةً ... أضلها الله كيف ترشدها؟!
الفئة: الجماعة، وأراد بها العشاق. وقوله: أضلها الله: أغراها بالضلال، ووجدها ضالة، والظاهر أنه متعدى ضل والمعنى: أنها همت بالضلال فأضلها الله، والإرشاد: ضده.
يقول: دعهم عن العذل على العشق، فإن التمادي فيه ليس منهم، حتى ينفع عذلك فيهم، إنما هو من الله تعالى، أضلهم بالعشق عن سبيل السلوة، فكيف ترشدهم إليها؟! أو أوجدهم ضالين عن سبيل الرشاد والسلو.
ليس يحيك الملام في همم ... أقربها منك عنك أبعدها
يحيك بضم الياء أفصح، وجاء: حاك يحيك، والهمم: العقول والعزائم.
يقول: ليس يؤثر الملام في همم، وهي همم العشاق. أقربها في ظنك أيها العاذل من العمل، أبعدها عنك في الحقيقة، وعلى هذا الهمم: هي العزائم ويجوز أن يراد بها العقول.
فيقول: إن العشاق لا عقول لهم، والعذل إنما ينفع لمن له عقل، فلا وجه إلى ملامهم، وروى: ليس يحيك الكلام.
وسئل المتنبي عن قوله: أقربها منك عنك أبعدها فقال: أقربها منك سمعًا وأبعدها عنك طاعةً.
بئس الليالي سهدت من طربي ... شوقًا إلى من يبيت يرقدها
سهدت بالدال، لأنه لا يستعمل إلا في العشق. والسهر عام. والطرب: الخفة في فرح أو حزن، وأرادها هنا ما يكون من الحزن، ويرقدها: أي يرقد فيها، والهاء ترجع إلى الليالي.
يذم الليالي التي سهر فيها حزنًا على المحبوبة؛ لأنها ليالي المحنة، لمفارقتها من وجهين: أحدهما من حيث الشخص، والثاني أنها لم تقابله في المحبة فتسهر كسهره في تلك الليالي، ولا ساعدته على سبيل المجاملة، وقوله شوقًا: نصب لأنه مفعول له، ويحتمل أن يكون مصدرًا واقعًا موقع الحال.
1 / 3