معجز أحمد
اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي
اصناف
بلاغت
يقول: أنا أظهر لك أني أنظر إلى الشطرنج وليس كذلك، فإني أنا أتأمل فيك، وأتمتع برؤيتك، وأنظر في أفعالك، وقيامي بين يديك خدمةً لك؛ لتأمرني بشيء فأمتثل أمرك.
سأمضي والسلام عليك مني ... مغيبي ليلتي، وغدًا إيابي
روى: وعدي إيابي. يستأذنه في الانصراف.
يقول أغيب ليلتي هذه لا غير، وغدًا أعود إليك.
قال ابن جنى: أنا اتهم هذه القطعة، ولم أقرأها عليه وكلامه عندي أجود من هذا.
وأخذ الشراب من أبي الطيب، وأراد الانصراف، فلم يقدر على الكلام. فقال هذين البيتين وهو لا يدري أنه قالهما، فلما أصبح أنشده إياهما ابن الخراساني وهما قوله:
نال الذي نلت منه مني ... لله ما تصنع الخمور
وذا انصرافي إلى محلي ... اآذنٌ لي أيها الأمير؟
تقديره: نال مني الذي نلت منه.
يقول: شربت الخمر من عقلي ما شربت أنا منها. وقوله: لله ما تصنع الخمور عجبًا من صنيع الخمور بالنا.
ثم قال: إأذن لي أيها الأمير في الانصراف إلى منزلي، فإني رأيت الخمر تغلب الإنسان.
وعرض عليه من غده الصحبة فقال ارتجالًا يعتذر عن الصبوح من غدٍ:
وجدت المدامة غلابةً ... تهيج للمرء أشواقه
تسيء من المرء تأديبه ... ولكن تحسن أخلاقه
قوله: تهيج للمرء أشواقه. أي تهيج ما سكن من أشواقه. وقوله: تسيء إلى آخره المراد به: من حيث تحمله على الجهل، وطرح الحشمة وإظهار الوقاحة، ولكن تحسن أخلاقه من حيث تورث الفرح وتحمل الإنسان على السخاء. ومع ذلك لا يفي خيرها بشرها.
وأنفس ما للفتى لبه ... وذو اللب يكره إنفاقه
روى: مال الفتى وما للفتى.
يقول: أعز شيء في الإنسان عقله، والخمر تفسده والعاقل يكره تضييع عقله وإنفاقه.
وقد مت أمس بها موتةً ... وما يشتهي الموت من ذاقه
يقول: لما شربتها أمس فقدت حسي وصرت إلى حال الموت! ومن ذاق الموت لا يشتهيه مرة أخرى.
ذكر هذه الأبيات استعفاءً من شرب الشراب.
وقال يصف لعبةً وكان لبدرٍ جليسٌ أعورٌ يعرف بابن كروس، يحسد أبا الطيب لما كان يشاهده من سرعة خاطره؛ لأنه لم يكن يجري في المجلس شيءٌ إلا ارتجل فيه شعرًا، فقال لبدر: أظنه يعمل هذا قبل حضوره ويعده معه، ومثل هذا لا يجوز أن يكون، وأنا أمتحنه بشيءٍ أحضره للوقت، فلما كمل المجلس ودارت الكئوس استخرج لعبةً قد استعدها، لها شعرٌ في طولها، تدور على لولب، إحدى رجليها مرفوعةٌ، وفي يدها طاقةٌ ريحانٍ، تدار فإذا وقفت حذاء إنسانٍ شرب ووضعها من يده، ونقرها فدارت فقال المتنبي:
وجاريةٍ شعرها شطرها ... محكمةٍ نافدٍ أمرها
قوله: محكمة أي جعل الحكم لها. وشطر الشيء: نصفه.
يقول: إن شعرها على مقدار نصفها، وهي مقبولة الحكم، وأمرها نافذ؛ لأنها كانت إذا وقفت عند إنسان شرب قدحًا، فكأنها حكمت عليه بأن يشرب.
تدور وفي يدها طاقةٌ ... تضمنها مكرهًا شبرها
أراد بالشبر: اليد. يعني أن في يدها ريحان، وأن يدها تضمنته مكرهة؛ لأنها لا اختيار لها.
فإن أسكرتنا ففي جهلها ... بما فعلته بنا عذرها
تقديره: ففي جهلها عذرها بما فعلته بنا.
يقول: إن كانت حكمت علينا بالشرب حتى سكرنا، فإن جهلها بما فعلته بنا، عذرها لنا.
وأديرت فوقفت حذاء أبي الطيب فارتجل يصف اللعبة نفسها:
جاريةٌ ما لجسمها روح ... بالقلب من حبها تباريح
التباريح: جمع التبريح، وهو شدة الشوق. وجارية: رفع؛ لأنها خبر ابتداء محذوف. أي هذه جارية.
يقول: إنها وإن كانت غير ذات روح، فإن حبها قد برح بقلبي.
في يدها طاقةٌ تشير بها ... لكل طيبٍ من طيبها ريح
سأشرب الكأس من إشارتها ... ودمع عيني في الخد مسفوح
الواو في قوله: ودمع عيني واو الحال.
يقول: إن رائحة كل طيب مكتسبٌ من هذه الطاقة التي في يدها، ثم قال: أشرب الخمر بإشارتها، ودمع عيني في تلك الحال مصبوب؛ لأن كل من شرب الخمر تذكر حبيبه فيهيج له من ذلك الذكر الحزن، فيؤدي إلى البكاء.
وأدارها فوقفت حذاء بدرٍ فقال:
يا ذا المعالي ومعدن الأدب ... سيدنا وابن سيد العرب
أنت عليمٌ بكل معجزةٍ ... ولو سألنا سواك لم يجب
أهذه قابلتك راقصةً ... أم رفعت رجلها من التعب؟!
1 / 138