وضعت القوانين والنظامات القضائية في الأزمان الماضية لحماية الفرد المستقل بذاته عن التأثر بحياة الجماهير، أما قضاء عصرنا الحاضر ونظاماته الكثيرة فلم توضع إلا لحماية شركات الاحتكار وأصحاب رءوس الأموال حماية لا خسران فيها إلا على الفرد وعلى استقلاله الذاتي، وما نظام النقابات الحديث الذي أوسعت له القوانين صدرها في العصر الأخير إلا محنة جديدة من محن المدنية، وما تبدل القانون منها بشيء إلا الانتقال من حماية جماهير الشركات إلى حماية جماهير العمال، فالنتيجة حماية الجماهير والقضاء على استقلال الفرد.
ثم ارجع معي إلى النظامات السياسية وقارن بين نظامات العصر القديم والعصر الحديث، قارن بين مشروع وسياسي كسولون، وهو رجل جمع بين العلم والحكمة وبين العمل على سياسة الشعوب بما تمليه عليه حكمته وما يوحي إليه به علمه، وبين سياسي انتهازي من سياسيي العصر الحديث لا يهمه شيء في الوجود إلا أن يعلو منصة الحكم ويظل ما استطاع عاملا على أن يحافظ عليها بكل طريق ممكن. إن سياسي العصر الحديث لا يحتاج إلى علم ولا إلى حكمة أكثر من أن يقف موقف الجاهل القانع بأن تسيره العناصر، غير عالم إلى أين تجتاحه ولا في أية مهواة سوف تلقي به. هو لا يريد أن يعلم من شيء ولا يهمه أن يعرف في العالم شيئا إلا أن يدرس الحالات القائمة من حوله ليعرف من أين سوف تهب رياح الجماهير في الغد ليتقيها بما يستطيع أن يتقيها به من كذب إلى خداع إلى مواربة إلى قوة إن هيأت له الظروف أن يقمع شهوة الجماهير بقوة سلاحه.
لا يعلم سياسي العصر الحديث أن مهمته إرشادية تعليمية، ولا يعلم أنه مسئول عن مصالح الجماهير، ولا يفقه أن الجماهير لا تعقل بل تشعر، ولا يعرف أن استقلال رأيه والتضحية بمصالحه أول ما يطلب منه كمرشد ومعلم معا، لا يعرف شيئا من هذا، هو بعيد عن حكمة الفلسفة، بعيد عن إرشاد العلم، فهو الجاهل بحق ما عليه من المسئولية.
وهكذا الحال إذا تتبعت بقية نظامات الاجتماع على صورتها المدنية الحديثة، مدنية الجماهير، فإنك تجد أن الفرد قد دالت دولته لتقوم عليها دولة الجماعات المنظمة الخاضعة في نظامها لمجموعة من المبادئ الاستبدادية لا أثر لها في شيء إلا في القضاء على حرية الفرد، ذلك الميراث الذي ورثناه عن المدنيات القديمة ولم نحسن القوامة عليه.
على أنك مهما فكرت ومهما أجهدت نفسك في البحث لا تستطيع أن تنظر في مستقبل الإنسان نظرة يرضى عنها معتقدك العلمي ويطمئن إليها ضميرك كفرد تقدس حرية نفسك وحرية غيرك، إلا إذا تبدلت جماعات المدنية الحديثة من نظامها الحاضر السائدة فيه روح الجماهير بنظام يكفل حرية الفرد وينمي كفاياته ومواهبه. على أنني أكاد أتطير إلى حد القول بأن الزمان الذي كان في مستطاعنا أن نرجع فيه عن استعباد الفرد لسلطة الجماهير قد انقضى أجله، وكما بدأ انحطاط زواتوسترا عند «نيتشه» بهبوطه من الجبل الموحش إلى عالم المدنية الإنسانية، كذلك أعتقد أن انقلاب الحال من استقلال الفرد في المدنية القديمة إلى استبداد الجماهير في النظام الاجتماعي أول مدرج سوف تنزلق من فوقه قدم المدنية إلى مهاوي الفساد والسقوط.
القاهرة - 1926
يعقوب صروف
صورة وذكرى - أثره في علم البيولوجيا (1) صورة عامة
بعد أن توفي اسبينوزا هب أصدقاؤه إلى نشر ما خلف من مؤلفات بعد موته، وكان كتابه «الأوبرا بوستيوما» أول ما وقع عليه اختيار الأصدقاء ليطبع وينشر في الناس، ولم يكد ينشر هذا الكتاب حتى هب اللاهوتيون خفافا وثقالا يناهضون آثار الراحل العظيم، ولم يأت يوم 4 فبراير سنة 1678 حتى صب اللاهوتيون لعنتهم على الكتاب زاعمين أنه كتاب «تجديف لم يظهر له من مثيل منذ أن خلق العالم حتى اليوم.» ولم يمض على هذا الحادث قرنان من الزمان حتى تهيأت النفوس وأعدت العقول لأن يقام لاسبينوزا أثر تذكاري كان من حسن الحظ أن يدشنه «رينان» أحد عظماء القرن الماضي ومن أكبر مؤرخي النصرانية، مشيرا بإصبعه إلى النافذة التي كان يطل منها اسبينوزا على ميدان بافلجوين قائلا:
لعل الله كان أقرب إلى هذه النافذة منه إلى أي مكان في الأرض.
نامعلوم صفحہ