مضى الأب في ذلك السبيل الذي سيسلكه كل حي، ومضى الولد في سبيل كثيرا ما سلكه من قبل العديد الأوفر من أبناء آدم وحواء، سبيل الغواية والهوى، سبيل الشهوة والانفعال.
2 - كيف تستطيع أن تعيش يا بني في هذه الوحدة الأليمة؟ وكيف لا تفكر في أن يكون لك زوجة يسكن إليها قلبك، وتبث لها أحزانك، وتدبر من أمرك ما أنت عاجز عن تدبيره؟ - ما لي وللزوجة يا أماه؟ وما لي ولذلك السجن الأبدي الذي ألقي بنفسي فيه مختارا؟ وما لي ولتكاليف الزوجة وسياستها، وأنت تعلمين أن نفسي قد فطرت طماحة للحرية المطلقة، وثابة إلى الملاذ؟ وإذا كان الزواج مجرد شهوة تقضى، فالتنقل خير من العكوف، وإذا كان تدبيرا لأمر أنا عاجز عن تدبيره، فإني تارك لك تدبير ذلك الأمر. - وهل أنت ضمين ببقائي إلى ما شاء الله، وأنا أم بلغت من الكبر مبلغا لا آمن فيه غدرات الزمان بالكهول؟ وبعد كل هذا، أفتعتقد أن كل متزوج مسلوب الحرية أحمق لأنه ألقى بنفسه في سجن الزواج مختارا؟ - بالله عليك يا أماه لا تكثري على سمعي من هذا الكلام؛ فإني أمقت الزواج كل المقت، بل أمقت كل الآباء لأنهم أزواج. - سمعا وطاعة يا بني، كفى عندي أن أراك بخير، كفى عندي أن أجدك فتيا قويا وضاح الجبين باسم الثغر، وأي شيء أطلب من هذه الدنيا غير هذا؟ أي شيء غير هذا تطلبه أم لولدها الذي خرجت به من كل ما في هذه الدنيا الواسعة في ملاذ الحياة؟ - بورك فيك يا أماه! فذلك ما ينتظر منك ولدك الوحيد في هذه الدنيا، ما لي ولأبناء آدم وبنات حواء؟ ألم تسمعي ما قال فيهم بشار الضرير:
إبليس خير من أبيكم آدم
فتنبهوا يا معشر الفجار
إبليس من نار وآدم طينة
والأرض لا تسمو سمو النار
وكرت على هذا الحديث السنون، فما زاد «حنفي بك» إلا ترديا في حمأة الشهوات، وما زادت أمه إلا إمعانا في وحدتها واسترسالا مع أحزانها. •••
أصبحت الأم ذات يوم وأزمة الصدر تكاد تزهق روحها، فأسرع إليها ولدها في خماره ونشوئه، ولكنه لم يكد يرى حال أمه حتى أفاق للدنيا الحافة به، وتواردت إلى ذهنه الخواطر سراعا متكاثرة، وتمثل له شبح اليتم أما وأبا، فجزع وآلمه الحزن وتملكه الأسى، ذلك أنه لفرط ما أمعن في شهواته كان قد فقد أكثر قوى العقل، ولم يبق له إلا بقية من وجدان قذفت بالدمع إلى عينيه، ففاض هتونا.
راعه شبح اليتم؛ لأنه كان كالطفل يجزع لغير حقيقة، أو هو يجزع من حقيقة لا بد منها، ولم يكن قد قدر للأم أن تموت في تلك الساعة، بل كان أجلها مرهونا إلى وقت قريب، ولكن شاءت الأقدار أن تملكها أزمة الصدر وأن يجزع ولدها ليتكون من مجموع ذلك ظرف تشقى به إحدى بنات حواء، فإن الأم لم تلبث أن تستفيق حتى نسيت ما كانت فيه وبدأت تفكر في أمر ولدها الوحيد، فحادثته في حالها وفي مصيره من بعدها، وكانت ثورة الشعور لا تزال مضطرمة في قلبه، فأذعن لإرادة أمه، وقبل أن تكون له في الحياة شريكة تحمل أحزانه كاملة.
وشاء القدر المحتوم أن تكون زوجته من بنات العظماء، فإن «هنية» بنت النعمة وربيبة الجاه انتقلت من بيت أبيها إلى بيت زوجها، فما رأت إلا أما مشرفة على الموت، وما رأت إلا زوجا هدمته السنون، وحفرت الشهوات تحت قدميه هوة سحيقة من الموت الأدبي، فلاح كالكهل الفاني، وأنه كان لا يزال في ريعان شبابه وميعة صباه؛ فأخذت حرارة قلبها التي بعثت في نفسها الآمال كبيرة تهبط شيئا فشيئا فانية في ثلج ذلك المشيب الذي حفت بها أسبابه. ولكن ما كادت عوامل اليأس تدب في هيكل الأمل الذي ملأ صدرها، حتى شعرت ذات يوم بشيء يختلج في أحشائها، فانتفضت مناجية نفسها: «أي طفلي المعبود، ليعش الأمل في صدري لكي أعيش من أجلك.»
نامعلوم صفحہ