خذ لذلك مثلا من أوروبا في القرون الوسطى، فإن استبداد نظام القطائع بالأفراد وبالشعوب وتوالي كوارث الحروب والثورات على الناس، قد طبع على نفوسهم بخاتم من الحزن والانقباض تراه ظهر متجليا لا في الشعر ولا في الأدب وحدهما، بل تعدى إلى أكبر مظاهر الحياة دلالة على اتجاه المشاعر الإنسانية، ظهر متجليا في نسق البناء، فإن الناس قد عكفوا على الفن الغوطي، وهو فن في البناء ونسق من الألفة الذوقية في التشييد، ولا يبعث في النفس إلا الحزن والأسى، وهو بعقوده المنحرفة الزوايا وضخامته وبساطة شكله لا يبعث في الروح من أثر الإحساس بالجمال شيئا غير مقرون بشعور من الحزن عميق يملأ النفس رهبة وعظة. والغالب أن هذا الفن قد ورث في أوروبا عن القرون الأولى عندما كان الناس في خوف مستمر على حياتهم من غارات أعدائهم، وعندما كان أمراء القطائع لا يعيشون إلا في قلاع يسمونها القصور تجاوزا.
وأي شيء يبعث في النفس من شعور الانقباض والألم من منظر قلعة شيدت على أن تكون رمزا لانحطاط الخلق الإنساني وما فيه من نزعة إلى القتل وحب الحطام، وهي بضخامتها وقوتها ليست إلا درعا يدرعه الأحياء حذر اختطاف نفوسهم من بين جنوبهم بين آونة وأخرى؟ فلما غشت أوروبا غياهب الاستبداد في القرون الوسطى وامتدت يد الاستبداد حتى إلى الفكر الكامن وخطرات النفوس، تتخذ ذريعة للقتل والإحراق على يد محاكم التفتيش، وضاقت الحياة بما وضع المؤمرون على الناس من نظامات وعقائد ذرعا؛ تجلت حاسة الانقباض والحزن في نسق البناء، وأي نسق أبعث في النفس على الشعور بالحزن من نسق البناء الغوطي؟!
كذلك الحال إذا نظرت في فن البناء العربي، تجد أن فيه جمالا وليس فيه ألفة. وهذا أمر يدل واضح الدلالة على أن مدنية كل شعب إنما تستمد من حالات ذهنه الكامن، فإنك إذا رجعت إلى حياة العرب في فيافيهم وبواديهم، عرفت لماذا يكون في فن البناء العربي جمال، وليس فيه ألفة.
لم يكن للعرب قبل أن يفتحوا الدنيا المعروفة لعهدهم نسق بناء خاص؛ لأنهم عاشوا في الصحاري تحميهم سيوفهم وتأويهم خيوشهم. غير أن حاسة الجمال التي ورثوها عن عيش البادية، سماء صافية الأديم وصحاري منبسطة إلى منتهى الأفق والهواء يلفح وجوههم وجسومهم من أينما هب وحيث ثار صبا أو جنوبا؛ قد غرست في نفوسهم نزعة إلى حب الجميل في ذاته. غير أن حياتهم لم يكن فيها من الألفة ما يغرس في العقل كفاءة على تكوين نسق خاص يخرج ألفة تامة في شيء يلقى إليهم ليتعهدوه بالتحوير والتكييف. فلما فتحوا العالم أخذوا قطعا من فن البناء كانت ذائعة في مجموع المدنيات التي ورثوها عن الرومان ومصر وفارس وبابل، وأخرجوا منها نسقا خاصا للبناء العربي فيه كل موحيات الجمال، إن أخذ قطعا ونظر فيه أجزاء، ولكنه في المجموع بعيد عن الألفة المتبادلة بين أجزائه، والسبب في هذا أن حاسة الجمال التي ورثوها من بيئتهم البدوية الأولى قد ظهرت في اختيار النسق، كما انعدمت فكرة الألفة تماما في الوضع؛ لأنهم عدموا فكرة الألفة في حالات حياتهم الأولى. •••
ثم ارجع معي قليلا إلى الشعر الجاهلي وطف بنظرة أولية في المعلقات وفي قصائد تعتبر في القدر الثاني بعد المعلقات، فإنك تجد أن كل شاعر من شعراء المعلقات ومن عاصرهم قد طبع بطابع عصره؛ فظهرت بوادر فكرة الكامن ومشاعره جلية في شعره. خذ أولا عنترة العبسي وقد عاش في زمان اكتنفته فيه الحروب ومساجلات القبائل، فتراه في حماسياته كما هو في تشبيهه كما هو في فخره، صورة مكبرة من صور الجندية في العصر الجاهلي؛ خذه أولا في حماسياته إذ يقول:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر
للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما
والناذرين إذا لم ألقهما دمي
إن يفعلا فلقد تركت أباهما
نامعلوم صفحہ